وسط موجة الصّقيع التي تشهدها سوريا، في توقيت غير متوقع، بحكم أنّنا أصبحنا أقرب إلى الدخول في فصل الربيع؛ أخجل حقاً من تزاحم كل هذه الأعياد: عيد الأم، ويوم الشّعر العالمي، ويوم السّعادة العالمي، وعيد ميلاد نزار قباني، وعيد النوروز، وعيد الخبز الفرنسي، فأنا عاجزة عن أي شعور بالبهجة وأطرافي متجمدة حرفياً، وسط غياب شبه كلّي للكهرباء طوال اليوم، وعدم توافر مواد أخرى تساعد على التّدفئة سوى في السّوق السّوداء، الأمر الذي يعني اقتطاع لحم من جسدك ومن ثمّ بيعه، لتأمين النّقود اللازمة لتأمين المحروقات أو الغاز من هذه السّوق، التي تليق بها حقاً صفة السّوداء.
أمهاتنا لسنَ بخير، وهذا يُلغي العيد ومعناه وبهجته.
عيد الأم
استيقظت عند السابعة صباحاً، دخلتُ المطبخ رغبةً في إعداد كوب من الشّاي الأخضر السّاخن، ونيّتي الحصول على القليل من الرّفاهة والدّلال قبل البدء بدراستي، فغداً أول امتحان لي في سنة التّخرج، في كلية التّرجمة/ قسم اللغة الإنكليزية، لأفاجأ بأنّ جرة الغاز التي نستخدمها بكثير من الحرص على مدار شهر كامل أو أكثر بقليل، قد نفدت.
عدتُ إلى غرفتي أجرُّ ذيول خيبة الرّفاهة والدّلال، مما دفعني لأقضي طوال يومي في غرفتي، خجلاً من النّظر في عيني أمّي ويديها المتجمدتين من استخدام الماء البارد وهي تؤدي مهامها المنزلية كربّة أسرة!
ماذا يعني أن تقول لأمّك: "كل عام وأنتِ بخير"، ويداها متورمتان بفعل الصّقيع، وأنت عاجز بالفعل عن أن تدفئهما بقبلة أو مجاز، لأنّ تأمين أي وسيلة تدفئة ضرب من الخيال وسط ارتفاع الأسعار الأسطوري في السّوق السّوداء، والكهرباء شبح، والبطاقة الذّكية لا تُعلن عن دورك لاستلام أسطوانة غاز إلّا بعد ما شاء اللّه من الزّمن؟
حقيقةً، نحن هنا أضعف من أن ننظر في عيون أمهاتنا الحزينة، لنحتفل بعيد وهمي، في حين نعلم ونعيش ونشعر بحجم الآه في قلوبهن وقلوبنا، ونرى بشكل جَلي التّشققات في أكفهنَّ وأرواحهنَّ المرهقة بفعل كبت الحزن والهمِّ والقلق والخوف علينا وعلى الغد، الذي بتنا جميعاً نعلم يقيناً أنّه أصعب من سابقه، إذ اختبرنا ذلك على مدار سنين.
أمهاتنا لسنَ بخير، وهذا يُلغي العيد ومعناه وبهجته.
ماذا يعني أن تقول لأمّك: "كل عام وأنتِ بخير"، ويداها متورمتان بفعل الصّقيع، وأنت عاجز بالفعل عن أن تدفئهما بقبلة أو مجاز، لأنّ تأمين أي وسيلة تدفئة ضرب من الخيال وسط ارتفاع الأسعار الأسطوري في السّوق السّوداء، والكهرباء شبح، والبطاقة الذّكية لا تُعلن عن دورك لاستلام أسطوانة غاز إلّا بعد ما شاء اللّه من الزّمن؟
عيد الشّعر العالمي
مدينةٌ أنا للشّعر حقاً، إذ لطالما ساعدني على الهروب من الواقع والتّحليق في سماء المجاز، سواء حاولت كتابته أو قرأت للشّعراء العظماء مثل امرئ القيس والمتنبي وأبي النّواس والجواهري والسّياب ونازك الملائكي وفدوى طوقان وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وأدونيس وسركون بولص وبسام حجار ورياض الصالح حسين ولوركا وبابلو نيرودا وبودلير وسان جون بيرس ورامبو ؛ لكن للأسف لا مجاز أرباب الشّعر العمودي، ولا مجاز أرباب شعر التفعيلة، ولا مجاز أرباب قصيدة النّثر، استطاعوا أن يعدّلوا إيجاباً حرارة الجو بما يساعد على بَعث القليل من الحرارة في أطراف أصابعي المتجمدة التي خانتني حتى في كتابة ومضة واحدة أحتفي بها بالشّعر في عيده.
الشّعر لا يمكن أن يكون وسيلة تدفئة عندما تكون درجات الحرارة ما دون الصّفر، وهذا يُلغي إمكانية الاحتفال بمقامه العالي في عيده العظيم.
أصبح واضحاً أنّ هذا عيد السّعادة لا يخصُّنا نحن الشّعوب المنكوبة نفسياً وجسدياً ومادياً بفعل تكرار الحروب والأزمات والمنعطفات التّاريخية التي ليست لها نهاية.
يوم السّعادة العالمي
نعم أصبح للسّعادة عيد، تحتفي بها الشّعوب التي تُعاني من فرط الرّفاهة، والتي تمتلك كلّ أدوات تطوير الذّات نفسياً وفكرياً وروحياً وعلمياً، وتالياً أصبح واضحاً أنّ هذا العيد لا يخصُّنا نحن الشّعوب المنكوبة نفسياً وجسدياً ومادياً بفعل تكرار الحروب والأزمات والمنعطفات التّاريخية التي ليست لها نهاية. الشّعوب التي في قمة الرّفاهة لديها ساعة كهرباء متواصلة، واتصال جيد بالإنترنت، والحصول على حمام ساخن ولو لمرة واحدة في الأسبوع، والنّوم في فراش دافئ، أو الحصول على كوب شراب ساخن صباحاً أو حتى في المساء.
أن تحيا وأنتَ تلهث وراء حقوقك الطّبيعية ولا تحصل عليها إلّا بشَقِ النفس، يُلغي حتماً معنى السّعادة، وتالياً عيدها؛ إذ كيف يمكن لكَ أن تحتفل بشيء قد فقدتَ معناه؟
عيد ميلاد نزار قباني
أحبُّ هذا الرّجل السّابق لعصره، والمُتحرر من قيود القبيلة، وتقاليد العشيرة، وأوهام الطّائفة وبراثن ثقافة الشّرق الذّكورية. هذا الرّجل المساند للحركة النّسوية حتى قبل جرأتها في أن تظهر في بلادنا. هذا الرّجل الذي عشق من الكون المرأة ودمشق فقالَ:
هَذي دمشقُ و هَذي الكأسُ و الرّاحُ
إنّي أحبُّ و بعضُ الحبِّ ذَباح
نعم يا حبيبي -يا نزار- لقد ذبحنا البلد الذي أحببناه بكل ما أوتينا من شعور ولا شعور. ذبحنا من الوريد إلى الوريد، تارةً بسكين العتم، وتارةً بسكين الغلاء، وتارةً بساطور السّرقة ونهب خيراته على حساب جوعنا وصحتنا وشبابنا وأحلامنا ومستقبلنا.
نَمْ يا حبيبي أينما أنتَ بسلامٍ و طمأنينةٍ بعيداً عن كل هذا الصّقيع الدّموي والجسدي والنّفسي والجوّي.
نَم قرير العينين، فلا أعياد هنا قد تفوتك!
أحبُّ نزار قباني السّابق لعصره، والمُتحرر من قيود القبيلة، وتقاليد العشيرة، وأوهام الطّائفة وبراثن ثقافة الشّرق الذّكورية. هذا الرّجل المساند للحركة النّسوية حتى قبل جرأتها في أن تظهر في بلادنا. هذا الرّجل الذي عشق من الكون المرأة ودمشق
عيد النوروز
هذا العيد الجميل بمعناه ودلالته، العيد الأشهر لدى أبناء القومية الكردية، يعدّونه يوم ولادة جديدة دحرت الظلم.
كما أنّه يوافق يوم الاعتدال الربيعي، وكذلك عيد رأس السّنة الفارسية.
لكن هل حقاً تمّ دحر الظّلم و قُضيَ الأمر؟
هل حقاً بقي هناك اعتدال ربيعي بعد استخدام الأسلحة الجيوفيزيائية وغاز الكيمتريل لتغيير المناخ وإزاحة الشّتاء على حساب الرّبيع؟
عيد نوروز مبارك يا إخوتي في الإنسانية. لكن دلّوني على الرّبيع كُرمى لعيدكن المقدس، وامنحوني قليلاً من العدل الذي تحقق بعد الظّلم الذي أطفأته شعلة النّار لفارسكم الحر "كاوه".
الآن نحن نحتاج إلى "كاوه" جديد ليصبح للعيد لون الحرية.
هل حقاً بقي هناك اعتدال ربيعي بعد استخدام الأسلحة الجيوفيزيائية وغاز الكيمتريل لتغيير المناخ وإزاحة الشّتاء على حساب الرّبيع؟
العيد الوطني للخبز الفرنسي
يصادف 21 آذار/ مارس أيضاً، العيد الوطني للخبز الفرنسي الشّهي.
يحق للشّعب الفرنسي حتماً أن يحتفل بكل فرح بمناسبة كهذه، وخبزه هو الأشهر عالمياً بأصنافه العديدة والمتنوعة، والتي من أشهرها: خبز الباغيت Baguette وخبز البريوش الفرنسي Brioche وخبز الفيسيل الفرنسي Ficelle وخبز الفوغاسي الفرنسي Fougasse وخبز بين دي كامباني Pain de Campagne والكرواسون والخبز الفرنسي الرّيفي وغيرها من الأنواع التي يُتوّج على عرشها خبز الباغيت Baguette الذي يُعدّ رمزاً للخبز الفرنسي وأيقونةً للثقافة الفرنسية حول العالم.
هنا، في بلد القمح والخيرات، لطالما وقفنا منذ ساعات الفجر الأولى لنحصل على ربطة خبز غالباً لا نستطيع أن نلوكها، حتى تمّت معالجة الأمر بما يُسمى بالبطاقة الذّكية التي تحدّد كمية الخبز التي يمكن الحصول عليها بما يتناسب مع عدد أفراد الأسرة.
هنا لا أنواع للخبز، ولا عيد له.
هنا فقط نكتة تُسمى بالخبز السّياحي، الذي بات يشتريه بعض أبناء البلد الذين يتمتعون بدرجة رفاهة ولا يقبلون أن يتعبوا معدتهم بما يُسمى بالخبز المدعوم.
إذاً هنا، لا أعياد للخبز نحتفل بها.
الشّعر كالأم، هما خبز الحياة وسعادتها وربيعها، لكن بعدما عَظُمَ البرد، وانعدمت الكهرباء، وسُرقت المحروقات، وتفاقمَ الفقر، ومعه تفاقم عدد اللصوص والفاسدين، أولئك الذين لم يتركوا لنا وطناً. ما عاد لنا عيد نحتفل به ونحتفي.
ثمّ يأتيك أحدهم ويقول: "كلّ عام وأنت بخير!".
قد تكون هناك أعياد حقاً، لكن هنا للأسفِ ليس لنا منها نصيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com