شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"لم أكُن جاهزة لأمومتي لكنني صديقة ابنتي الأقرب اليوم"... الأمهات الصغيرات سناً في الغربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 21 مارس 202202:30 م

يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة مقالات وتقارير عن الأمومة في الغربة

اخترتُ أن أكون أماً في مقتبل العشرين قبل أن أنهي شهادتي الجامعية الأولى. كنتُ منذ طفولتي أريد أن أكون أماً. ورغم إدراكي أن هذا لم يكن خيار الكثيرات من البنات، والنساء لاحقاً، كنتُ متمسكة به، ليس بسبب صورة اجتماعية أردتُ تحقيقها ولا بسبب غريزة حاضرة تدفعني إلى هذا الخيار، بل لأنه كان خياراً عاطفياً بحتاً، وحباً للبدايات وللطفولة، ورغبة مني بتكوين عائلتي الخاصة.

ورغم عدم إدراكي الحقيقي لما تحمله الأمومة في مقتبل العشرين من تحديات، كنتُ مندفعة نحوها، وزادت حاجتي إليها عندما توضح أنني كنت أعاني مرضاً مزمناً يمكن أن يمنعني من الحمل والإنجاب. لكنني تمكنت بفضل العلاج، وبطريق المصادفة ربما، أن أنجب طفلي الأول وأنا في مطلع العشرين، وكنت قد فقدت حملي الأول للأسباب الصحية نفسها، مما آلمني بشدة. تعلمت فيما بعد أن لأعضائنا الداخلية ذاكرة، وأنها ستتذكر الحمل وسوف تحاول في المرات القادمة أن تتمسك به إن كان صالحاً للحياة.

مررتُ بتجارب عاطفية وجسدية مبكرة في ذلك العمر، واختبرتُ غربتي الحقيقية عندما وضبت حقيبتي وحقيبة طفلي للسفر، بعد أن أتم أيامه الأربعين. وغادرنا عندها من دمشق إلى البلد الجديد.

مررتُ بتجارب عاطفية وجسدية مبكرة في العمر، واختبرتُ غربتي الحقيقية عندما وضبت حقيبتي وحقيبة طفلي للسفر، وغادرنا من دمشق إلى البلد الجديد.

لم تكن رحلتنا نحو النضج مكتملة، لكننا أخذنا نكبر معاً، فكما تقول إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم" عن الأمومة وأشباحها: "تولد أم جديدة مع ولادة كل طفل". كبرنا معاً، أصبح ابني ساري يتعلم التعبير عن مشاعره من تجاربي، كان يبكي في كل مرة نودع فيها عائلتي بعد كل زيارة أكثر مما أبكي أنا. في إحدى المرات عندما كان في الثالثة وكان يوم وداع عائلتي بعد زيارة مقتضبة، قلتُ له: "أنتَ لن تبكي اليوم، ستكون قوياً، لأنني أريد أن أبكي أنا". وهذا ما حصل، تماسك ساري للمرة الأولى وهو في عمر الثالثة وأمسك بيدي عندما كنت أجهش بالبكاء، وقال لي بصوت هامس مخنوق: "كل شيء سيكون على ما يرام، أليس هذا ما قالته لكِ جدتي؟"

كنتُ أتمرن معه على مشاعر الغربة. وكنا معاً نستكشف ألفة الحياة في دمشق، وغرابتها في بيتنا البارد البعيد في دولة أخرى.

أمومتي الثانية 

عندما أنجبتُ ابنتي، كنتُ في الثامنة والعشرين، أكثر استعداداً لأمومتي، ربما لأنني كنتُ قد نضجت واختبرت الحياة مع طفل وحدي، وربما لأنني كنتُ قد اقتربت من الثلاثين. لكن السؤال الذي يخطر في بالي دوماً: "هل نحن أبداً جاهزاتٌ لأمومتنا؟". لا أعتقد أن العمر يغيّر كثيراً من هذا الشعور، لكن ما يختلف أكثر هو وعينا بمن نكون، وما نريد أن ننجزه. ليست هناك تجربة أصح من الأُخرى، كما أن الأمومة ليست خياراً لكل النساء. ولا يعني نمو أجسادنا وانتظام دوراتنا الشهرية واندفاع هورموناتنا أننا أصبحنا جاهزات، فمن يقرر ذلك؟

تقول هالة صديقتي، التي لا تعيش في نفس البلد مع عائلتها، وهي أم لخمسة أطفال، أنجبت أولهم في مطلع العشرين أيضاً: " لا تفكري كثيراً، إن كنتِ ستأخذين وقتاً طويلاً في التفكير فلن تجرُئي أبداً على اتخاذ قرار الأمومة، ستحدث بشكل طبيعي وستكتشفين خبراتها مع التجربة، لا تشبه تجاربنا بعضها بعضاً، ولن تتعلمي إلا من أمومتك الفريدة". تمكنت هالة بالرغم من كل الضغوط التي تواجهها بعيداً عن عائلتها، من تحقيق أمومتها، ومتابعة عملها كمستشارة نفسية ضمن مدرسة، أمنت لأطفالها الرعاية وأماكن مخصصة لهم في الصفوف المناسبة، وتعد هالة نفسها محظوظة لأن معظم فرص العمل الأخرى لا توفر للأمهات ظروفاً ملائمة، أو رعاية لأطفالهن. 

 الأمومة ليست خياراً لكل النساء. ولا يعني نمو أجسادنا وانتظام دوراتنا الشهرية واندفاع هورموناتنا أننا أصبحنا جاهزات

ترسم المجتمعات صورة مثالية للفتاة التي تتزوج في عمر مبكر وتنجب أول أطفالها، وتصبح أماً في العشرين، وتبدو كأنها الطريقة الصحيحة التي يجب أن تتبعها الفتيات حتى يتم قبولهن ضمن المجتمع، ولا شك في أن ذلك كان شائعاً في سوريا، حتى إن بعض صديقاتي في نهاية العشرين كن يشعرن بأن قطار الزواج والأمومة قد فاتهن، كانت هناك دوماً حدود لطموحات البنات والنساء، وحدود لما هو مرحب به ضمن المجتمع. إذ ترتبط فكرة الأمومة في عمر صغير ارتباطاً وثيقاً بوجود العائلة الكبيرة بشكل مباشر. فالجدة يمكن أن ترعى الأطفال بينما تتم الأم دراستها الجامعية، ومن ثم ستسقبل الحضانة الأطفال عندما تبدأ الأم رحلتها في البحث عن عمل، أو ربما سيعمل الزوج وحده وتبقى الأم في المنزل لرعاية أطفالها.

هذا ما حصل معي. لكنني لم أكن مع عائلتي، فقد أتممت شهادتين جامعيتين دون أن تكون عائلتي قريبة مني، وكنت أثناء دراستي الثانية وحيدة مع طفلين، وقد تمكنت من إتمام كل ذلك وحدي في النهاية، لكنني تعلمتُ خلال رحلة أمومتي الأولى أنني كنتُ لا أزال أحتاج لأمي، رغم أنني أعلم أننا لا نتوقف عن احتياجنا لأمهاتنا، لكنني عندها كنت أريد أيضاً أن أتعلم ما فاتني من خبرات. كنت في بداية العشرين أتصل بأمي من أجل كل شيء، الطبخ، التنظيف، الغسيل، رعاية الأطفال، وكل تفاصيل الحياة تقريباً. وكنتُ أريدها أن تكون بقربي لتقول لي دوماً أن كل شيء سيكون على ما يرام، ولتكون حتى طبيبة لأطفالي، بمعلوماتها التي خلقتها الخبرة الطويلة، وبوعيها بما لم أعرفه أنا من قبل لكنني في النهاية اصطدمت في مرات كثيرة بواقع أنني هنا، سأكون وحدي مسؤولة عن طفلين وعن كل ما يمر بهما دون أمي.

أصبحتُ أنا وابني شريكين عالحلوة والمُرّة

كبرتُ مع ابني ساري، فهو اليوم يشارف الثالثة عشرة من عمره وأنا في السابعة والثلاثين، ويعلمني بالتأكيد أكثر بكثير مما أعلمه أنا، ويشاركني في القرارات التي تخص المنزل، وفي القرارات العاطفية وحتى المادية. هو يعلم أننا بحكم ما مررنا به بعد الانفصال عن والده، والسفر والانتقال إلى مدينة أوروربية باردة، أصبحنا شريكين إلى حد ما، حتى أننا شريكان في رعاية ابنتي الصغرى. ربما يحمله ذلك مسؤولية أكبر من عمره، لكننا كوننا معاً سلسلة سرية لا يمكن فصلها ببساطة، فنحن نكبر معاً وننتقل في المراحل العمرية جنباً إلى جنب.

نحن لا نشتاق فقط لعناق أمهاتنا، لكننا نشتاق أيضاً إلى عناقهن لأولادنا. 

ولأن الزواج في مقتبل العشرين كان شائعاً في سوريا، فقد تزوجتْ مجموعة من صديقاتي في نفس الفترة وأنجبن أطفالهن في المرحلة العمرية عينها، إلا أن السفر كان شرطاً في ذلك الوقت لإتمام الزواج. فالشباب لم يكونوا يجنون ما يكفي من المال لإعالة أسرة في سوريا، وكان السفر خياراً أفضل من أجل تأسيس عائلة، فحلم الزواج والبقاء في سوريا كان حلماً بعيداً جداً لا يمكن تحقيقه في بلد تنعدم فيها فرص العمل والتطور، وقد ازداد الوضع سوءاً بعد قيام الثورة، ولم يعد البقاء في سوريا حتى خياراً متاحاً للكثيرين.

تقول صديقتي فرح، ٣٧ عاماً، المقيمة في بريطانيا: "أنجبت ابنتي عندما كنتُ في الرابعة والعشرين، لم أكُن جاهزة لأمومتي، لكنني تأقلمتُ معها بسرعة كبيرة، ولا أندم في أي لحظة على ذلك الخيار، لكنني أدرك أنني لو أجلت قرار الأمومة لربما تقدمت في مجال عملي أكثر، ولكان طريقي المهني قد اتخذ شكلاً مختلفاً كلياً. هناك الكثير من الأشياء التي لم تسنح لي الفرصة بتحقيقها لذاتي، فأولويات الحياة تختلف تماماً عندما نصبح أمهات. لكنني اليوم أصبحت أفضل صديقات ابنتي. تدهشني كمية المعلومات التي أتعلمها منها كل يوم، نحن نكبر وننضج معاً". اضطرت فرح بعد إنجاب ابنتها الأولى، للالتزام بعملها ضمن شبكة إعلامية كبيرة، وللتضحية بانتظام أوقاتها الشخصية مع طفلتها كي تحقق شروط العمل، فكان عليها أن تتواجد في العمل في فترات ليلة وفترات صباحية بالتناوب، مما قلب كل روتينها ووقتها العائلي. 

إذا سألتني الأمهات يوماً عن سر الأمومة فسأقول دون تردد: إنه الحب فقط. 

احتاجت فرح في مرحلة ما، كما احتجت أنا، إلى وجود عائلتينا قريبتين منا، فأجور الحضانات والمربيات، كما تقول فرح، لا يمكن لرواتب متوسطة أن تتحملها. وهناك شعور دائم بأننا محاصرات بين بناء مستقبلنا، وبين مشاعر الحسرة بأننا نترك أطفالنا أوقاتاً طويلة من أجل العمل، ودون أن يكونوا في أحضان العائلة. في النهاية نحن نترك أطفالنا مع غريبات يتقاضين أجورهن مقابل عدد ساعات محدد من العمل، وفي نفس الوقت لا يكفي عملنا لتحمل تلك النفقات. وليست هناك عائلة قريبة منا تطمئننا كي نتابع أعمالنا مرتاحات، فنحن لا نشتاق فقط لعناق أمهاتنا، لكننا نشتاق أيضاً إلى عناقهن لأولادنا. إنها الحقيقة، كل المشاعر تتخذ جرعة مضاعفة عندما نصبح أمهات.

ومثل فرح، كنتُ أشعر بالحسرة عندما أرى الأمهات الأوروبيات يتركن أطفالهن مع جداتهن ويعاودن عملهن والأنشطة التي برغبن بها. ففي المجتمع التشيكي حيث أعيش، للجد والجدة دورٌ أساسي في تربية الأطفال، وحمل هذه المسؤولية مع الأمهات، لكنني ظللتُ وحيدة مع طفلين دون عائلة ودون دعم حقيقي، كما مرت صديقاتي بتجارب مشابهة في بلدان مختلفة بعيدة عن بلادنا الأصلية.

بالرغم من كل ذلك، تمهلتُ في رحلتي هذه لأقتنص أوقات السعادة، ولأملأ قلبي بطفولة ولدَيّ، ولأكبر معهما، لنكتب حكاياتنا معاً، فالحكايات المتشابهة لا تعجبني، فلكل حكاية أسرارها، رغم أننا نلتقي في النهاية جميعاً عند حقيقة واحدة، فإذا سألتني الأمهات يوماً عن سر الأمومة فسأقول دون تردد: إنه الحب فقط. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard