في صيف 1980، قررت دخول السينما مدفوعاً بالفضول. كان العيد الصغير، وكانت سينما المحلة، في مدينة المحلة الكبرى الصناعية الصاخبة. نجحت في الاحتفاظ بالعيدية من فخاخ السرقة في أتوبيس شركة الدلتا للنقل العام، ولم يكن عنوان الفيلم مهمّاً لفتى يشاهد فيلماً للمرة الأولى، وكان فيلم العيد "امرأة بلا قيد" لبركات. شاهدتُه من مقاعد الدرجة الثالثة، "الترسو"، حيث متعة إطفاء السجائر في ثياب الجالس أمامك، قبل أن أكتشف طقوساً أخرى لمشاهدة الأفلام، بعد أشهر من التحاقي بجامعة القاهرة. سألت عن سينما "كريم"، ولا أعرف عنها إلا أنها في شارع عماد الدين.
كانت السينما تعرض، بمناسبة افتتاحها، فيلم "الطوق والإسورة" عن رواية يحيى الطاهر عبد الله. هنا المقاعد مريحة، في قاعة آدمية، مكيفة الهواء، ولا خوف على القميص من عابث يطفئ سيجارة، ولا خطر على الفلوس القليلة من السرقة.
أحببت يحيى الطاهر عبد الله وخيري بشارة، وترحمّتُ على الأول، ولم أسامح الثاني، إذ خرجت في منتصف الليل منتشياً، أريد أن أحلّق. هذه هي "السينما"، ولم أستطع الطيران. هِمْتُ، وكنا في فجر يوم جديد، وليل القاهرة يغري بالمشي فمشيت. وقادني شارع عماد الدين إلى شارع محمد فريد إلى حواري حي عابدين، وأفقت على حقيقة أنني تهت، وضللت طريقي إلى الجيزة، حيث جامعة القاهرة.
عبر رواية "الطوق والإسورة" دخلت عالم يحيى الطاهر عبد الله (1938 ـ 1981)، ومنه إلى عوالم جيل الستينيات. كان يحيى شاعر السرد في جيله، وغادر رفاقه مبكراً، بوفاته في حادث سير عبثي في ذروة تألقه. كما أدخلني الفيلم عالم خيري بشارة، ومنه إلى عوالم رفاقه ممن أطلق عليهم "تيار الواقعية الجديدة" (محمد خان، رأفت الميهي، داود عبد السيد، عاطف الطيب).
أحببت يحيى الطاهر عبد الله وخيري بشارة، وترحمّتُ على الأول، ولم أسامح الثاني، إذ خرجت في منتصف الليل منتشياً، أريد أن أحلّق. هذه هي "السينما"، ولم أستطع الطيران
أربعة مخرجين أخضعهم التصنيف النقدي إلى طابور لا يضم من يتفق معهم في الرؤى، ويسبق بخطوة (علي بدرخان)، أو يتأخر بخطوة (رضوان الكاشف وسيد سعيد). هؤلاء درسوا الإخراج في معهد السينما، ومارسوا الكتابة الإبداعية والنقدية والسيناريو، وأخرجوا أفلاماً تسجيلية في البدايات.
وفي الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (17 ـ 23 آذار/مارس 2022) حلّ خيري بشارة ضيفاً على قسم جديد عنوانه "الاحتفاء بالبدايات". قبيل انعقاد المهرجان كان المركز القومي للسينما، برئاسة السيناريست زينب عزيز، قد رمم ثلاثة أفلام تسجيلية أخرجها خيري بشارة في السبعينيات، وهي "صائد الدبابات" 1974، و"طبيب في الأرياف" 1975، و"طائر النورس" 1976.
ثلاثة أفلام دالة على انحيازات مخرج يعي أن له رسالة، من دون ادعاءات لفظية أو رفع شعارات. نظم المهرجان عرضاً للأفلام الثلاثة المرممة، بعد ندوة وحفل توقيع لكتاب خيري بشارة "السينما والواقع". مخطوطٌ عمرُه أكثر من أربعين عاماً، فرح به المخرج سعد هنداوي رئيس المهرجان، ونشره كوثيقة.
تحفل المكتبة السينمائية في الشرق والغرب، من اليابان إلى إيطاليا والولايات المتحدة بسيَر لمخرجيها الكبار؛ سير ذاتية وإبداعية كاشفة، تلقي أضواء على الرحلة، وتفسر الميول الذاتية والخيارات الفنية في هذا الفيلم أو ذاك. وأحياناً تغيب السيرة، بشكلها الحكائي التقليدي، وتحضر إشارات مهمة، ملهمة لصناع السينما، كما في "مدونات حول السينماتوغراف" لروبير بريسون. أما المكتبة السينمائية المصرية فتخلو تقريباً من كتابات لمخرجيها. حتى الذين كتبوا سيناريوهات لأفلامهم لم يهتموا بنشرها في كتب. كامل التلمساني، المخرج القادم من جماعة الفن والحرية، العضو المؤسس لحركة السرياليين المصريين في الثلاثينيات، لم يكتب سيرته، ولعله كتبها وفاتتني، ولم يفتني كتابه المهم "عزيزي شارلي" 1958، عن سيرة شابلن العظيم.
المكتبة السينمائية المصرية فتخلو تقريباً من كتابات لمخرجيها. حتى الذين كتبوا سيناريوهات لأفلامهم لم يهتموا بنشرها في كتب
فعلها خيري بشارة وأصدر كتابه "السينما والواقع". عنوان فضفاض، بلا ضفاف، يشبه مؤلفه بروحه الطليقة؛ فلا يعرف القراء ـ من العنوان ـ أي سينما وأي واقع؟ هل السينما الوثائقية والروائية عموماً، أم سينما خيري بشارة بجناحيها التسجيلي والروائي؟ أم أنه يؤرخ لتجربة محددة في مسيرته، ويضعها أمانة تاريخية لجيل يعرفه مخرجا ترك بصمات بأفلام استقر بعضها ضمن كلاسيكيات السينما العربية؟
لا حرج على خيري، له أن يفعل ما يريد، وعلى القراء أن يجهدوا أنفسهم ليعرفوا، ويشاهدوا الأفلام الثلاثة المقصودة، ثم يعيدون قراءة الكتاب بعد المشاهدة. وإن خلا الكتاب من روح يمتاز بها خيري بشارة إذا تكلم. هذه الروح طبعت الندوة التي سبقت توقيع الكتاب في المهرجان.
في مقدمة الكتاب، يورد خيري بشارة اقتباسات لسينمائيين أجانب، وتنتهي بأربعة أسطر موزعة بالعدل بين السينمائيين التسجيلييين المصريين والعرب. فمن البيان التأسيسي لجماعة السينمائيين التسجيليين، التي تأسست في 5 كانون الثاني/يناير 1971 بالقاهرة: "ونحن السينمائيين التسجيليين المصريين نلتزم بالصدمة وبعدم تزييف الواقع، ونؤمن بأن من واجبنا أن ننقد السلبيات ونحارب القيم المتخلفة ونبث روح المبادأة والابتكار".
ومن البيان التأسيسي للاتحاد العام للسينمائيين التسجيليين العرب، بغداد 6 أيلول/سبتمبر 1975: "إن هدفنا هو إقامة سينما ثورية ترتبط بحركة الثورة في وطننا العربي والعالم وتساهم في خلق ثقافة عربية منفتحة على كل ما هو أصيل وإنساني وتقدمي". كلام كبير يليق بفتوة الفكر والشباب المراهن على تغيير العالم.
ومن النظرية المثالية إلى المشهد على الأرض، سيكتشف خيري بشارة وغيره من الحالمين، أن لا شيء يتغير، ولا أحد يثور بعد مشاهدة فيلم أو قراءة رواية. السينما على حد قوله تراكم الوعي، ولا تحدث ثورة. وقد أدرك مبكراً ضرورة الرهان على الجمالي وإهمال الدعائي، أن تكون الكاميرا أداة تبريد لفورة الحماسة؛ لتثمر أعمالاً أطول عمراً من أصحابها، تعيش حياة أخرى وتخاطب أجيالا لم تولد بعد، وليست صوراً فوتوغرافية تؤدي دوراً مؤقتاً ينتهي مفعوله مباشرة. كان إخراج الأفلام التسجيلية أقرب إلى تكليف لمخرجين تراهم الحكومات جنوداً في معركة، أدوات لدعم سياساتها، وتخشى ما يمكن أن تحمله أفكارهم من نزق.
سيكتشف خيري بشارة وغيره من الحالمين، أن لا شيء يتغير، ولا أحد يثور بعد مشاهدة فيلم أو قراءة رواية. السينما على حد قوله تراكم الوعي، ولا تحدث ثورة
في هذه الأفلام، اختار خيري بشارة أن يمرّر الصور والمشاعر والأشواق الإنسانية على حواسه، فلا تكون الكاميرا أداة صماء تسجل وتصور، وإنما هي امتداد للحواس. بطل فيلم "صائد الدبابات" الجندي عبد العاطي، فلاح قنص أكثر من عشرين دبابة بقاذف على كتفه، في حرب أكتوبر 1973. عرفتُ قائد تلك الكتيبة، اللواء عبد الجابر أحمد علي، مؤلف كتاب "أكَلة الدبابات"، ولم أشاهده في فيلم يعنى بالجنود، وقود المعارك، صناع بطولات يتم إبعادهم عادة عن مشاهد التكريم.
ولكن الفيلم ـ الذي يمجد العبقرية الفطرية ـ لا ينحاز إلى الرتب العسكرية. وأما فيلم "طبيب في الأرياف"، وإن كان بطله الطبيب خليل فاضل، فهو جدارية للواقعية الخشنة، مأساة المرض والفقر، الحقيقة من دون أقنعة. هكذا تكون حياة البسطاء بطولة.
كاد ميراث الخوف البيروقراطي يمنع عرض فيلم "طبيب في الأرياف"، بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر، وتشويه صورتها بهؤلاء الفقراء المرضى. حجة قديمة تتجدد مع كل عمل فني يجرح المشاعر المرهفة، الكاذبة، لمسؤولين لا تؤذيهم المأساة وإنما صورتها "الحقيقية". كاد الفيلم يلقى هذا المصير، لولا سؤال الوزير جمال العطيفي لرشاد رشدي المستشار الثقافي لأنور السادات وجيهان السادات.
كان رشدي وجهاً يرفضه اليسار المصري، واختفى ذكره بموته وانطواء المرحلة، فلا يذكر إلا ملحوقاً بما يسيء إلى مثقف تابع للسلطة. رشاد رشدي سأل خيري بشارة، في مكتب الوزير، عن مدة الفيلم، فأجاب المخرج: 23 دقيقة. فقال رشدي: لا بأس.
في زمن آخر، ومكان آخر، كانت الدبابات الإسرائيلية المعطوبة في سيناء ستصير نواة متحف مفتوح يرمم الذاكرة الوطنية. وفيلم "صائد الدبابات"، لحسن الحظ، يوثق ما أهملته سياسات منحازة إلى غير ما استشهد من أجله رفاق الجندي عبد العاطي.
لم يفاجئه أن يقول الوزير عثمان أحمد عثمان بعد مشاهدة فيلم "طائر النورس": "يا بشارة، أنت عامل فيلم مهرجانات!"
يقول خيري بشارة في الكتاب إنه تحرك إلى مواقع تصوير فيلمي "صائد الدبابات" في سيناء، و"طبيب في الأرياف" في محافظة المنيا الجنوبية، وهو يحمل السيناريو، وفي فيلم "طائر النورس" عن مراكز البناء التابعة لوزارة الإسكان والتعمير، "تحركت أحمل فقط زادي من الأفكار... تاركاً ورائي سيناريو شكلياً اضطررت إلى كتابته للحصول على الموافقة بالتصوير... دون أن يكون له أية علاقة بأفكاري أو بالفيلم نفسه الذي صورته".
في هذه الأفلام الثلاثة أخلص المخرج لما يؤمن به من أفكار، وما يشعر به إزاء بشر ينتمي إليهم، وأهمل أي شيء آخر، ولو كان مرتبطاً بجهة التمويل الحكومية. ولم يفاجئه أن يقول الوزير عثمان أحمد عثمان بعد مشاهدة فيلم "طائر النورس": "يا بشارة، أنت عامل فيلم مهرجانات!".
لولا أن الفيلم كذلك لما استحق أن يرممه المركز القومي للسينما، ولا أن يعرضه مهرجان الإسماعيلية الدولي. كان سيواجه مصائر أفلام دعائية عرضت مرة واحدة واختفت، ولا تستحق أن يسألها عنها أحد، وربما يخجل منها صناعها.
انتهى المقال، وكنت أود الكتابة عن أفلام روائية لخيري بشارة. أفلام أحبها، ولا تحظى باهتمام لائق من نقاد اليسار. ظنوا المخرج تخلى عنهم، منذ أخرج "كابوريا" الذي اعتبروه "قشر البندق". فوجئت بانتهاء المقال، كما فوجئت بخيري بشارة الشاب يخطو نحو الخامسة والسبعين. في الخامسة والسبعين عاماً القادمة ننتظر منه أعمالاً أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي