لم يكن يعرف وهو يقطع شوارع القاهرة، هاتفاً بكل جوارحه: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" أن كل خطوة يخطوها لن تقربه من حلمه المنشود.
دولة المقام الأول فيها للإنسانية.
22 سنة هي إجمالي الأحكام التي أقرها القضاء المصري ضد الشاب محمود محمد عبد العزيز، الشهير بـ"ياسين"، بعد محاكمته في ثلاث قضايا تظاهر.
دخل الزنزانة وهو ابن 19 عاماً، اعتقد أنه سوف ينهي شبابه بين جدران السجن، لكنه لم يقض سوى ثلاثة أعوام ونصف. في البداية فكر في الانتحار إلا أنه تحصن بقلم حبر ودفتر ورق صغير، وقرر أن يرسم فيه حياته وسط زنزانة تضم نحو ثلاثين سجيناً.
"حكم علي بالسجن للمرة الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 بعد الحكم علي غيابياً بالسجن 15 سنة في قضية تظاهر مجلس الشورى، تم تخفيضها في الاستئناف إلى ثلاث، ثم حكم علي بعامين في كانون الثاني/ يناير 2014 نتيجة اشتراكي في أحداث طلعت حرب. القضية الثالثة في نيسان/ إبريل 2016، وهي تخص تيران وصنافير حكم علي فيها بخمس سنوات و100 ألف جنيه غرامة، دفعتها كي أتخلص من حياة الهارب، وأقضي في السجن ثلاثة أعوام ونصف من الأحكام المقررة، لأخرج بعفو رئاسي عام 2019".
في بدايات سجنه خطرت له فكرة "الانتحار"، بسبب ما تعرض له من اعتداءات وإهانات رفض التطرق إليها، ثم حاول الاندماج والتأقلم مع فكرة السجن.
طلب من والدته، السيدة الريفية البسيطة، أن تحضر له في أقرب زيارة أقلام حبر ودفاتر سكيتش صغيرة الحجم، حتى يتسنى لها تمريرها بين أشيائه.
لم يكن ياسين يخطط لمشروع فني واضح، ولم يقصد شيئاً سوى تفريغ مشاعره على الورق والاستئناس بالرسم.
حياته
ولد ياسين في 21 أيلول/ سبتمبر 1994 في قرية عزبة الورد التابعة للقناطر الخيرية المصرية. كانت أولى محاولاته في الرسم في عمر السادسة. رسم أول بورتريه على الأرض، فأدركه حينها شعور غامض، كأن مصيره مرتبط بالفن التشكيلي، يقول: "لا أتقن فعل شيء سوى الرسم".
كبر الطفل وهو يرسم مشاعره بالرسم على الورق حتى قامت ثورة يناير، ليكتشف أن الرسم عالمه. تفاعل مع أحداث الثورة، وأسس مع عدة فنانين "رابطة فناني الثورة" أخذوا على عاتقهم تدوين أحداثها وأهم وجوهها بالرسم.
أمي واللوحات
في السجن رسم مصيره الفني دوراً آخر، فقرر قبل تحرره من السجن بعامين أن يدعم زملاءه بخطوطه، فرسم وجوه أطفالهم بورتريهات أو على قمصان يرسلونها هدايا لأولادهم، وشارك في فعاليات ثقافية بالسجن.
حاول طوال تلك الفترة أن يشغل نفسه بالقراءة والرسم ليؤرخ دون أن يقصد لحياة مسجون، شاب يشبه الآلاف غيره، مسجلاً تفاصيل دقيقة عن مجتمع يختفي وراء أسوار عالية، لا يعرف الملايين شيئاً عن طبيعته.
رسوم ياسين لاقت إعجاب النزلاء، وطالبوه بالاستمرار، فكان كلما أتت أمه لزيارته، تسلمه أوراقاً ودفاتر جديدة، وتتسلم هي منه رسوماً حافظت عليها حتى خروجه من السجن.
"كنت برسم لنفسي وبس"، يقول ياسين عن لوحاته داخل السجن. ويضيف: "ماكنتش وقتها واخد الرسم بجد، كان مجرد حاجة باخرج فيها طاقتي وبس، وفضل الموضوع فترة كده لحد بعد ما خرجت، كمان كنت فاكر إني ممكن أشغل بالي بالتصوير أو التمثيل، وأخدت ورش، حاجات ليها علاقة بأنواع تانية من الفن، بس اكتشفت إني ما أقدرش أبعد عن الرسم فكملت فيه".
في البداية فكر في الانتحار إلا أنه تحصن بقلم حبر ودفتر ورق صغير، وقرر أن يرسم فيه حياته وسط زنزانة تضم نحو ثلاثين سجيناً، كانوا هم أول "الجماهير" المعترفة بفنه، والمتفاعلة معه
لوحات ياسين عن حياة المسجون في مصر عكست نظرته التي تختلف عن نظرة الآخرين للأشياء. وهذا ما جعل بعضها ينال شهرة عالمية، ويتصدر إصدارات دولية شهيرة. إذ ذاك أدرك ياسين أهمية لوحاته، فحفظها في أماكن متفرقة داخل مصر وخارجها.
يتمنى ياسين أن يقدم لوحاته عن السجن في معرض خاص، لكنه يخشى الإقدام على تلك الخطوة. لماذا؟ قال لرصيف22: "خايف الدولة تأذيني لأنها ممكن تفهمني غلط، مع إني راسم واقعية سحرية مالهاش علاقة بنقد للمكان، لكن ليها علاقة بحياتنا كبني آدمين جوا السجن".
الصورة التي تعكسها الأعمال الفنية الدرامية للسجن بعيدة تماماً عن الواقع الذي عاشه ياسين، يقول: "مافيش مقارنة بينها وبين الواقع اللى عشته، والتقرير الأخير اللي أذاعته وسائل الإعلام عن السجون بالنسبة لي شيء هزلي".
خلال فترة سجنه تعرض ياسين للتأديب والحبس الانفرادي عندما اكتشفت إدارة السجن خطورة رسوماته.
يتمنى ياسين أن يقدم لوحاته عن السجن في معرض خاص، لكنه يخشى الإقدام على تلك الخطوة. لماذا؟ قال لرصيف22: "خايف الدولة تأذيني لأنها ممكن تفهمني غلط، مع إني راسم واقعية سحرية ليها علاقة بحياتنا كبني آدمين جوا السجن".
الصورة التي تعكسها الأعمال الفنية الدرامية للسجن بعيدة تماماً عن الواقع الذي عاشه ياسين، يقول: "مافيش مقارنة بينها وبين الواقع اللى عشته، والتقرير الأخير اللي أذاعته وسائل الإعلام عن السجون بالنسبة لي شيء هزلي".
خلال فترة سجنه تعرض ياسين للتأديب والحبس الانفرادي عندما اكتشفت إدارة السجن خطورة رسوماته.
وهو رسم "لوحة" يسخر فيها من السجن، وقد أعجبت المساجين، وكانت حديث السجن كله، إذ ذاك قررت الإدارة معاقبته بالتأديب والحبس الانفرادي، وهو الأمر الذي استغله، ورسم ما أحس به وحيداً في لوحة حصدت ولوحات أخرى صيتاً واسعاً بعد تخلية سبيله.
بالرغم من اللحظات الإنسانية العديدة التي سجلها ياسين في خطوطه، ظل يحلم برسم مشهد آخر، وهو مغادر في سيارة الترحيل، ولكنه لم يفعل.
بعد خروجه من السجن عام 2019، لم يستطع التخلص من فكرة أنه لا يزال مسجوناً لأكثر من ستة أشهر، عاشها في ضغط نفسي رهيب، بين رغبته في التخلص من آثار السجن النفسية وبين استمرار المتابعة الأمنية.
في بدايات سجنه خطرت له فكرة "الانتحار"، بسبب ما تعرض له من اعتداءات وإهانات، ثم حاول الاندماج والتأقلم، ليخرج بعدها من الحبس فناناً تشكيلياً كما كان يحلم
ابتعد عن الناس، فلا أصدقاء ولا عمل ولا حياة طبيعية مثل الشباب الآخرين إلى أن تعرف على الدكتور علي شوقي، أستاذ الإخراج بمعهد السينما ومخرج الأفلام الوثائقية المعروف، الذي تبناه، وعرض عليه أن يتقاسم معه منزله في حي المعادي. هكذا ترك ياسين شقته الصغيرة بمنطقة وسط البلد لأنها محاطة بجهات أمنية عديدة تسبب له أرقاً دائماً.
يقول ياسين: "انتقلت للإقامة مع الدكتور علي، فأخذ بيدي وجعلني أتخلص من آثار السجن السيئة، وما يتعلق بها من أفكار. جعلني أركز على كل ما يتعلق بشخصيتي، فأسمعني موسيقى مختلفة، وأعطاني كتباً متنوعة. أعتبره والدي".
بالرغم من كل محاولات ياسين للبدء من جديد، لا يزال يعاني من بعض تأثيرات تجربة السجن. يقول: "التجربة صعبة، يا تكسرك يا تخرج أحلى ما فيك، وهذا ما حدث معي، قاومت الرغبة في الانتحار، واشتغلت على نفسي في الرسم".
شارك ياسين في معرضين بنيويورك، وفي معرض جماعي بمصر، وتمت الاستعانة بلوحاته كأغلفة للعديد من الروايات والمجلات العربية والعالمية.
حالياً، يرسم لوحات تعكس قوة المرأة المصرية على اختلاف خلفياتها الثقافية والاجتماعية، ويحلم بأن يقدم هذه اللوحات في معرض يحمل اسمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...