"الأوكرانيون أولاً ومن ثم نحن!"، تصف الطالبة الجامعية الفلسطينية سمر عطية رحلة فرارها عبر الحدود الرومانية من الحرب الدائرة في أوكرانيا، باحثةً مثلها مثل آلافٍ غيرها عن الأمن.
اعتقدَت بدايةً أن المعارك ستقتصر على مجرد استهدافات لمناطق محدودة في مدينة خاركيف التي تدرس الطب منذ خمس سنوات في إحدى جامعاتها، لكن سرعان ما بدأت القنابل والصواريخ تتساقط على المنازل، ولاح الموت برأسه مهدداً السكان جميعهم.
سمر، من محافظة رفح في قطاع غزة، المدينة التي خبرت الكثير من الحروب وأهوالها. عندما سمعت صفارات الإنذار، شعرت بأن دماراً سيلحق بكل شيء وعليها أن تغادر فوراً.
"كنتُ مذعورةً، وتواصلت مع عائلتي في غزة، لأعلمهم برغبتي في المغادرة، لكنهم قلقوا كثيراً من فكرة عبوري الحدود إلى رومانيا لوحدي"، تقول لرصيف22 مستذكرة كيف أنها اندسّت في محطة القطار مع مئات النازحين بانتظار "قطار الخلاص".
"سبق لي أن عشت ثلاث حروب من أصل أربع شهدتها غزة. في الحرب الأخيرة كنت في أوكرانيا. لكنني لم أشعر بالخوف كما شعرت وأنا وحيدة في خاركيف لا أحد معي". وهذا كان دافعها لمغادرة البلاد. تتوقف برهة عن الكلام، ثم تستدرك: "لم أكن واثقة بأنني سأرى أهلي من جديد".
صباح مغادرتها، لم تجد موطئ قدم في القطار الأول، لكنها نجحت، وبشق النفس، في ركوب التالي وكان عليها الانتظار 33 ساعة لحين الوصول إلى مدينة لفيف الأوكرانية على حدود رومانيا.
"مدينة أشباح. ماذا عساني أقول أكثر عن لفيف التي مررنا بها؟"، تقول مضيفةً: "كانت مهجورة تماماً، باستثناء حدودها مع رومانيا. انتظرت هنالك لنحو خمس ساعات، فقد كانوا يسمحون فقط بعبور العائلات الأوكرانية وكأن الحرب واقعة عليهم فقط!".
الخوف الذي شاهدته في عيون الناس من حولها ودرجات الحرارة المنخفضة واستياؤها من عدم وجود ممثل للسفارة الفلسطينية في الجانب الآخر، لتقديم العون، كل ذلك جعلها تكرر اتصالاتها الهاتفية بغزة طلباً للأمن والدفء العائليين.
تروي كيف أنها استفادت هي وغيرها من النازحين العرب، مصريين وفلسطينيين ومغاربة، من حافلة أقلّتهم من عند الحدود وملجأ مؤقت وفرتهما لهم السفارة المصرية في رومانيا.
في رومانيا، حجزت سمر لنفسها تذكرة طائرة هبطت بها في مطار القاهرة ومن هناك انتقلت إلى غزة، لتطوي بذلك صفحة مغامرة فرارها من بين فكي حرب لم يكن لها فيها ناقة ولا جمل.
انتقاد السفارة الفلسطينية
نحو 2500 فلسطيني كانوا يعيشون في أوكرانيا قبل أن تعصف بها الحرب، أغلبهم شباب من قطاع غزة هاجروا للدراسة أو بحثاً عن حياة أفضل، بعيداً عن مصاعب الحياة والحروب المتكررة والحصار والانقسام السياسي، وفقاً لم ذكره لنا عدد منهم.
وأكدوا لنا أنهم لم يجدوا أية مساندة من أي جهة فلسطينية رسمية أو غير رسمية، في حين أن بلداناً أخرى كانت حاضرة عبر ممثليها الدبلوماسيين، وأجلت رعاياها.
وكان رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية قد صرّح بأنه يتابع أوضاع أبناء الجالية وأنهم يقومون بإجلائهم من أوكرانيا، كما أفاد المستشار السياسي لوزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية أحمد الديك بأن عملية الإجلاء أوشكت على الانتهاء، وتحدث عن إنشاء "خلايا أزمة" لمتابعة أوضاع الفلسطينيين واحدة منها ميدانية في أوكرانيا تتواصل مع محتاجي المساعدة وأخرى تتألف من سفراء فلسطين في دول جوار أوكرانيا لمتابعة أوضاع مَن يصلون إلى الحدود.
لكن مَن تحدثوا إلينا من الفلسطينيين الذين غادروا أوكرانيا أخبرونا بأنهم لم يلمسوا دوراً للسفارة الفلسطينية هناك.
ويوضح رئيس الجالية الفلسطينية في أوكرانيا، حاتم عودة، أنه وضع رقم هاتفه على صفحات الجالية على مواقع التواصل الاجتماعي لمَن يحتاج المساعدة، وقال: "للأسف، القصف في كل مكان، وإمكانياتنا محدودة جداً".
"مدينة أشباح. ماذا عساني أقول أكثر عن لفيف التي مررنا بها؟ كانت مهجورة تماماً، باستثناء حدودها مع رومانيا. انتظرت هنالك لنحو خمس ساعات، فقد كانوا يسمحون فقط بعبور العائلات الأوكرانية وكأن الحرب واقعة عليهم فقط!"
وعن سبب اعتماد الجالية على نفسها دون دعم من أي جهة رسمية فلسطينية أو عربية، يقول عودة لرصيف22: "فاقد الشيء لا يعطيه، العرب غير مؤثرين إطلاقاً سواء على الحكومة الأوكرانية أو حتى الروسية فلا مكانة لهم ولا أي تأثير في المعادلة السياسية العالمية، لذلك نحن هنا لا نملك سوى الدعاء لوقف ما يجري سواءً في الوطن العربي أو وأوكرانيا، التي هي بلدنا الثاني".
حربٌ خامسة
الحرب في أوكرانيا بالنسبة إلى فلسطينيي غزة المقيمين هنالك، هي الخامسة التي يشهدونها، بعد أربعة في الوطن الأم. لذلك لم تكن أصوات الانفجارات والخراب الذي تحدثه الشيء الوحيد الذي يقلقهم، بل حلم الاستقرار في وطن آخر ينهار أمام أعينهم.
تهاوي هذا الحلم، وقع سريعاً على الشاب نعيم النبيه (18 عاماً) إذ وصل إلى مدينة دنيبرو قبل يومين فقط من اندلاع الحرب في أوكرانيا.
شقيقه الأكبر واسمهُ محمد يدرس الطب البشري هنالك، والتحق به آملاً في دراسة تكنولوجيا المعلومات لتأمين مستقبله، بعد انغلاق الأفق أمامه في غزة بسبب ما تعانيه من مشاكل وأزمات، ولكونها "بيئة خصبة للحروب"، وفقاً لتعبيره.
محمد النبيه بعد وصوله إلى بلجيكا
يقول بكثير من الخيبة لرصيف22: "طاردني الخراب من غزة إلى أوكرانيا، والآن لم يعد لدي أمل ومستقبلي الذي كنت أخطط له احترق ببساطة".
الشقيق الأكبر، محمد، متزوج من أوكرانية، ويقم في مدينة دنيبرو منذ نحو ست سنوات. ونظراً لما قال إنه وجدهُ فيها من "رقي وتحضر"، شجّع نعيم للحاق به، لكن ولحظه العاثر، اندلعت الحرب تزامناً مع وصوله.
وعندما أصبحت الدعوات تطلَق لإخلاء المدن القريبة من المناطق التي تجري فيها العمليات العسكرية والتي يمهد الجيش الروسي لقصفها، واجه الشقيقان نقصاً شديداً في المواد الغذائية وعانيا من صعوبة في التنقل، لكنهما لم يفكرا بالمغادرة إلا بعد تلقيهم خبر تقدم الروس واجتيازهم لحدود مدينة خاركيف التي تبعد عن دنيبرو مسافة أربع ساعات بالسيارة.
رحلة الهرب الطويلة بدأت بحافلة تتسع لعشرة ركاب، وبتكلفة تجاوزت 1500 دولار أمريكي، في حين أن التكلفة العادية في وقت السلم لم تكن لتتجاوز 25 دولاراً.
مع ذلك، لم تكن تلك هي المشكلة التي واجهتهم بل رحلة الـ1000 كيلومتر التي قطعوها لاحقاً بحافلة أكبر، نحو الحدود البولندية، والتي عانوا خلالها الكثير من المشقة. يتحدث محمد عن كل ذلك بنفس واحد، كمَن يرد التخلص سريعاً من ذكرى موجعة.
توقفت بهم الحافلة على بعد 32 كيلومتراً من الحدود البولندية، وطُلِب منهم الترجل ومتابعة المسافة المتبقية مشياً على الأقدام. يقول عن ذلك بمرارة لرصيف22: "كانت الثلوج تتساقط بكثافة، ودرجة الحرارة هبطت دون الست تحت الصفر، وكان المسكين نعيم يرتجف من البرد وأسنانه تصطك".
ويتابع باستنكار: "فوجئنا على الحدود بطوابير طويلة من السيارات تنتظر الدخول، وقد سمحوا بعبور الأوكرانيين أولاً وبعدها للنازحين من باقي الجنسيات. أما نحن..."، وهنا قال بغضب: "نحن الفلسطينيون، أمرونا بالانتظار لحين إدخال الجميع. حتى في أجواء النزوح والحرب، يتم التعامل معنا بعنصرية".
طوابير الانتظار كما صوّرها محمد النبيه بهاتفه.
يروي محمد كيف أنه وزوجته اضطرا للانفصال عن نعيم الذي ابتعد عنهما في طابور الانتظار، وكيف أنه شهد وفاة رجل إفريقي تجمد من البرد، وكان ذلك دافعاً كبيراً لتدب الحماسة فيه ويبذل كل جهده لإنقاذ شاب فلسطيني من الضفة الغربية، كان على وشك الموت متجمداً، إذ نجح في إسعافه، وطلب له المساعدة لحاجته إلى رقابة بسبب تدهور حالته.
وفي تلك الأثناء، تلقى اتصالاً من زميل له، سوري، أخبره أن شقيقه نعيم فقد وعيه نتيجة الإعياء والبرد، فسارع إلى إسعافه هو الآخر ومن ثم نُقل إلى مستشفى داخل بولندا لأنه "كان يعاني من اختلال في ضربات القلب، ولكنه تماثل بعدها سريعاً للشفاء".
ينهي محمد استذكار قصة نزوحه من أوكرانيا بدعوة الجالية الفلسطينية هنالك إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بأبناء الجالية "فقد تقطعت بهم السبل وباتوا مشردين في كل مكان، بلا مال أو مأوى".
أخذتهُ لحظة شرود، قبل أن يعاود حديثه بأسى واضح: "من المهم أن تقدَّم لهم التسهيلات. الفلسطيني تحديداً دون سواه يواجه جملة من التعقيدات والصعاب حين يتطلب الأمر انتقاله من مكان إلى آخر، ليس في أوكرانيا فقط، بل في كل مكان".
علاقة قديمة
الوجود الفلسطيني في أوكرانيا يرجع إلى ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت أوكرانيا واحدة من دول الاتحاد السوفياتي وساندت منظمة التحرير الفلسطينية حينذاك من خلال البعثات العلمية وفتح أبواب جامعاتها أمام الطلاب الفلسطينيين ولا سيما في مجالي الطب والهندسة.
يشير إلى ذلك المؤرخ الفلسطيني الدكتور محمد أبو سمره، عازياً توجه الفلسطينيين بنحو عام إلى دول شرق أوروبا ومن بينها أوكرانيا، إلى سهولة الحصول على تأشيرة الدخول إليها بخلاف دول غربي أوروبا التي تفرض قيوداً مشددة على منحها لهم.
"طاردني الخراب من غزة إلى أوكرانيا، والآن لم يعد لدي أمل ومستقبلي الذي كنت أخطط له احترق ببساطة"، يقول شاب من غزة وصل إلى أوكرانيا قبل يومين فقط من اندلاع الحرب
ويضيف لرصيف22: "هذا فضلاً عن عدم التركيز على مجموع الطالب في الشهادة الثانوية للقبول في الجامعات، والتكلفة الدراسية والمعيشية المعقولة والمقبولة نسبياً، مقارنة مع غيرها من البلدان العربية والأجنبية، وكذلك لسهولة اللغة المحلية".
والشيء اللافت بحسب أبو سمره أن آلافاً من أبناء قطاع غزة تخرَّجوا من الجامعات الأوكرانية على مدى السنوات الأخيرة، وتزوج كثيرون منهم بفتيات أوكرانيات وعادوا معهنّ إلى فلسطين، مما جعل هناك جالية أوكرانية منتشرة في القطاع.
ويفسر ذلك بقوله: "الأوكرانية تندمج بسهولة في المجتمع الفلسطيني وتتقبل اعتناق الدين الإسلامي، وهو ما يشجع غالبية الطلبة الفلسطينيين في أوكرانيا على الاقتران بفتيات من هنالك".
الحرب مجدداً
خاركيف مدينة صناعية متاخمة للحدود الروسية، كانت من أوائل المدن التي طالتها الحرب بسبب أهميتها الإستراتيجية، كونها تضم العديد من المنشآت الصناعية والقواعد العسكرية الهامة.
كما أنها تزخر بالعديد من الجامعات المرموقة والتي باتت قبلة للطلاب الفلسطينيين، من بينهم معاذ رجب، من أهالي شمال قطاع غزة، والذي تقدم لدراسة الطب البشري فيها منذ خمس سنوات مع أحلام وأمنياتٍ كبيرة.
معاذ رجب في بولندا
ومع الحرب التي استعرت وبدأت نيرانها تمتد وتقترب منه، غادر مملوءً بالحزن. "قبل مغادرتي، كان الجيش الروسي يبعد عني 15 كيلومتراً فقط، ويحاول الدخول إلى خاركيف براً. كنا خائفين، وتواصلنا مع الجالية الفلسطينية، فطُلب منّا التزام المنازل والانتظار"، يروي لرصيف22.
لكنه لم ينتظر، خصوصاً مع اقتراب المعارك منه شيئاً فشيء. أخذ أوراقه الرسمية وما خف حمله، ثم استقل سيارة أجرة كلّفته 400 دولار، فقط لتوصله إلى محطة القطار. وهناك، وجد العشرات من الفلسطينيين ليبدأ معهم رحلة صوب الحدود البولندية.
"قبل المنفذ الحدودي، توجب علينا السير لأكثر من ثلاثين كيلومتراً، وكانت قدماي تؤلماني والبرد قارساً لدرجة أنني وأصدقاء لي فلسطينيين، مرضنا بعدها".
يتواجد معاذ حالياً في العاصمة البولندية وارسو، ويفكر بالسفر قريباً إلى ألمانيا، لينعم بالأمن هناك، لكنه قلق من أن تلاحقه الحرب إلى هنالك أيضاً. يقول: "كنت اعتقد بأن الحرب التي شهدتها في غزة سنة 2014 ستكون الأخيرة في حياتي، لكن يبدو أنني كنت واهماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...