مئتا ألف دولار أميركي، هو المبلغ الذي دفعته سيسيلي فليغهوي للمدعو سيمون لوفايف، في واحدة من أكبر عمليات الاحتيال التي تعرض حالياً على نتفليكس ضمن مسلسل The Tinder Swindler.
هذا الوثائقي يحكي قصة شابات وقعن ضحية رجل تعرفن عليه عبر تطبيق التعارف الشهير، تندر، حيث أغواهنّ بحياة ملؤها الحب والرفاهية بهدف سحب منهنّ ما أمكنه من المال، مستخدماً اسماً وهوية مزورتين.
لعبة الإغواء والخداع
سيمون لوفايف مجرد اسم مزيّف لشيمون هايوت، وهو شاب اسرائيلي يستخدم تندر للإيقاع بفتيات من جنسيات مختلفة، منتحلاً صفة رجل أعمال ثري، فيعمل على إبهار الفتيات بالهدايا والكلام الجميل والحياة الجنسية الممتعة حتى يقعن في حبّه، ليبدأ بعدها بطلب مبالغ طائلة، زاعماً أن حياته مهددة وأنه بحاجة للهروب من أعدائه.
يبدو أن الحاجة هنا إلى الحب كانت أقوى من المنطق، فلم يكن أمام تلك النساء سوى الانصياع لمطلبه، وإرسال المبالغ الطائلة، التي بلغت في بعض الأحيان عشرة ملايين دولار أميركي، وسرعان ما تبين لهنّ أنهنّ خسرن وهم الحب الذي بنين حوله قصوراً، وخسرن معه جنى العمر، من أجل مغامرة شعرت كل واحدة من بينهنّ أنها كسندريلا، تنتظر أميرها الذي سيغمرها بالحب المنشود.
هناك قصص كثيرة شبيهة بقصة سيسيلي والنساء الآخريات، وقصص رجال وقعوا بدورهم ضحية حب كاذب، ضحّوا بكل شيء في سبيله فخسروا في النهاية كل شيء. قصص تبقى مجهولة خوفاً من الشماتة والعار، فتختار الضحية حينها السكوت وتدفن ألمها، كيلا تواجه الشعور بالنقص الداخلي العميق ولا الخذلان العاطفي الذي تسببت به لنفسها.
من قال إن الحب يُشترى بالمال، وهل تساهم مجتمعاتنا في ترسيخ هذا المعتقد؟
ظاهرة الاحتيال العاطفي
منذ اندلاع الحرب في سوريا، تعيش منى وحيدة في فرنسا، حيث تعمل في مختبر لطب الأسنان، وهي كالعديد من النساء تستخدم تطبيقات التعارف "للتسلية وربما لإيجاد الحب"، كما تقول، مشيرة إلى أنها استخدمت هذه التطبيقات بشكل متزايد خلال فترة الحجر والقيود المرتبطة بانتشار فيروس كورونا.
تعرفت على شاب اسمه طارق، وبدأت بينهما علاقة افتراضية، وبعدها لقاءات يومية في شقة منى التي كانت تتكفل بكل التكاليف المادية من طعام وصولاً إلى تسديد ثمن التاكسي لحبيبها.
يبدو أن الحاجة هنا إلى الحب كانت أقوى من المنطق، فلم يكن أمام تلك النساء سوى الانصياع لمطلبه، وإرسال المبالغ الطائلة، التي بلغت في بعض الأحيان عشرة ملايين دولار أميركي، وسرعان ما تبين لهنّ أنهنّ خسرن وهم الحب الذي بنين حوله قصوراً، وخسرن معه جنى العمر
كانت طلبات طارق تزداد شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى الإيجار السنوي لشقّته التي لم تزرها يوماً، بالإضافة إلى مبالغ مالية وصلت إلى 10 آلاف دولار، أوهمها أنها لمساعدة أخته التي تعاني من مرض السرطان.
وبعد حين، اختفى طارق ولم يعد له أثر، إلى أن عرفت منى وبالصدفة أن اسمه كان مستعاراً وأنه عاد إلى وطنه الأردن.
تتحدث السيدة الأربعينية عن تجربتها المريرة لرصيف22 بعد أن شاهدت الوثائقي على نتفليكس والذي أيقظ فيها ذكريات عملت جاهدة على نسيانها خلال 5 سنوات.
لم تتجرأ على التحدث أو التبليغ عمّا حصل معها آنذاك، خوفاً من الحكم عليها بالسذاجة والحاجة الماسة لعلاقة عاطفية، لكن ما شاهدته في الوثائقي منحها بعض القوة والشجاعة، إذ شعرت أنها ليس وحيدة في الصدمة التي عاشتها والتي ما زالت تعاني من آثارها النفسية إلى يومنا هذا.
لماذا يقع البعض ضحية عمليات الاحتيال العاطفي؟
هناك عوامل اجتماعية عدّة يمكن أن تؤدي إلى الوقوع في عملية احتيال عاطفي، وقد أظهرت الأبحاث أن هناك شريحة معيّنة من الأشخاص هم أكثر عرضة ليقعوا في مثل تلك الممارسات.
فقد كشف بحث عن حالات اجتماعية كانت لديها صفات مشتركة: الشعور بالوحدة والحاجة لتعويض عاطفي، خصوصاً لدى الأشخاص الذين عانوا في طفولتهم من حرمان عاطفي، أو الذين شعروا أنهم مقابل حب وإرضاء الأهل يجب أن يؤدوا دوراً لا يقنعهم، الترمّل، الشخصية المتهورة، ضحية التحرش الجنسي، التورط السريع في المشاعر أو الإدمان.
يفقد الشخص النظرة الإيجابية لنفسه ليصبح دمية في يد الجاني، وذلك فقط من أجل كلمة "أحبك"
يبدو أن أرقام ضحايا الاحتيال العاطفي أو ما يُسمى Romance scam ارتفع بشكل ملحوظ منذ جائحة كورونا وما رافقها من إجراءات عزل.
ففي بحث تبيّن أن هناك بلاغات عن حوادث احتيال تحت ذريعة الحب وأرقام خيالية وصلت في مجموعها إلى أكثر من 300 مليون دولار، حدثت إما عبر التعارف الافتراضي أو عبر العلاقات المباشرة. واللافت أن العديد من الأفراد استغلّوا ظروف الجائحة لطلب المال من أجل علاج أحد أفراد العائلة.
انتشار تلك الظاهرة دفع بعض الضحايا إلى إنشاء مواقع إلكترونية هدفها الوعي والتنبيه، مستخدمين تلك المنصات للتحدث عن تجاربهم وجمع الأموال عبر GoFund Me وغيرها من وسائل الدفع الإلكتروني، بهدف سدّ العجز المادي الذي وقعوا ضحيته.
يشدد موقع www.romancescams.org على رواد مواقع التواصل وتطبيقات التعارف على أهمية التنبه إلى علامات قد تدل أن الشخص يمارس الاحتيال العاطفي:
- يتظاهر بمشاركتكم/نّ الهوايات والميول نفسها.
- يعبّر عن مشاعره باندفاع شديد.
- يدفق عليكم/نّ مشاعر الحب والوعود المغرية.
- يطلب منكم/نّ المال لأسباب مختلفة.
- يطلب منكم/نّ أموراً غريبة.
- يعرّفكم/نّ على محيطه القريب بسرعة.
- لا يفي بأي من وعوده.
السكوت وإنكار الحادثة
إن التأثيرات النفسية للاحتيال العاطفي على الضحية كثيرة وخطيرة، وتتفاقم بفعل عدم التبليغ وعدم المواجهة، ما يضع الضحية في حال من الخوف المستمر وفقدان الثقة بالآخرين، خصوصاً في حال وصل الأمر بها إلى مشاركة معلومات شخصية، كرقم الحساب المصرفي، عنوان المنزل والعمل، تفاصيل عائلية وغيرها من المعلومات التي قد يستخدمها الجاني لابتزاز واستغلال الضحية قدر الإمكان.
خلف تلك الأحداث المؤلمة فكرة أساسية وهي أن الحب هو المبتغى الأول والأساسي، وأن "في سبيله يُبذل الغالي والنفيس"
في هذا الصدد، أفاد العديد من الضحايا عن شعور كبير بالذنب لكونهم وضعوا ثقتهم ومالهم بيد شخص محتال، ما أوصلهم إلى الشك بكل خياراتهم العاطفية والمهنية وغيرها، وأصبح لديهم مشاكل في الثقة خصوصاً في العلاقات العاطفية.
وتحدث آخرون عن مشاعر غضب مستمر تجاه كل شيء وخوف من كل الناس، كما عبّر البعض عن شعور بالخجل من أنفسهم والعار تجاه ما قبلوا به.
هذا وقد وثقت التقارير بعض محاولات الانتحار لأشخاص عانوا من كآبة حادة ولم يتجرؤوا على الكلام ولا على طلب العلاج النفسي، ما أدى بهم إلى محاولة إنهاء الألم النفسي من خلال وضع حدّ لحياتهم.
خلف تلك الأحداث المؤلمة فكرة أساسية وهي أن الحب هو المبتغى الأول والأساسي، وأن "في سبيله يُبذل الغالي والنفيس".
معظم الأشخاص الذين وقعوا ضحية عمليات الاحتيال لم يكن هدفهم سوى العثور على حب كانوا يفتقدون له وبشدّة، وظنّوا أنهم لن ينالوا هذا الحب إلا إذا قدموا تضحيات معيّنة. ولعلّ هذه نقطة ضعفهم: الخوف من خسارة شخص ومعه الحب، إن لم يستجيبوا لما يريده منهم.
في الختام، إن شعور الشخص بأنه غير كاف بذاته وأن عليه تقديم التنازلات لمجرد أن يحصل على الاهتمام والحب قد يكون خلف معظم جرائم الاحتيال والاستغلال، فحينها يفقد الشخص النظرة الإيجابية لنفسه ليصبح دمية في يد الجاني، وذلك فقط من أجل كلمة "أحبك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي