شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"التآمر": مساحة للنقاش خارج مهرجان الهويات وألغام المظلوميات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 29 مارس 202210:27 ص

لم يعد من السهل إطلاق الآراء أو تقييم ما يشهده العالم من تغيرات أو توجيه النقد (أو السخرية) دون أن نأخذ بعين الاعتبار أطياف الهويات، والظلم التقاطعي، وأحقية الضحية، وموقع من يتحدث، ولونه، وميله الجنسي، وتربيته ولون عينيه، ومهنة والده، فالأفكار أصبحت تحاكم بناء على موقف قائلها لا بوصفها فكرة وفقط.

فالفضاء العام ومؤسسات المجتمع المدني والتجمعات الهوياتيّة والجيوش الافتراضيّة أشبه بحقل ألغام، الجميع فيه مستهدف، أكاديميون، معلقون سياسيون، كوميديون، سفلة، أي زلة أو اختلاف، أو حتى محاولة للتفكير والمقارنة، تواجه بالإلغاء، وأحياناً الطرد من العمل، وسيل من الاتهامات الذي لا مكان لعده الآن.

تكرار لفظ التآمر

في ظل ما سبق وضمن جو من الحذر والهوينى، نتلمس من قراءات متنوعة، تكرر لفظ "التآمر" حين محاولة الحديث عن تلك المساحات "الممنوعة"، أو حين طرح الأسئلة الإشكالية التي تشكك بالحقائق الجديدة، إذ نشهد وجود مصطلح "التآمر" بوضوح في "المانيفستو المؤامراتي" المنشور هذا العام دون أن نعرف اسم مؤلفه، هو محاولة لطرح أسئلة حول الوضع القائم وشرعية اللقاحات، وحق الدولة بفرض الكمامة ومنع التجمع.

الفضاء العام ومؤسسات المجتمع المدني والتجمعات الهوياتيّة والجيوش الافتراضيّة أشبه بحقل ألغام، الجميع فيه مستهدف، أكاديميون، معلقون سياسيون، كوميديون، سفلة، أي زلة أو اختلاف، أو حتى محاولة للتفكير والمقارنة، تواجه بالإلغاء

تكرر الأمر مع كتاب "كراهية بالجنس" حيث يشير أوليفر دايفس وتيم دين، المؤلفان "المثليان الأبيضان" في المقدمة، إلى "شركائهم في التآمر"، حين وجهوا الشكر التقليدي إلى من ناقشوا معهم مضمون الكتاب وأفكاره، ربما التصريح بلفظ التآمر سببه ما يناقشه الكتاب، الذي يضيء على موقف الدراسات الكويرية الهوياتية من الجنس لا من الجندر، وعلاقتهما مع الديمقراطيّة، إذ يدعي الكتاب أن الجنس، مساحة اللذة الشخصيّة المعقدة، مهمل و"مكروه" في القطاع الأكاديمي الكويري، إذ يتم وضعه دوماً في أطر وأخلاقيّة، ويضبط بأعراف موحدة، كل ما يختلف عنها من ممارسات يوصف بـ"التعنيف".

تشير أيضاً آميا سرينيفاسان في كتابها "الحق بالجنس" ضمن الفصل الأول، المعنون بـ"المؤامرة ضد الرجال"، إلى رجلين اتهمها ظلما بالاغتصاب، لتستطرد لاحقاً، بأن صوتهما لم يسمع وبراءتهما شكك بها، كونه لا يمكن لامرأة أن تكذب بخصوص الاغتصاب في مناخنا الحالي، تكمل لاحقاً حججها، نافيةً وجود مؤامرة ضد الرجال، لكن محاولة البعض الدفاع عن أنفسهم أو إبراز حججهم أو حتى مناقشة الموضوع على المستوى الفكري المجرد تجعلهم متهمين بالتآمر مع الرجال الآخرين ضد "كل النساء".

ضمن جو من الحذر والهوينى، نتلمس من قراءات متنوعة، تكرار لفظ "التآمر" حين  الحديث عن المساحات "الممنوعة"، أو حين طرح أسئلة إشكالية التي تشكك بالحقائق الجديدة

مفهوم التآمر

ما نحاول الإشارة إليه في هذه الأمثلة شديدة الراهنيّة لا يتعلق بنظرية المؤامرة، ولا الهلوسات المتصلة بها ولا حتى الحروب واستراتيجيات الصوابيّة السياسية لمنع وتكميم أفواه من لا ينصاع إلى "الأعراف الجديدة"، كما حصل مع جوردن بيترسون في كندا، بل نحاول إعادة النظر فيما يتعلق بمفهوم "التآمر" نفسه، الذي كان تقليديّاً يعني اجتماع فئة سراً للوصول إلى نتائج محكوم عليها بالأصل بأنها "سلبية" أو مختلفة عن القائم وتخالف "منطقه"، لكن الآن، عوضاً عن السر، التآمر علني، يعترف من يتبنونه بموقفهم، ويشرعنون حججهم من منطلق أنهم متآمرون، أي يخففون من جدية ما يقولونه عبر الوقوف وراء المؤامرة.

الملفت أن وضعية "المتآمر" الآن تخفي وراءها دعوة إلى إعادة النظر في شكل "الديمقراطيّة" الحالي وعالميته المفرطة في شموليتها، وما تحمله هذه الديموقراطيّة من قيم ومواقف أساسها الاختلاف الشديد حد "الأصالة"، ما يعني استحالة التعميم و"التمثيل" في بعض الحالات، في حين أن "المتآمر" ينادي بمساواة لا تقوم على اختلاف الهويات كمصدر للشرعيّة والأخلاق، ولا يتبنى أخلاقاً وقيماً متعالية (جداً) لا تشمل "الجميع"، بل يوجه انتقاداته إلى مصادر هذه "المعرفة"، كالدراسات الميدانيّة و أموال منظمات المجتمع المدني ذات الجهود التقاطعيّة، تلك التي ترى في كل من يتهمها بتبديد الأموال وعدم الوعي بحقيقة الأمر الواقع، عدواً لا يستحق الكلام وكارهاً للبشريّة جمعاء.

 "التآمر"الآن لا يحدث سراً، هو نشاط علني، يعترف من يتبنونه بموقفهم، ويشرعنون حججهم عبره

نقرأ مثلاً، وفي الكثير الأحيان يتسرب ضمن بعض الأوساط، أن هناك كمية من الأموال التي ستدفعها المنظمات الغربية طبعاً من أجل تمكين فئة من اللاجئين من غير المتزوجين، المثليين، المتعلمين، ذوي الأصول الأقلية، وتحت عمر الثلاثين، المقيمين في جنوب تركيّا، غير المسجلين في الأمم المتحدة وأصحاب المهن اللذين لا يمارسونها. الملفت أن الهدف هو توعيتهم حول المجتمع المدني وخطاب الكراهية، في تجاهل تام أنهم في مخيمات تبتلعها السيول كل شتاء.

ما يحاول المتآمر في السياق السابق قوله إن هناك أموال ومساعدات ليست بالقليلة تُصرف بهدف نشر القيم الجديدة في تجاهل تام لآخرين، ضمن ذات المكان، لكنهم للأسف، يختلفون عن "الفئة المستهدفة" بعنصر واحد، انتقاد هكذا جهد أو ما يحمله من قيم أو حتى محاولة التفكير بشكل واقعي، يقابل بسيل من الشتائم، واتهامات بالتآمر على حقوق الإنسان وحقوق الحياة وغيرها، علماً أن إعادة النظر في كيفية تقديم هكذا مساعدات ومعونات قد يترك أثراً واقعياً ومستداماً أكثر من "توزيعها" على الهويات وفئاتها حد الاحتكار، أو إهمال فئة على أساس لونها وميولها على حساب أخرى.

يُرجم المتآمر في حال اختلفت أفكاره، وبغض النظر عن مدى "منطقية" كلامه ونفعيته الأوسع، يظهر كمن يدعو إلى زمن وأخلاق لا تميز الاختلاف ولا تحترم الآخر، أي آخر كان، فمحاولة النظر في الرداءة التي تشمل "الكل"، بعيداً عن عدسة "مظلومية الأنا وفردانيتها"، تفتح باب الاتهامات، ما خلق نوعاً من الخوف، يعزز بصمت حول مشكلات المقاربات الهوياتيّة التي لا تشكل جوهر العطب الذي يختبره "الجميع"، لن نخوض في الحق بالتعبير الذي أصبح مشروطاً، بل سنشير إلى الـ"قشعريرة"، ذاك الشعور الذاتي والتخوف من قول ما يمكن أن يقال قبل نطقه حتى.

يمكن القول، إن تبني موقف "المتآمر" و"المؤامرة" كإطار نظري للتحليل وإطلاق الأحكام، يشكل مساحة آمنة للاختلاف، عن اليسار الهوياتي والهيمنة الأكاديمية شديدة التخصص التي تقف بوجه عقلانية غير مفرطة في انتصارها للعلم أو المنطق، بل أخرى أكثر براغماتية، لا ترى أن الهويات هي مصدر الأخلاق والتشريعات والتمويل، وهنا الملفت، والواجب الاطلاع عليه، "التآمر الجديد"، يحصل علناً، مفكرون وصحفيون وأكاديميون معترف بهم، يتبنون موقف "المتآمر" ويستهدفون جماعات وجمعيات وتيارات أكاديميّة أخرى شديدة العلنية، لا تعمل في الخفاء، بل تحاول ترسيخ مواقفها التقاطعية الجديدة، لكن الاختلاف، أن موقف المتآمر أقل شرعية وجديّة من ذاك المنصاع للشروط الجديدة، ويمتلك حرية إعادة النظر، لا حسم أو طرد أو إلغاء فيه، ضمن سياق التآمر، الخطأ مغفور، بعكس السياق العلني الحالي، تغريدة منذ عشر سنوات، قد تطيح بصاحبها وتخفي صوته ووجهه.

وضعية "المتآمر"  تخفي وراءها دعوة إلى إعادة النظر في شكل "الديمقراطيّة" الحالي وعالميته المفرطة في شموليتها، وما تحمله هذه الديموقراطيّة من قيم ومواقف أساسها الاختلاف الشديد حد "الأصالة"، ما يعني استحالة التعميم و"التمثيل" في بعض الحالات

المثير للاهتمام أيضاً، أن المواقف القائمة على الهويات والآراء الأشد يساريّة، تحاول إسكات الجماعات الأخرى، الأعداء، الرجوليين، المتدينين، المحافظين، وكل طيف "الماضي"، ذاك الذي يوصف بـالدهماء ( من معاني الكلمة القديم، الأسود)، تلك الجماعة التي لم تتبن الهويات الجديدة، والتي تُمنع أصواتها من الظهور، وتُصادر حقوقها لتتحول إلى كتلة مهددة بالانفجار، كما شاهدنا حين تم اجتياح الكونغرس من قبل أنصار ترامب.

أفكار تستفز مهرجان الحساسيات

لا نحاول هنا أن ننتصر لأخلاق محددة، أو العنف، أو خطاب الكراهيّة، بل نحاول استفزاز التفكير، واللجوء إلى "التآمر" نفسه الذي من الممكن أن يصبح مساحة للتفكير دون اتهام وتصنيف، ربما هو إطار نظري جديد من الممكن أن يتحول إلى مساحة خالية من التشكيك التقليدي وعدم الشرعيّة، فضاء وموقف نقدي يمكن ضمنه مناقشة بعض الأفكار التي تستفز مهرجان الحساسيات وألغام المظلوميّة، والأهم، تطوير تقنيات أشد فعالية في حماية حقوق الأفراد. من هذه الأفكار والفرضيات "المؤامراتيّة":

1- هل نصدق "كلّ" الناجيات؟

2- هل تدخل الدولة في سوائل أجسادنا وحقننا باللقاحات وتحويلنا إلى فئران تجارب حق سيادي تمتلكه الدولة؟

3- هل تصادر الهويات الكويرية معاني العلامات وتعيد قراءة التاريخ بناء على موقفها لا بناء على أسلوب الأفراد بالتعبير عن أنفسهم؟

4- ألا يدفعنا غزو روسيا لأوكرانيا والمواقف الأديولوجية التي يروج لها بوتين، لإعادة النظر بجدية في قيم الغرب التي "تُدمر" و"تحتل" البلدان على أساسها؟

5- ألا يحق للسفلة والمبتذلين والعنصريين التجمع ونشر آرائهم علناً، في المساحات العلنيّة، سلميّاً، أم أن المتحكم بما يقال وما لا يقال هو مشاعر الجماعات؟

6- ألا يجب أن تقع العقوبة على الرأي بعد التعبير عنه، لا تكميمه بمجرد التفكير به، ونتحدث هنا عن سياسات النشر على وسائل التواصل الاجتماعي؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image