يعود الزّائرون يوميّاً من محافظة القيروان، محملّين بالمقروض "نوع من الحلويات"، والخبز القيرواني الأصيل الذي لا يضاهيه أي نوع آخر من الخبز.
إسلام، تونسية مقيمة في السعودية، تتحدر من محافظة المنستير، التقى بها رصيف22 أمام فرن "القرقابية" المعروف في مدينة القيروان، وأخبرتنا بأنها جاءت لاقتناء الخبز القيرواني قبل سفرها وعودتها إلى السعودية، مضيفةً أنها تأتي إلى القيروان لشراء خبزها المميّز الذي لا مثيل له في أي مكان وفق قولها، إذ تقوم بتغليفه ووضعه في حقيبة السفر. وتهدي بعضاً منه إلى أصدقائها ومعارفها هناك.
خبز زكي الرائحة
تفوح رائحته الزكيّة عند إخراجه من الفرن، وله مذّاق خاصّ مختلف ومميّز يعود لاستعمال توابل البسباس (الشمّر)، و"السانوج" (الحبة السوداء)، والعود والجلجلان (السمسم)، وزيت الزيتون والسمن و"حبّة حلاوة" (اليانسون)، بالإضافة إلى ميزة الأفران القديمة التي تطهو الخبز على مهل، مما يسمح بتجانس مكوّناته وتغلغل النكهات داخل العجين؛ ذلك هو الخبز القيرواني الشهير.
أدخله إلى القيروان الأندلسيون الذين اشتهروا بصناعة الخبز وإنتاجه. وكانت عجينة الخبز تُعَدُّ في المنازل من قبل ربّات البيوت، ثم تُطْبَخُ في الأفران في مدينة القيروان. فما هو الخبز القيرواني ؟
ويُستعمل في صناعة الخبز السميد والشعير والقمح، ويختلف الخبز المصنوع من هذه المواد عن الخبز المصنوع من الطحين "الفارينة" في المذاق والقيمة الغذائية حسب ما يوضح لرصيف22، أبو العلاء الرعيني، الذي يعمل في فرن العمرانية منذ 28 عاماً، ويؤكّد الرعيني أن النقص الكبير في الفارينة والسميد أثرّ على جودة الخبز، والمواطن نفسه لم يعد يبالي بالجودة في ظلّ أزمة المواد الأولية، ويرى أن اتجاه الدولة إلى استيراد نوعيّات غير جيّدة من القمح بسبب تراجع الإنتاج الوطني، أضرّ بجودة الخبز ومذاقه الذي تغيّر.
ويضيف محدّثنا أن صناعة الخبز فن، والحرفيون الذين يتقنونه ماتوا في حين لم يعد الشباب مقبلين على هذه المهن، ولا على تعلمها.
تقاليد عريقة
ويقول لرصيف22، محمد البورجيني، وهو راوية حكايات شعبية وموظّف سابق في معهد التراث، إن الخبز أدخله إلى القيروان الأندلسيون الذين اشتهروا بصناعة الخبز وإنتاجه. وكانت عجينة الخبز تُعَدُّ في المنازل من قبل ربّات البيوت، ثم تُطْبَخُ في الأفران في مدينة القيروان، على النقيض مما يجدث في الأرياف، إذ يضيف محدّثنا أنه في ستينيات القرن الماضي، كان اقتناء الخبز من الفرن مدعاةً للخجل لأن ذلك دليل على أن الشخص إمّا يعيش وحده، أو لا يُجِيدُ أهل بيته طهي الخبز.
وظهرت الأفران في القيروان منذ القرن السابع عشر ميلادي، وكانت الأفران تصنع الخبز للمنازل.
وفي العقود الماضية، كانت ربّات البيوت في مدينة القيروان يعجنّ الخبز ويضعنه في صوانٍ أمام البيوت ليقوم أي طفل أو شاب من أبناء الجيران بحمل الخبز إلى الفرن، وإذا امتنع عن ذلك يعاقَب من والده، لكنه تقليد انقرض تقريباً.
ومن أشهر أنواع الخبز في القيروان، نوع خبز الشواي الذي يعدّ خاصيةً قيروانيةً، وارتبط بازدهار أكلة الكفتاجي الشعبية التي تعتمد على هذا النوع من الخبز.
ومن أقدم الأفران في القيروان فرن "شبّوح"، وهو أقدم فرن يبيع الخبز العصري، وكان الخبز في أواخر فترة الاستعمار غذاءً أساسياً للمستعمرين.
صعوبات كبيرة
تتراوح حاجة تونس من الحبوب، بين 30 و32 مليون قنطار سنوياً، لا تنتج منها غير عشرة ملايين قنطار وفق معدل إنتاج المواسم الأخيرة.
وتستورد اليوم قرابة 70 في المئة من حاجتها من الحبوب، و90 في المئة من حاجتها من مادة القمح الليّن.
ومع الارتفاع الأخير للأسعار العالمية للحبوب، أصبح سعر قنطار من القمح المستورّد يكلّف 110 دنانير تونسية عند وصوله إلى تونس، ويكلف استيراد القمح الدولة ما بين 1،600 وألفي مليار سنويّاً، تسدّدها تونس بالعملة الصعبة.
من أشهر أنواع الخبز في القيروان، نوع خبز الشواي الذي يعدّ خاصيةً قيروانيةً، وارتبط بازدهار أكلة الكفتاجي الشعبية التي تعتمد على هذا النوع من الخبز
وتشهد السوق العالميّة للحبوب، منذ منتصف شهر تموز/ يوليو 2021، نسقاً تصاعدياً للأسعار مسجلّة مستويات قياسيّةً، خاصّةً في أسعار القمح الصلب، إذ يناهز سعره حالياً الـ820 دولاراً للطن الواحد، ومن المتوقع أن ترتفع هذه الأسعار بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا وما ينتج عنها من ارتفاع في أسعار القمح بحكم أن البلدين هما أكبر مصدّرين للحبوب إلى المنطقة المغاربية.
وتعترض المخابز في تونس منذ سنوات صعوبات عديدة في ظلّ ارتفاع أسعار الغذاء في العالم، الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، وأهمّها نقص المواد الأوليّة وارتفاع أسعار السمن وزيت الزيتون والبسباس والسينوج (من منكهات الخبز)، الذي تجاوز سعره 20 ديناراً أي نحو سبعة دولارات. كل هذه العناصر أثّرت بشكل سلبي على تقاليد صناعة الخبز القيرواني.
وفي هذا الصدد، يفيد عمر العيساوي الذي يعمل في مخبزة منذ 28 عاماً، أنه كان يخبز العجين بالسمن وزيت الزيتون حتى العامين الماضيين، لكن تم التخلي عنهما اليوم، وبات يستعمل زيت الذرة "القطانية" فحسب، ما أثرّ على مذاق الخبز. وبينما كان العيساوي يشرح لنا عن أنواع الخبز واختلاف جودته، دخلت إحدى الزبونات للاستفسار عن سبب تراجع حجم "الباقات" (الأرغفة)، فأجابها بأن ذلك يعود لاستعمال نوع سيء من السميد في المخابز العشوائية التي يبلغ عددها في مختلف أنحاء البلاد 1،200 مخبز، تتسبّب في خسائر مالية كبيرة لمن يحترمون قواعد المهنة نتيجة الإنتاج الوافر الذي لا يراعي طاقة الاستهلاك في البلاد، وأيضاً في إتلاف نحو 900 ألف خبزة يومياً، خصوصا خلال شهر رمضان، وذلك من جرّاء منافسة المخابز العشوائية، وهو ما يكلّف الدولة وأصحاب المخابز خسائر تقدّر بنحو 80 ألف دولار أميركي في اليوم. ويُعدّ هذا النشاط إحدى أهم المشكلات التي تعترض المخابز في تونس اليوم، وتؤثر بدورها في صناعة الخبز القيرواني الذي قاوم طوال قرون، لكنه اليوم في منافسة مع خبز رديء النوعية، وأسعار تجعل صناعته رهاناً صعباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...