شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"ماما شو يعني حرب؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 19 مارس 202202:32 م

على ظهري حقيبة وأمي وخوفها، وبيدي أمسكُ أختي ونبض قلبها، وبالأخرى خوف ثلاثة أطفال لا أعرفهم.

مبللة بالملح والنشادر، أنفض ثوبي بيدي فتتسخ. أمسح الطين عن حذائي فأتسخُ أنا.

تأكلني الشمس والنظرات. لا أحد يجيبني في الشارع، شارع لا أعرفه. ولا أحد يردّ فيه.

تحوّل الجميع إلى عيون بأسنان. وقفتُ لأشتري مثلجات، فطردني البائع قبل أن أشتهي الفراولة المثلجة.

هذا المخيم كبير. حسناً! إنها بلاد، ولكن لطالما كان اسمي لاجئةً، فكل هذا بالنسبة إلي اسمه مخيم.

لا أعرف خرائط غوغل ولا هي تعرفني. كنت أستدلّ على طريقي عبر حاويات القمامة، وألوان الحيطان. كانت النظرات هناك تُشعرني بالضياع أكثر فأكثر.

تأكلني النظرات منذ أنْ وُلدتُ، تقول أمي إنّي سمنت ونحفت في رحمها، فولدتني صغيرة متجعّدة بأذنين كبيرتين، كمسخٍ. خافت وخبأتني إلى أن انكويتُ ثم قابلتْ مهنّئيها بالفتاة رابعة. رابعة، ولكن "حلوة ومكوية".

تقول قصة تجعّدي وتضحك، وأستغربُ ضحكتها تلك منذ عشرين عاماً، ولكنّي اليوم، أقول قصصي وأضحك لأهرب من شفقتي على نفسي.

أمشي طريقاً لا أعرفه، وأعدّ بلاطات الطريق الطويل، وأتحدّى نفسي بألّا أدعس على الخطوط الفاصلة بين بلاطة وبلاطة.

أخاف الخطوط منذ زمن. خطوط الوجه. خطوط الطول والعرض في كتاب الجغرافيا. وخطوط البلاد والحدود. وخطوط أبي الحمراء.

هذا المخيم كبير. حسناً! إنها بلاد، ولكن لطالما كان اسمي لاجئةً، فكل هذا بالنسبة إلي اسمه مخيم.

تحتلّني خفافيش من الداخل، تكمش خوفي وتوصد أجنحتها على عصفور داخلي يريد الطيران. ليتني أستطيع الطيران بوزني هذا، ولو كطيران دجاجة تهرب من سكين، أعلو قليلاً قبل ذبحي.

ما أغرب الطريق، وكل الاتجاهات مغلقة. أغمضُ عينيّ لأرتاح على رصيف، فأفتحهما على كنبتي الصفراء، وصوت الأطفال من أوكرانيا يعلو على الحدود. تعود كل ذكريات الحرب، فتتلوّن صوري على الحائط بالأبيض والأسود. أدخلُ في نوبات هلع من جديد، وكأنّ قلبي ينبض بيدي، أراه على المرآة يرتجف.

كنتُ أظنُّ أنّي شُفيت من تبعات الحرب النفسية، وأنّي أخيراً وجدتُ عصفوري. ظننتُ أنّ ذاكرتي تقبّلت الرعب والقصص المخيفة، ولكنّي الآن، في هذا المساء، أتكوّر كقطة في الشارع، مقطوع ذيلها، وتحمل تحت وبرها قذارة الأرصفة وركلات أولاد الحارة، ثم تبنّاها أحدهم وجلستْ قرب مدفأة

تقول أمي إنّه عليّ تخزين الأرز وزيت دوار الشمس والمعلبات. الجميع يشترون اليود ظناً منهم أنه سينجيهم من القصف!

كنتُ أظنُّ أنّي شُفيت من تبعات الحرب النفسية، وأنّي أخيراً وجدتُ عصفوري. ظننتُ أنّ ذاكرتي تقبّلت الرعب والقصص المخيفة، ولكنّي الآن، في هذا المساء، أتكوّر كقطة في الشارع، مقطوع ذيلها، وتحمل تحت وبرها قذارة الأرصفة وركلات أولاد الحارة، ثم تبنّاها أحدهم وجلستْ قرب مدفأة.

هل فعلاً عليّ أن أجمع آلاف الدولارات مجدداً؟

لا أريد ركوب البحر مجدداً. ببساطة، لا أريد أن أموت بحرب أو ببحر أو ببرد على حدود دولة ما.

وأن أضع روحي بيد تاجر بشر مجدداً؟

بعتُ في السابق ليرات أمي وعقد زفافها، وجزءاً مني.

ماذا سأبيع الآن وقد صرت أجزاء ملتصقة بمعجزة؟

إلى أين سأذهب؟

لا أريد ركوب البحر مجدداً. ببساطة، لا أريد أن أموت بحرب أو ببحر أو ببرد على حدود دولة ما.

لا أملكُ رفاهية نفسية، ولا أريد التعرّف على أماكن جديدة أو لغات جديدة أو حتى طبائع بشر جديدة

كيف سأجيب ابنتي حين تسألني أين نحن؟ مماذا نهرب؟

كنت أحاول على مدى سنوات أن أخفي عنها مفهوم الحرب، واليوم عادت من روضتها لتسألني: "ماما شو يعني حرب؟"، بعد أنْ طلبوا منها التبرع بلعبة لأطفال أوكرانيا الناجيين من الحرب.

صفعني السؤال ولم أستطع أن أخفي هذه الكلمة عن بيتي أكثر.

كيف سيختفي مفهوم الحرب مع هذا الخراب الذي نعيشه على سطح الكوكب؟

تتخبّط مشاعري حين توزّع ألمانيا بطاقات قطار مجانية للاجئين الأوكرانيين، وحين أتذكر أنّي اختبأت بحمام القطار المحاط برائحة البراز والبول كي لا يمسكني أحد المفتّشين على الطريق ويعيدني لنقطة البداية، لنقطة للصفر التي أحاول الخروج منها منذ إحدى عشرة سنة.

تتخبّط مشاعري حين توزّع ألمانيا بطاقات قطار مجانية للاجئين الأوكرانيين، وحين أتذكر أنّي اختبأت بحمام القطار المحاط برائحة البراز والبول كي لا يمسكني أحد المفتّشين على الطريق ويعيدني لنقطة البداية، لنقطة للصفر التي أحاول الخروج منها منذ إحدى عشرة سنة.

أوّل مرة أشعر بأنّي من دول العالم الثالث. أو العاشر.

ليتني أعود إلى تجاعيدي الصغيرة، فاليوم أنا بالغة ومتجعّدة ومهروسة. مهروسة للحد الذي يجعلني غير مرئية لأحد ولا لأمي حتى، ولكنّي، ويا للأسف، لا أزال أخاف وأتألم، وبالحد الأدنى، أحلمُ. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image