شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أن تقرأ فقرةً من أفلاطون وأنت تأكل منقوشةً

أن تقرأ فقرةً من أفلاطون وأنت تأكل منقوشةً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 15 مارس 202201:44 م

خطر لي مرات عدة، في السنة الأخيرة، أن أفتح متجراً صغيراً لي في بلد جديد، محلاً لمصلحة سأتعلمها متأخراً، أي بعد الاثنين والأربعين من العمر، وبعد إنهاء خدماتي في "لا تعليم" الفلسفة. متجرٌ أو محلٌ لا يساعدني على ادّخار ثروة للقادم من الأيام، بقدر ما يساعدني على إتمام يومي من دون أي حساب، ومن دون أي توقع. أن أهيم في لحظة كونية وأفتح باب الاحتمال على مداه، ﻷترك الغد للصدف التي سيواجهها، وليكون الغد مغامرةً لطالما كنت أتملّص منها ومن لا تقليديتها في نصف حياتي الأول.

صادَفت هذه الفكرة فكرة أخرى، كانت تراود عقلي منذ مدة أيضاً. فكرة تحاول تلقّف العلاقة الجافة والمبهمة بين الفلسفة والطعام. جدياً، فكّرت في أن هناك علاقةً أفلاطونيةً واضحة المعالم تجمع الفلسفة بالسياسة، وأيضاً علاقةً إسبينوزيةً تجمع الفلسفة بثقل العدسات، والفلسفة بالصحافة، والفلسفة بالفيزياء، وبالكيمياء، وبالطب، وحتى بالعيش في برميل… إلخ. لكني، وربما بسبب تقصيري في البحث، وعلى الرغم من احتمال كونه موجوداً، إلا أنني لم أصادف الفيلسوف الطاهي، بل وجدت فيسلوفاً، أو مفكراً، يكتب في الطعام، ويبحث في علاقته بالثقافة والمجتمع ككلود ليفي شتراوس، وفيلسوفاً يستبعد الطعام من "سيستامه" كما ذهب أفلاطون إلى كون الطعام مفتاحاً للتخمة وانشغال البال عن المثل العليا. لم أصادف فيلسوفاً معروفاً بمهنة الطبخ، وبتفرده في خلط السلطة، وفي طهي اللوبياء، وفي شوي البطاطا، وفي صنع الحلويات. وحتماً، وفوق هذه وتلك، وعلى رأسها كلها، الفيلسوف صانع العجين.

لم أصادف فيلسوفاً معروفاً بمهنة الطبخ، وبتفرده في خلط السلطة، وفي طهي اللوبياء، وفي شوي البطاطا، وفي صنع الحلويات. وحتماً، وفوق هذه وتلك، وعلى رأسها كلها، الفيلسوف صانع العجين

لماذا تخصيص العجين في هذه العلاقة مع الفلسفة؟ لا أعلم. فباستثناء معرفة الكثير من تفاصيل طعماته، وأشكاله، وباستثناء المعرفة المعمقة بالنتيجة الكارثية لمفعوله على مستوى الحجم، والوزن، وتلبّك المعدة، لم أجد أياً من الأسباب التي تدفعني إلى تخصيص العجين في هذه العلاقة، باستثناء، ربما، طراوته وليونة قوامه. ليونة تسمح له، وتسمح لنا فيه، وعبره، بأن نمتلك قدرةً فائقةً على إعادة التشكّل. إن طواعية العجين، وانصياعه، وتفتّحه على كافة الأشكال الممكنة، وتناسبه مع كل الهندسات، بسبب الليونة الذاتية المتاحة له، بالإضافة إلى ملمسه الطري، تجعل منه المادة التي يمكن أن يتشكل منها أي شيء، وكل شيء. لم أعرف السبب الجدي في انكفاء أرسطو، والمدرسة الإيلية من قبله، عن جعله الهيولى الأولى التي تقبل كل صورة. هل كانت اليونان تملك كل شيء باستثناء العجين؟ غريب هذا الاحتمال، فليونة العجين تسمح له بأن يكون المادة التي تُبنى عليها الأحلام، ولاحقاً الكون.

خطر لي أن أفتح مخبزاً صغيراً لبيع المناقيش في إحدى الضواحي الساحلية القريبة من الشاطئ، وأن يقصدني صباحاً أناس لا تجمعني بهم أي علاقة أولية باستثناء الهواء الذي نتنشقه، وباستثناء وجودنا وعيشنا معاً على كرة أرضية واحدة. أناس يحاولون تناول المناقيش وشرب الشاي، أو العصير الطازج، في بداية يومهم، قبل أن ينصرفوا إلى أعمالهم، أو إلى سياحتهم، أو إلى البحر ليلهوا قليلاً، أو قبل أن ينصرفوا إلى فراغهم اليومي. فليونة العجين تسمح له بأن يسد فراغاتنا الزمنية والجسمية والروحية بالقدر الكافي من الكثافة. لربما يرتاد مخبزي أناس ينوون إنهاء علاقتهم بشريك حياتهم؛ نوع من قطع سيندمون عليه لاحقاً. فمن الجيد، وتكاد تكون هذه هي القاعدة، أن تلتهم منقوشةً، أو فطيرة جبن مع السمسم، قبل أن تنهي علاقةً، على سبيل التغيير، مثلاً.

خطر لي أن أفتح مخبزاً صغيراً لبيع المناقيش في إحدى الضواحي الساحلية القريبة من الشاطئ، وأن يقصدني صباحاً أناس لا تجمعني بهم أي علاقة أولية باستثناء الهواء الذي نتنشقه، وباستثناء وجودنا وعيشنا معاً على كرة أرضية واحدة

هذا ما تكثّف في بالي في الأيام الماضية. الهيام في الكون، والتأمل في ملامح وجوه الغرباء، وصنع العجين وخبزه... الكثير من العجين. لا أعلم ما إذا كانت هذه المهنة، التي لا أجيدها، والتي أريد أن أحاول إجادتها، تكفيني وعائلتي. لا أدري إن كانت ستساعدني على الاكتفاء في أيامي، كأب وكزوج وكإنسان حالم بالتغيير. لا أعلم حقاً. لكن يمكن أن أضيف إليها مفهوماً جديداً على سبيل المثال؛ تسويق العجين بالشذرة الفلسفية، ربما. تخيل أن تقرأ فقرةً من جمهورية أفلاطون وأنت تحاول أن "تشلّخ" الجبنة المنسابة على ورقة اللف، في مجتمع بالكاد تعرف عنه شيئين أو أكثر؟

أعتقد أنه آن أوان تحرير عجيننا وفلسفتنا من عقول محكمة الإغلاق على الماضي، وتحريرها حتماً من غرفة صف فلسفي معزولة عن جماليات اليومي. لنحاول أن نتلذذ بالعجين والفلسفة من زاوية أخرى، ولنحاول أن نتحصّل على قسط من الفلسفة بالفم لا العقل. لنحاول أن نمضغ الفلسفة بالعجين، في أمكنة وطعمات جديدة، على سبيل التغيير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image