شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"نبيذ الفلسفة"... ما الذي "نعرفه" حين "نتذوق"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 مارس 202211:58 ص

تمتلك "الفلسفة" مجموعة من المصطلحات والتقنيات من أجل الإحاطة بمفهوم تتناوله، وتتضح هذه الأدوات حين نحاول حصر المفردات المستخدمة حين مقاربة موضوع ما، كأن نقول: نحاور (أرسطو)، نفكّر (بوبر)، نستنتج (باسكال)، نفكك (دريدا)، نشكك (ديكارت)، نُؤوّل (ريكور).

هذه "الأفعال" وما يرتبط بها من نماذج وتقنيات، تحاول نقل الخبرة من الواقع الذي نختبره بصورة ذاتيّة إلى المفاهيمي الموضوعي، بشرط أخذ مسافة بين "الأنا" و"الموضوع"، فحين "يحاور" أرسطو طلابه حول الموت، ويثبت بالحجة العقلية أن كل الناس يموتون، كان حياً، هناك مسافة بينه وبين الموت، أما حين شرب السمّ، فلا تفكير فلسفي، مجرد إثبات وجهة نظر.

لكن، ماذا عن الموضوعات التي لا يمكن "التفكير" فيها إلا عبر "استهلاكها"، أي حين نتداخل وإياها وتلتبس الخصائص، تلك التي لا تسمح بوجود مسافة بين مكوناتها وأدواتنا، يقدم علم الجمال هنا (أحد أفرع الفلسفة التي يُسخر منها دائماً إلى حد تدريسه خارج كليات الفلسفة وإلحاقه بكليات الفنون) كلمة "نتذوق" (أن نعرف دون أن نفسر- أغيمبين) في دلالة على العلاقة بين "الأنا" والموضوع الذي تتناوله، لوحة، فيلم، مسرحيّة... الخ.

الملفت، هو تعالي الفلسفة عن العديد من الموضوعات، منها مثلاً النبيذ (أبيض وأحمر ووردي)، ذاك الذي لا تفيد كلمة "تذوق" فقط لضبط العلاقة بينه وبين "الأنا"، فهناك أفعال أخرى تخفي وراءها تقنيات معرفيّة: كشَرِب، ومزّ، وعبّ، وارتشف، وابتلع، وترع، وتمضمض، تلك التي يتداخل فيها الأنا مع الموضوع، ويهدد أحكام الأنا وتفكيرها بسبب أثر النبيذ نفسه، وهذا بالضبط ما يحاول أن يبحث فيه الكاتب والصحفي الفرنسي غريغوار داربادي،  في كتابه "نبيذ الفلسفة: نزهات باخوس الفلسفية"، الصادر هذا العام.

يسعى كتاب "نبيذ الفلسفة: نزهات باخوس الفلسفية"   إلى وضع منهج وقواعد للتفلسف أثناء  تذوق "النبيذ" بوصفه عتبة نحو وعي جديد وتجربة فكريّة مختلفة

يحاول الكتاب وضع منهج وقواعد للتفلسف عبر "النبيذ" تلك المادة التي نستهلكها وتهدد وعينا، فكما الفيلسوف يجب أن يكون مُحباً للمعرفة كي ينطق بالحكمة ويبحث عن خبايا الوجود، على شارب النبيذ أن يكون مُحباً للسكر، عارفاً بأحواله وتقلباته، متحرراً من سطوة "الذوّاقة"، ذاك الذي يصمت قليلاً قبل أن يطلق حكمه على النبيذ، ويعدد مكوناته وأثره، موظفاً نظام استعدادات ثقافي وذوقي لتحديد الجيد من الرديء، ناسياً الأثر الآني والمعرفة الحدسية التي يولدها تذوق النبيذ وتحولاتها كلما ازداد الشُرب.

من هذا الموقف الذوقي، نطرح سؤالاً: لِما يموت المؤلف (بارت) ولا يموت ذواقة النبيذ؟ خصوصاً أن لا إجماع على قيمة نبيذ ما، لا فقط بسبب اختلاف استعدادات الذواقة وتحولات النبيذ ذاته كمادة طبيعيّة، بل أيضاً بسبب أثر النبيذ الماديّ على الجسد والوعي، هذا الأثر الذاتي الذي لا يمكن أن يتطابق بين اثنين يشربان من ذات الزجاجة، أي لا مسافة بين الأنا والموضوع اللذين يتغيران معاً، هنا يمكن القول إننا أمام دعوة لقتل ذواقة النبيذ، والانفتاح على حرية باخوس، ذاك الذي حرر نفسه من القيد سُكراً، ودعا من حوله إلى التحرر، فكل منا ذواقة وصاحب تجربة خاصّة، لكن ما هي قواعد الشرب ما بعد موت الذواقة والتحرر من الخوف لترك الكلام للـ"كحول"؟

 تتعالى الفلسفة عن  الموضوعات التي تعجز عن تأطيرها، كالنبيذ (أبيض وأحمر ووردي)، السائل الذي لا تفيد كلمة "تذوق" فقط لضبط العلاقة بينه وبين "الأنا"

ما يحاول داريادي أن يحدده هو كلام الفلاسفة تحت تأثير النبيذ، وموقفهم من معارفه، لا فقط عبر الحديث عن لونه وطعمه والعبق الذي يطلقه، بل أثره على تكوين الأفكار ونطقها، بعيداً عن صرامة الذواقة وحرية السكر اللانهائيّة، لذا يلخص داربادي في القسم الأول من الكتاب مبادئ فلسفة النبيذ، حيث يفعّل التذوق معرفة ومنطقاً مختلفاً عن ذاك المنضبط والمنهجيّ، هذا المبادئ هي:

1- الحدس: بما أن النبيذ ذو آثار مختلفة، بحسب نوعه وحسب شاربه، فالحكم، أو إطلاق الأحكام، بناء على أثره على الحواس، يختلف من شخص لآخر بل ومن كأس لأخرى، فذات الشخص يتحوّل ويتغير مع كل رشفة، و"معرفة" متى يتكلم النبيذ، ومن أي مساحة حسيّة بالذات أمر متروك للأنا وحدسها.

الملفت في كلمة/أداة حدس أن معانيها تتشابه في اللغات المختلفة، ففي الفرنسية ومن منطلق ديني تعني "الرؤية الواضحة"، ومن منطلق الفلسفة هي "المعرفة الآنية المباشرة"، تلك التي نحصل عليها بلحظة، بمجرد إلقاء النظر على الشيء، أما بالعربية فهي "الفراسة"، وأيضاً "التوهّم في الكلام" وفي كتاب التعريفات (الجرجاني) فالحدس هو "سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب، ويقابله الفكر، وهو أدنى مراتب الكشف"، يمكن القول إن الحدس منفي من الفلسفة والتفكير المتماسك، كونه يخلق يقيناً متسرعاً أو مرتبطاً بالخبرة الذاتيّة، تلك التي قد تتناقض وتختلف حد تشابه الكأس والخمر، فلا يمكن التمييز بينهما بأعين الشارب.

2- التوقع الإدراكي: بسبب اختلاف درجات تأثير النبيذ، لا يمكن توقع ما سـ"نعرفه"، فنحن لا نسير على طريق ثابت، بل نختبر بكل حواسنا الطعم والرائحة والصوت والمخيلة، وننتظر ما سيحدث أو أي درب سيفتح أمامنا، وهنا يأتي الحدس لضبط هذه التوقعات، إما للاندفاع وراءها أو تحييدها نحو أخرى منتظرة، خصوصاً أن أثر النبيذ يختلف إن "أدركنا" مكوناته دفعة واحدة أو كلاً على حدة، فالفم يشرب، واللسان يتذوق، والعين تبصر وتعمه، والجلد يسخن، والدم يتدفق، كل منها تهدد تكويننا، وتقدم لنا لحظات مختلفة ووضعيات متنوعة للـمعرفة.

3- مجازات الخبرة الذوقيّة: محاولات الانتقال من المعرفة الحسيّة (الحدس) إلى تلك المفاهيميّة، تتعطل بسبب النبيذ، لينتهي بنا الأمر في أزمة بلاغيّة، فلسان السكر (حرفياً ومجازياً) لا يدّعي الترابط، خصوصاً أن لا أثر للنبيذ إلا عبر اختباره، فهو مادة تترك أثرها على الفرد، لا العكس، تشكله عملية طبيعيّة تتحول فيها المكونات، وتستمر في التحول بعد تذوقها، أي ريق المعشوق/ة ليس نبيذاً، سكرة الله ليست كسكرة النبيذ، أما العكس فممكن، للنبيذ لعب مع الحواس قوامه الحدس والتوقع، هو يفعّل اللسان ليصبح "قيّاساً للمسافة باللعق لا باليقين".

مبادئ فلسفة النبيذ هي: الحدس، التوقع الإدراكي، مجازات الخبرة الذوقيّة، ثنائية الوجود 

4- ثنائيّة الوجود: هذا المبدأ يرتبط بالحدس بالمعنى الدينيّ، أي "الرؤية الواضحة"، فكل معرفة يقدمها النبيذ يقين وعتبة نحو خبرة جديدة، لا حاجة للفكر من أجل إثباتها، في ذات الوقت لا يمكن "احتوائها" لا بالحواس ولا بالعقل، فالنبيذ وشاربه/ذائقه، منفصلان دوماً، لا يتحدان، هناك الـ"أنا" المتغيرة والمتحولة وهناك النبيذ، الأقدم الذي لا ثبات له، الذي نقتبس منه دون امتلاكه، وجوده منفصل عنا ولا حاجة له بنا، فلا النبيذ أنا ولا أنا النبيذ، ولا حلول ولا وحدة، تذوق وشوق دائم للمزيد حد الوجع أو الإغماء.

النزهة الباخوسيّة

تتدفق فصول الكتاب بعد ضبط أسلوب إنتاج "معرفة" النبيذ، إذ يقتبس ويعلق داربادي على النصوص الفلسفية شديدة التنوع على أساس شرطين، الأول من كتب فيلسوف كميشيل دي ممنتين، الذي نقرأ كيف كان يشف النبيذ في مكتبه، إلى ميشيل أونفري المثير للجدل، مروراً بتوما الأكويني وديدرو وباشلار، والشرط الثاني هو نوع النبيذ، الذي يحاول داريادي ان يحدده نسبة إلى المكان الذي كتب فيه النص، ومحاولة رصد خصائص هذا النبيذ وأسلوب تحضيره، ليقترح بعدها شخصية متخيّلة megavinosanto قادمة من كوكب "سيروس" لتحاور هؤلاء الفلاسفة لمحاولة فهم علاقتهم مع النبيذ، وما هي خصائصه الفلسفية، عبر سؤال متكرر يشكل هدف رحلة هذا الكائن، يريد أن يعرف معنى اسمه، ولم أطلق عليه هذا الاسم؟ وما علاقته مع النبيذ؟ كل فيلسوف يجيب من وجهة نظر أدواته الفكرية وتحت تأثير النبيذ الذي شربه.

لن نذكر ردود الفلاسفة ونعلق عليها، لأنها أقرب إلى المتعة الفكرية منها إلى المعرفة الواجب نقلها، لكن ما يثير الانتباه أن هذه الشخصية المتخيلة، لا تعرف معنى اسمها، وكأنها شربت حد نسيان اسمها، أخذها السكر في رحلة عبر العصور، لتكتشف ذاتها، أما الجانب الثاني فهو الحاجة إلى النديم أثناء الشرب، آخر نسأله، ونحاوره ونستمع إليه، وكأن النسيان الذي يفعّله النبيذ مضبوط بهذا الآخر وحواره، هو مرآة الشارب، آخر يرصد عبر الشارب أثر ما يشفّه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard