في العوالم القديمة، عندما كان البشر يتخيلون آلهتهم، ويعبدونها، قبل أن تصبح في ما بعد شكلاً ميثولوجياً ينظر إليه الإيمانيون المعاصرون بعين الاستصغار للعقل البشري التاريخي، كان تساؤل بسيط يتبادر إلى الذهن: هل شاهدت يوماً إلهاً إفريقياً أبيض؟ هل شاهدت إلهاً أوروبياً أسود؟ ألن يكون وجود إله صيني، من دون عيون أفقية، أمراً مستغرباً؟
بالتأكيد يُصمَّم الإله فيزيائياً، بما يتشابه والبيئة التي خُلِق منها، وعلى المعنى الثقافي القائم فيها، فلا أحد يريد قوة ما فوق طبيعية، وتتجسد مهمتها في تحقيق العدل للإنسان المظلوم، وفي إدراج المساواة بين الناس، والتفوق الفيزيائي والمعرفي على البيئة التي نتج منها. لذا، فالإله ببساطة يشبه الإنسان، في المعنى الشكلي، وفي المعنى الروحي.
بغض النظر عن الآلهة المتعددة، والمستمدة من قيم الإنسان اليومية، شكلية كانت، أم ثقافية، مثل القبائل الإفريقية، أو الوثنيات الأوروبية، أو الحضارات الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والآسيوية، والأمريكية اللاتينية، أو حتى الشرق أوسطية، قبل نشوء التوحيد، فالجميع يخلقون ما يمثّل قيمته المعرفية، وما يندمج معه روحياً إلى درجة قد تشعر بقدرة التشابه بين رجل ما، وصورة إلهه. إنه أمر طبيعي في عالم قديم متعدد الثقافات الدينية.
لكن ما يجب الوقوف عنده في هذه المسألة، ليس الجانب التعددي للوجود الإلهي، بل هو الإله في الديانات التوحيدية: هل هو إله مستقل ومختلف عن التصوير، أو التقارب البشري، أو هو مشابه لمعاني الوجود الفيزيائي والثقافي للبيئة التي أنتجته، كلها؟
أليس من الغريب أنه، كإله كلي الاختلاف، لا يشعر سوى بما نشعر به، ولا يقوم بشيء إلا ما نقوم نحن به، ولا يفكر إلا بطريقة تفكيرنا؟ أليس غريباً أنه يشبهنا في هذا المعنى الروحي إلى درجة التوأمة؟
الجواب البسيط، والسريع، والواضح، لجميع المؤمنين بالإله، وبضرورة عدم التفكير في قيمته الوجودية الفيزيائية، هو أنه مستقل؛ لا يشبه أحداً، لأنه منزّه عن البشر. إنه جواب سهل، ولطيف، ومقنع، ولا يُتعب الدماغ أصلاً.
لكن عندما نتحدث عن التشابه، فنحن لا نقصد أنه يمتلك كرسياً ليجلس عليه، ولديه عيون، أو أيدٍ، أو جسد، فهذا التشابه الفيزيائي غير ذي قيمة، وسيتخذ معنى وجدلاً في التحليل الفقهي، وفي صراعات لا أهمية لها، ولن تصل أصلاً إلى أي نتيجة مرضية. لذا، لن أتوقف عند هذه النقطة. أما الغريب في مسألة عدّ الإله منزّهاً عن التشابه البشري، فهو أنه لا يوجد فيه شيء سوى التعبير البشري، بالمعنيين النفسي والعقلي.
فالإله، كما يتم تقديمه، وكما يقدّم نفسه نصياً في الكتب المقدسة، وفي الأحاديث القدسيّة، هو كيان يفكر، ويغضب، ويضحك، ويبتسم، ويحزن، ويرضى، ويقبل الأضحيات، ويراعي الإنسان البائس، ويساعد البشر من حيث لا يعلمون، ويحب، ويخجل، وينتقم.. إلخ.
بغض النظر عما إذا كانت هذه الأمور هي مهمة الإله إزاء البشر الذين خلقهم، أليس من الغريب أنه، كإله كلي الاختلاف، لا يشعر سوى بما نشعر به، ولا يقوم بشيء إلا ما نقوم نحن به، ولا يفكر إلا بطريقة تفكيرنا؟ أليس غريباً أنه يشبهنا في هذا المعنى الروحي إلى درجة التوأمة؟
عندما نتحدث عن التشابه بين الإلهي والبشري، فهذا هو بالضبط ما نقصده.
الآن، قد يخرج بعض المفسرين المعاصرين والمدافعين عن أي صورة للنقاش العقلاني، ويناقضون ما قيل، قائلين إن الإله قدّم نفسه بهذه الصورة البسيطة، والتقريبية للإنسان، لأنّ العقل البشري قاصر عن إدراك الشيء الأكثر علواً واختلافاً؛ وهو القيمة المطلقة للإله كوجود لا يمكن تخيله.
حسب قدرتهم الذهنية، فهم يجدون ذلك التبرير مقنعاً جداً لجدالاتهم حول الوجود الإلهي، من أنه الإله الرؤوف بالعباد الذي يهبط إلى المستوى الساذج للإنسان، كي يستوعب الأخير وجوده، ويفهم طبيعته. المشكلة في هذا الطرح، هي أنّ تفنيده واضح. بما أنّ الإله كلي القدرة، فكان يستطيع أن يخلق إنساناً قادراً على إدراك ماهية الإله التي لا يمكن إدراكها بشكلها المبسط، وتالياً، كان قد رفع من شأن العقل البشري، وتفكيره، وإدراكه للعظمة الإلهية، وسما به كقيمة إنسانية، من دون أن ينزل الإله، بمستواه العظيم، إلى العقل البشري الساذج الذي نحن عليه، من أجل أن ندركه. أو بطريقة ثانية، كان بالإمكان أن يخلق الإنسان على هذا المستوى الذي نحن فيه من السذاجة، والبساطة، ويقدّم الإله نفسه بصورة مختلفة كلياً، وغير مشابهة إطلاقاً لنا، لا فيزيائياً ولا معنوياً. كان بإمكانه أن يكون مترفعاً، ومطلقاً، ومختلفاً، ولا يشبه أي شيء بشري، سواء فيزيائياً أم روحياً، فيجعل البشر عرضة للدهشة الأزلية، من دون قدرة على نقده، أو التشكيك به، كما يفعل البعض الذين يحاولون اكتشاف الاختلافات البسيطة في المعاني الوجودية لفكرة الإله.
كان بإمكانه أن يكون مترفعاً، ومطلقاً، ومختلفاً، ولا يشبه أي شيء بشري، سواء فيزيائياً أم روحياً، فيجعل البشر عرضة للدهشة الأزلية، من دون قدرة على نقده، أو التشكيك به
بمعنى ثانٍ، كان يمكن للإله أن يكون غير قابل للتشابه والتفسير. وعليه، كان من الممكن أن يكون الإنسان عرضة للخضوع المطلق، من دون خلق التشكيكية الدائمة، والتفكير في وجود الإله، أو عدمه، أو بقاء الإله في مصفٍّ عالٍ جداً، ورفع الإنسان إلى مستوى تفكير ارتقائي. وتالياً لن يكون خطّاءً، ولن يكون للإله تبرير لثنائية الخير والشر، عندئذ.
في النتيجة، الإله يشبه الإنسان إلى درجة لا أحد يريد رؤيتها حقاً. وإن كان هذا التشابه قائماً بهذا المعنى النفسي الذي أوردناه خلال كل السردية، فهو فعلياً لا يختلف من حيث صياغة وجوده عن أي تشابه آخر يطرحه المؤمن كفكرة مادية تقليدية، في محاولة ساذجة للارتقاء بإلهه ونفض صفات التشابه كي يعطي الله خصوصيته المطلقة. إذاً، لماذا كان الرجل الأسود القديم يعبد إلهاً أسود والرجل الأبيض القديم يعبد إلهاً أبيض؟ لماذا يتحدث الإله الياباني اليابانية، أما إلاهنا يتحدث العربية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين