مع الثورة الرقمية الهائلة التي تجتاح العالم ومع الاكتشافات العلمية المتزايدة، المترافقة مع تحديات فكرية جديدة، لم يعد كافياً في هذا الزمن الاكتفاء بخدش المقدّسات والإشارة الخجولة إليها من بعيد، فالأسئلة المتجددة لمّا تزل تلمع ببريقها وتفرض حضورها ومشاكستها، ولا تنقضي ولا ينقضي الحديث عنها مهما طال الزمن، ومن هنا ديمومتها وأهميتها وأهمية إعادة طرحها على بساط البحث، مادامت تؤرق العقل الحائر ومادامت أجوبتها معلقة وملتبسة وغير منجزة.
المعتزلة من جديد
رواية أنور السباعي "الأعراف، برزخ بين جنتين" الصادرة عن "كتابنا" لعام 2018، تُعيد إلى الأذهان المعارك الفلسفية والصراعات الفكرية التي دارت من عهود، والتي قضى أصحابها على خلفية مساحة الحرية التي يفكرون بها وتم رفضهم، مستعيراً تاريخ المعتزلة الذين اضطهدوا نتيجة أفكارهم وكُمّمت أفواههم وغُيّبت أعمالهم (على الأقل في التصور الذي حيك حولهم في المخيلة التاريخية)، في تناول جريء للموروث الديني والفكري، لتفكيك هذه المنظومة التي تصادر العقل والفكر، عبر القالب الفني الذي مرّر الكاتب أفكاره فيه.
حوار بين رجل دين وملحد يتواجدان في زنزانة واحدة، في سرد تشويقي يبثّ بسيالة من الشعرية العالية في تعريف المعاني والتفسير الجميل للشعر فيما أورده: الشعر هو ترجمة بالكلمات لنبض قلوبنا، ارتفاعاتنا وانخفاضاتنا النفسية. ما من قالب يتسع لنبض الإنسان، ومن هنا جاء الشعر المنفلت من القوالب والأطر ليطارد حالة شعورية فائرة.
حوار بين رجل دين وملحد يتواجدان في زنزانة واحدة، في سرد تشويقي... رواية أنور السباعي "الأعراف، برزخ بين جنتين" تُعيد إلى الأذهان المعارك الفلسفية والصراعات الفكرية التي دارت من عهود
يحاول الكاتب اصطناع مشهد واحد يدور في حيّز ضيق، هو زنزانة في أحد السجون، وكأنها منصّة مسرح يتحرك الأبطال عليها، فالزنزانة الضيقة تتسع لحياة من وجع في فضائي الزمان والمكان، نزيلها إمام أحد المساجد، وهو الإمام البلقيني، يستضيف عنده معتقلاً علمانياً على خلفية الزلزال السوري، موجهاً الأنظار إلى الحوار الفكري العاصف بينهما، وهذا الحوار، حوار الوجود والحياة والدين، يمتدّ ليشمل الرواية كلها.
يقول جلال الدين الرومي: "الحقيقة كانت مرآة بيد الله، وقعت وانكسرت شظايا، لذلك صار كل من ينظر في جزء منها يعتقد أنها الحقيقة كاملة". من هذه الزاوية يظهر تباين الأفكار بين الملل والطوائف والأحزاب، وكل منها يدّعي أن أفكاره هي القول الفصل فيما يتعلق بالدين والحياة، يدرجه الكاتب السباعي على ألسنة المتحاورين، متنصّلاً من تبنيه لفكر أي منهما، فعلاقة الحرية والأخلاق كانت دائماً أحد الأسئلة الكبرى في الوجود، وحق اختيار الدين من عدمه أولى بوابات الحرية.
وهي القضية التي يُسأل عنها الإنسان وحده ويحاسب عليها وحده، كما السؤال حول ماهية الأخلاق، وهو السؤال الذي حيّر الفلاسفة منذ الأزل، وعدم ارتباط الأخلاق بأي دين كان، بل بكونه منتجاً ثقافياً قادماً من البيئة المنتجة له، بغض النظر إذا أقرّها دين ما أم لم يقرّها، والازدواجية التي يعيشها الكائن وصراع التناقضات في ذاته التي يتنازعها أكثر من نازع، هي صوت الضمير الذي يخبو حيناً ويصعد حيناً آخر، بعيداً عن فكرة الثواب والعقاب.
ولا يكون العقاب أخلاقياً ورادعاً إلا في حالة واحدة، وهي عندما تطبّق على من لا يملكون أخلاقاً، ومن هذا الباب يدخل في صلب الشريعة الإسلامية المتعارف عليها وفق أقوال وتفاسير الفقهاء، ليناقش ويختلف ويضيء أيضاً على اختلاف الفقهاء فيما بينهم على كثير من الأمور مما تجهله العامة، عبر وضع الأقوال والتفاسير تحت مجهر التفكيك كمعنى ومرجعية.
ثلاثة تحاكمهم الرواية: معاوية بن أبي سفيان، لأنه أسس للحكم الوراثي والتوريث، أحمد بن حنبل لأنه أكّد على أسبقية النقل على العقل، والمتوكل العباسي لأنه لاحق المعتزلة وقضى على حرية العقل
فالخمر بين التحليل والتحريم يظهر تباين الفتاوي فيه، وها هو أبو حنيفة النعمان لا يحرم الخمر كما البقية، وإنما حالة السكر التي تذهب بالعقل، كما يعيد أسئلة القدرية والجبرية على لسان غيّاث، نزيل الزنزانة الآخر، مؤكداً أن القضايا الخلافية التي لم تحلّ ستبقى تؤرق وعي الإنسان مهما غُيّبت وغُيّب أصحابها.
الآيات العنفية
في تصعيد للسؤال واتهامات للرب في عرشه ولماذا يترك البشر في هذه الحيرة في استوائه على عرش الوجود، مناقشاً آية الكرسي في استفزاز لجليسه: هل هي بمعنى السلطة على الكون أو فكرة الجلوس أو التتويج، وبالأخير ما شأن الفرد بهذه القضية التي ربما كانت تخصّ الإله وحده، ما معنى إشراكه للعبد بها؟
في تصعيد للحديث الإنكاري، الفرد والإله يتبادلان الأدوار، فالإله الذي مشيئته تأمر بقتل الأطفال والسكوت عن الظلم والقبول بكل هذه المجازر بحق الإنسان هو من يحتاج لغفران البشر، لا بل يتطرّف ليقول هو سيحشر مع البشر في الأعراف، في عبثية معتقد الجنة والنار، ليسمح لنفسه بعدها أن يناقش محتوى الآيات العنفية التي أبعدت غياث عن الإسلام:
"إن الذين كفروا بآياتنا، سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب" سورة النساء:56، وإثارة قضية خلق القرآن من جديد، هل هو خالق أم مخلوق؟ وهذا بحد ذاته كاف كي نتجاوز النصَّ إلى المعنى والفكر المعاصر.
غياث الشخصية الموجوعة التي عرفت وأدركت، صحيح أنه رافض للدين الذي نشأ عليه ولكنه يعتبره الحاضنة التي صاغت إرثه الفكري بين أهله ومحيطه، هي الثقافة التي نهل منها وشكّلت وعيه وذائقته، لذلك كان إحساسه بالعري والانكشاف كبيراً، "كان يلبسه كجلده"، والتلاؤم الذي يحصل عليه هو الهزيمة الكبرى لوعيه وعقله، ما يعكس حيرة الإنسان تجاه الدين والوجود، وقد آن لنا أن نفكك هذا الجلد الذي نلبسه.
لذا يطلق أحكامه الافتراضية لو قيّض له الإمساك بزمام التاريخ، معيداً الحلقة العنفية، تلك التي اعترض عليها كصورة للتناقض الداخلي، فهو يجيز قتل ثلاثة لتأثيرهم المتتابع — في قراءته للتراث—في تاريخية القمع: أولهم معاوية بن أبي سفيان، لأنه أسس للحكم الوراثي والتوريث ومع ذلك يدافع الفقهاء عنه. لماذا؟
لأن الأمر يفتح باباً لو سمحوا به لانهدم إثره بنيان كبير من أعمدة الإسلام، وفق تعبيره، فمعاوية قتل الشورى. أما أحمد بن حنبل فقد قتل العقل عندما أكّد على أسبقية النقل على العقل، وهو الثاني في محكمة غياث، أما الثالث فهو المتوكل الخليفة العباسي، لأنه لاحق المعتزلة وقضى على حرية العقل.
في عبثية معتقد الجنة والنار... الفرد والإله يتبادلان الأدوار، فالإله الذي مشيئته تأمر بقتل الأطفال والسكوت عن الظلم والقبول بكل هذه المجازر بحق الإنسان هو من يحتاج لغفران البشر، لا بل سيحشر مع البشر في الأعراف
ثلاثة يحاكمهم غياث ويطلق أحكامه عليهم في محكمته الظنية، ضمن الحوار مع الإمام القليني الذي كوفئ على عمالته بإقامته بزنزانة خمس نجوم، والزنزانة ماهي إلا هدية الجهات المهيمنة لمن يعمل معها، فهي التي تمسك بخيوط الصراع، لذلك تُعطي مساحات من الحرية للتيارات الدينية لأنها تدرك أنها تستطيع أن تحركها كما تشاء، بالوقت والزمان المناسبين، وحتى داعش هي ورقة يستخدمها الجميع لضرب الجميع.
النار هي جنة أيضاً
تأتي العنونة الإشكالية "الأعراف" والعنوان الجزئي تحتها "برزخ بين جنتين"، ليؤكد استعارتها من القاموس الإيماني، فالبرزخ هو المكان الذي يقف فيه من تساوت حسناتهم وسيئاتهم بين الجنة والنار، فكلنا مخلوقات رمادية تتعادل حسناتها مع سيئاتها.
لذا يقول إن الأعراف مصيرنا جميعاً، في استثمار وتوظيف الفهم القرآني للبرزخ أو الأعراف، وفي انزياح عنه في قوله برزخ بين جنتين، لأن أهل النار سيكونون سعداء في النار، لأنهم في كل لحظة يتذكرون الحق الذي غفلوا عنه في دنياهم، وفي العقاب راحة لضمائرهم فهو بمثابة جنة نسبية الفهم.
في تحليل عميق لبنية الكائن البشري الذي يحمل طبيعة مزدوجة وتناقضاً داخلياً حمل الخير والشر في جنباته، عبر تفكيك لشخصية الإمام القليني الذي يمر بتحولات عبر تاريخه، من مهرب مخدّرات آبق إلى إمام جامع إلى مرشد أمني إلى ناطق باسم الثوار إلى كائن يجمع الموبقات في داخله، ومع ذلك تبقى بذرة عميقة للخير تبلبل كيانه، فتموت ابنته بقذيفة هو مسؤول عن تزويد مرسليها بها، وبعدها يحطم أسوار الشر بداخله ويدنو من نور الإنسانية، عندما يسمح بأن يزرع قلب ابنته المتوفاة في جسد ابنة غياث، ضيفه في الزنزانة، في استتابة ضمير يتوجّع من كثرة الآثام.
لا يغفل المرء عن المكان الذي يشير إليه في الإهداء: "إلى تلك البقعة من الجغرافيا التي مزقها التاريخ"، والإضافة الأخرى: "إلى كل الذين صُنعت من أشلائهم أصنام الإيديولوجيا"، في إشارة ضمنية للبشر الضحايا ومصائرهم الكارثية التي يتغنى بها أمراء الحروب بقذف المزيد إلى نارها الرجيمة غير المقدسة.
أما لماذا لم تأخذ الرواية حظها من الانتشار؟ فذلك مفهوم ومعروف، فقد مسَّ محرّمين قاتلين: الدين والسياسة، فمن وافقه على أحدهما عارضه باستماتة على الثاني، ومن هنا كان الصوت الخفيض الأصداء لعمل يتحدّث عن فترة حرجة ومؤرقة في الوجدان الجمعي، ولما تزل مفاعيلها مستمرة في الساحتين المحلية والدولية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...