شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
فيلم

فيلم "صالون هدى"... ماذا فعل مشهد لجسد امرأة فلسطينية عارية بنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 11 مارس 202211:02 ص


إن أكثر ما يفتقده الإنسان العربي في هذه الأيام، هو الملحمية والصدق، والاتّقاد والحماسة الحقيقية وشهوة المعرفة. افتقاد الملحمية هذا أسفر عن أجيال عربية منغلقة وخائفة، تتعلق بأي قشة تقيها شر تسارع التطور الفكري والحداثي، وأنتج مجتمعات عدائيةً وحشيةً تسحق كل فكرة جديدة، وتتشبث بأظافرها في جلد الماضي الواضح والمريح من دون أي قدرة على مواكبة الزمن الذي لا ينتظر أحداً؛ إما أن تلحق به، وإما أن تظل عالقاً على أطلال الأساطير والخرافة.

إن أكثر ما يفتقده الإنسان العربي في هذه الأيام، هو الملحمية والصدق، والاتّقاد والحماسة الحقيقية وشهوة المعرفة.

وربما ليس من الأخلاقي أن نلقي بكل اللوم على الإنسان العربي لكونه غير قادر على استيعاب الآخرين، وغير مستعد لفهم الاختلاف وتقبّل أن هناك بشراً غيره يعيشون على كوكب الأرض لهم أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم التي لا بد من تقبّلها كشرط جوهري لنبذ العنصرية تجاه العربي الذي لا ينفكّ يرجم الأمم الأخرى بحجارة معتقداته التي لا يرى صلاح الكون من دونها؛ فالعربي هو ضحية كل شيء حوله، بدءاً من الفشل في إقامة أمة عربية واضحة الملامح والقوام، وانتهاءً بكل الصراعات السياسية والأزمات الدينية التي عاشها الفرد العربي على مدار العقود الأخيرة.

"كان بالإمكان تجاوز مشهد السيدة العارية في بداية الفيلم!"

إن الرأي الأكثر رواجاً حول فيلم "صالون هدى"، هو أنه كان بالإمكان تجاوز مشهد السيدة العارية بطلة الفيلم، والتي تظهر في المشاهد الأولى، أو حذفه، إذ يصوّر المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، مشهد ابتزاز جنسي من أجل إسقاط سيدة فلسطينية (ريم)، في براثن المخابرات الإسرائيلية على يد صاحبة صالون تجميل نسائي تُسمّى "هدى". فبعد أن تقوم "هدى" بوضع المنوم لـ"ريم" في القهوة، تسحبها إلى غرفة داخلية في صالون التجميل المقام داخل منزلها، ويكون في الانتظار داخل الغرفة رجل دوره أن يصور لقطات جنسيةً بوضعيات مختلفة مع ريم، من أجل ابتزازها لاحقاً وإسقاطها في شبكة العمالة التي تديرها هدى.

بعد انتهاء "هدى" من تصوير اللقطات الجنسية، تأمر الرجل بالانصراف فوراً، وتنهره عندما يضع يده على جسد "ريم". هذه الومضة في الفيلم جاءت لبناء درامي قادم في شخصية "هدى"، وتالياً، لم يكن يصلح أن يتم تجاوز هذا المشهد، وذلك لأنه سيُبنى عليه سرد درامي خلال الفيلم.

إن قيام "هدى" باستعجال الرجل للرحيل، ونهره على لمس "ريم"، إضاءة على الجانب الإنساني الحي في "هدى"، والتي يظهر لاحقاً أنها هي أيضاً متورطة في هذا العمل، إذ تم إسقاطها بطريقة مشابهة، وأجبرتها مخابرات الاحتلال الاسرائيلي على إسقاط الفتيات في العمالة وإلا سيتم فضحها والتشهير بها وتدمير حياتها.

بعد انتهاء "هدى" من تصوير اللقطات الجنسية، تأمر الرجل بالانصراف فوراً، وتنهره عندما يضع يده على جسد "ريم". هذه الومضة في الفيلم جاءت لبناء درامي قادم في شخصية "هدى"، وتالياً، لم يكن يصلح أن يتم تجاوز هذا المشهد، وذلك لأنه سيُبنى عليه سرد درامي خلال الفيلم

بالإضافة إلى هذا المعنى الكلاسيكي، هناك معنى أعمق لم يكن ينفع إبرازه من دون عرض مشهد العري كاملاً، وهو إظهار مدى بشاعة الموقف، وتسليط الضوء على جانب مُظلم في الإنسان، وهو استمتاعه بالشر حتى وإن كان مجبراً على فعله. فبعد الانتهاء من تصوير اللقطات الجنسية، وبعد استيقاظ "ريم"، تخبرها "هدى" بفعلتها، فتنهار "ريم"، وتبدأ بالتساؤل: "ليش هيك عملتي! ليش أنا!!"، فتجيبها "هدى" ببرود قاتل: "بستغرب من الإنسان لما يصير معه حاجة منيحة ما بسأل ليش أنا، بس لما يصير فيه حاجة سيئة ببدا يسأل ليش، قدر الله يا ريم...".

وحين تغادر "ريم" منهارةً ومذهولةً بما حدث، تقول لها هدى: "استنّي أعملك شعرك طيب!". كم من الممكن أن يكون الإنسان حقيراً وشريراً، مستلذاً بالشر، حتى وإن كان مجبراً عليه؟ هذه الرسالة الخفية للمخرج أبو أسعد، لم يكن من الممكن تقديمها من دون مشهد العري كاملاً.

هل أنتم غاضبون لأنها عارية، أم غاضبون لأنكم تشتهونها؟

نحن نعيش مشهداً من ذهن نيكوس كازانتزاكيس في رواية "زوربا"، ولكن نعيشه حقيقةً. في الرواية، يجتمع رجال قرية كريت لرجم الأرملة الزانية، ويبدؤون بمحاصرتها بتشكيل دائرة من الرجال حولها، وهي الملتحفة بالسواد تحاول الهرب دون جدوى، إلى أن يظهر زوربا برفقة السيد باسيل، ليقتحم دائرة الرجال المتحلقة حول السيدة ويحتضنها، وبعينيه المشتعلتين يقول: هل أنتم تريدون رجمها لأنها زانية، أم لأنكم لم تتمكنوا من ممارسة الجنس معها؟

لقد أوجز كازانتزاكيس بهذا المشهد تعاطي الحالة العربية مع فيلم "صالون هدى" ببراعة، فهذا تماماً ما حدث مع كل من سمع بأن هناك فيلماً "فلسطينياً" تظهر فيه سيدة عارية تماماً. فلوهلة أولى سيتبادر إلى ذهن البعض المشوش والضال أنه لا يريد من هذه الدنيا إلا أن يرى ذلك الجسد العاري! ثم بعد أن يراه وينتهي منه، سيخرج للعامة ليحذّرهم من الأهوال التي رآها، وسيبدأ بإلقاء المواعظ والحكم حول الشرف والعفة، وسيهاجم أي "زوربا" يظهر ليدافع عن السيدة العارية. هذه الممارسة الجبانة إنما هي من أجل غسل العار الذاتي الذي شعر به بعد مشاهدة العري في مشهد لم يتجاوز الدقيقة من فيلم "صالون هدى".

هل حقاً جسد المرأة العاري مدعاة للعار، ومن يراه عليه أن يغسل عقله، وينفر محذّراً منه، ومجرّماً كل من يعدّه مشهداً عادياً؟

إذاً، هو يريد أن يعيد بناء صلاحه الشخصي على حساب تجريم الآخرين وتحقيرهم، واتهامهم بالفجور ليشعر بالتقوى والصلاح. إنه منطق غريب فعلاً، ولكن التساؤل الذي يشرق بعد التفكر في هذه الحالة هو:

هل حقاً جسد المرأة العاري مدعاة للعار، ومن يراه عليه أن يغسل عقله، وينفر محذّراً منه، ومجرّماً كل من يعدّه مشهداً عادياً؟

إن محاولة الإجابة عن هكذا تساؤل هي أمر متقدم للغاية وخطير خاصةً أننا لا زلنا في مرحلة الخوف من الجسد، ولكن لا بأس من الصدمة، ففي حالات استعصاء المرض واشتداده لا يظل أمامنا سوى الصدمة.

الغريب أن في المشهد نفسه الذي ظهرت فيه السيدة العارية، ظهر بجانبها رجلٌ عارٍ أيضاً، لكنه لم يثِر حفيظة أي ممن سمعوا بالقصة أو شاهدوا اللقطة. إذاً، فالأمر غير متعلق بالعري. هو متعلق بالمرأة ذاتها، ونحن في مواجهة الكبت الجنسي مجدداً، وأزمة الوصول إلى سن الثلاثين في غالبية المجتمعات العربية، من دون معرفة أي شيء عن جسد المرأة.

لم يكن جسد الإنسان يوماً شكلاً من أشكال العار أو الخزي، لولا أيديولوجيات التضليل الديني والترهيب من أجل نزع صفة الإنسانية عن الإنسان لاستعباده بعد ذلك، وإلقائه في الصحراء، وسواء كان الحديث عن الرجل أو عن المرأة، فالحديث هو عن الإنسان في نهاية المطاف، لذا فإن الأزمة الحقيقية ليست في مشهد السيدة العارية، بل في شعور المشاهد بالعار والخطيئة كونه شاهد جسد امرأة عارٍ تماماً. إذاً، نعود إلى جوهر الأزمة: عدم قدرة الإنسان العربي على تقبل ما لا يعرف، من دون القدرة على محاولة المعرفة، هو الذي يرى المعرفة شيطاناً لعيناً يريد إخراجه عن عقيدته ومعتقداته التي قطعاً هي الوحيدة الصحيحة في هذا الكون الرحيب.

 فلوهلة أولى سيتبادر إلى ذهن البعض المشوش والضال أنه لا يريد من هذه الدنيا إلا أن يرى ذلك الجسد العاري! ثم بعد أن يراه وينتهي منه، سيخرج للعامة ليحذّرهم من الأهوال التي رآها، وسيبدأ بإلقاء المواعظ والحكم حول الشرف والعفة

"السيدة الفلسطينية المناضلة والصامدة لماذا تذهب إلى صالون تجميل نسائي؟!"

في الحقيقة هذا العنوان مقتبس من تعليق تركه أحد المارة على منشور على فيسبوك يتحدث صاحبه حول فيلم "صالون هدى". إن فكرةً تستوقفك، تجعلك تفلت كل شيء من يدك وتتأمل كلمات هذا الشخص؛ كيف يفكر؟ أين يعيش؟ كيف يعامل زوجته؟ ما هي أكلته المفضلة؟

إلى جانب تعليقات أخرى كثيرة، مثل: "أنت موافق على هذا الفعل؟ إذاً لماذا لا ترسل أختك لتمثل أدواراً مشابهةً، أيها الـ …"، و"هذه هي الثقافة؟ تريدون نشر الرذيلة والفساد والعري؟"؛ هذه تعليقات اعتدنا عليها، ولكن التعليق الصادم هو ذلك الذي يستنكر ذهاب الفلسطينيات إلى صالونات التجميل، بذريعة أنهن أمهات صامدات ومناضلات!

هذا طرح جديد وغريب، مفاده أن المرأة الفلسطينية لا يحق لها ممارسة حياتها وأدوارها وما تحب إلا بعد تحرير فلسطين، وبهذا المعنى، لا يحق لنا جميعاً أن نعيش الحياة التي نريدها، فنحن شعب محتل، ويجب أن نظل عراةً حفاةً في ساحة المعركة حتى تحرير البلاد، بعد ذلك يمكننا البدء بالعيش.

هذا الخلط الساذج بين الفردية الشخصية، والهم الوطني، هو أمر شائع إلى حد ما، لذا تسمع أحدهم يقول إن الناس في قطاع غزة لا تحق لهم المطالبة بحياة كريمة، فالمكتوب عليهم هو مقاومة الاحتلال وخوض الحروب، ومن يطالب بالحياة خائن للوطن. بالمنطق هذا طرح ذلك الشخص تعليقه.

إن لكل فلسطينية طريقتها المميزة والفريدة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، والتي لا تتعارض مع أسلوبها في عيش حياتها، والأمر ذاته ينطبق على الفلسطيني أيضاً، فلا يحق لأي جهة أو أي فرد أن يفرض على الفلسطينيين الطريقة الموحدة والوحيدة التي تصلح لمقاومة الاحتلال. فتوحيد طرق المقاومة هي الخيانة العظمى للشعب الفلسطيني، إذ إن الطريقة الواحدة للمقاومة يمكن خلق أسلوب تصدٍّ لها، أما حين يكون لكل فلسطيني أسلوبه المقاوم الخاص، فلا يمكن أن تفنى فلسطين

هذا طرح جديد وغريب، مفاده أن المرأة الفلسطينية لا يحق لها ممارسة حياتها وأدوارها وما تحب إلا بعد تحرير فلسطين، وبهذا المعنى، لا يحق لنا جميعاً أن نعيش الحياة التي نريدها، فنحن شعب محتل، ويجب أن نظل عراةً حفاةً في ساحة المعركة حتى تحرير البلاد، بعد ذلك يمكننا البدء بالعيش

أنتَ لا تشبهني إذاً أنت عدوي... كل ما لا نعرفه هو خطأ ويهدد استقامتنا!

"لقد ظهرت لي الآن على حقيقتك، كشفت وجهك الآخر، كنت أعرف منذ البداية أنك لست صديقي..."، مثل هذه العبارات تقال عادةً في الحياة العربية اليومية كتعبير عن بداية عداوة بين صديقين أو اثنين من المعارف، ولكن ما ستعرفه لاحقاً مع تقادم الزمن خلال حياتك في المجتمعات العربية، أن مفهوم العداوة لا ينحصر في الخلافات الاجتماعية العادية، بل يتّسع ليشمل الخلافات الفكرية والعقائدية، أي أنك في المجتمعات العربية قد تجد نفسك منبوذاً وأحياناً مهدداً بالقتل! فقط لأنك ترى الحياة بعيون مختلفة عن عيون الآخرين.

الخوف يصنع من الإنسان وحشاً، والتيه يخلق سفّاحين بلا عيون. إن ما فعلته الجماعات الدينية المتطرفة في الأوساط العربية هو خلق الوحوش الخائفة التي ليست بحاجة إلى شيء سوى الطمأنينة.

إن ما عاشه العربي الحالي خلال حياته، لم يكن أمراً هيّناً، ففي كل منطقة عربية كانت وربما لا تزال هناك طائفة دينية متطرفة تبث سمومها بشكل يومي في كل مكان؛ في الشوارع، وعلى الحوائط، ولوحات الإعلانات، وفي سيارات التاكسي، والمؤسسات، والمرافق العامة والخاصة... لماذا كل هذا التطرف؟

نعم، هو الخوف. الخوف يصنع من الإنسان وحشاً، والتيه يخلق سفّاحين بلا عيون. إن ما فعلته الجماعات الدينية المتطرفة في الأوساط العربية هو خلق الوحوش الخائفة التي ليست بحاجة إلى شيء سوى الطمأنينة، وإعادة رسم الأدوار المفروضة على الفرد، أي عدم إثقال كاهل الفرد بكل العقائد والخرافات والأدوار التي إن لم يعتنقها أو يمارسها فهو إلى الجحيم. إن الإنسان العربي بحاجة فقط إلى حياة طبيعية يستطيع فيها إعادة فهم الحب والصدق، وإعادة التصور عن الله بوصفه خالقاً عظيماً محباً لا حاقداً، وليس معاقباً ينتظرك لتخطئ ليلقي بك في الجحيم.

بهذا المعنى فقط يستطيع العربي أن يسير في الشارع مطمئناً من دون أن يراقب النساء، وهل هن محجبات أم لا؟ ومن دون أن يراقب زلات الناس ليقيم عليهم دين الله. حين يعرف أن دوره في حياته هو الاهتمام بحياته ذاتها لا بحيوات الآخرين، حينها سيصل إلى معنى الانفتاح وسيكون قادراً على تقبل الآخر مهما كان اختلافه معه شاسعاً، وسيكون أكثر عقلانيةً وفهماً، ولن يخجل من زيارة "صالون هدى"، أو أي صالون آخر، فهو متّزن بما يكفي ليخلق تصوراته الخاصة حول كل شيء من دون أن يهتز أو تثور ثائرته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image