شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"عبد" يقفز فوق "السيدة" ويمزّقها... خيال الـ"موظفين"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 12 مارس 202201:51 م

يسعد صباحكم كلكم يا شغّالين


"حملق في رئيسه، فرآه ينتفخ رويداً رويداً، ويمتد الانتفاخ ماحياً جميع القسمات والملامح، مكوناً من الرجل كرة ضخمة خفيفة الوزن، ومضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر، ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد، والتصقت بالسقف وهي تتأرجح".

كان هذا خيال أنيس، بطل رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، الموظف الحانق على واقعه وعلى مديره في الوظيفة، وعلى روتين عمله، يقف أمام رئيسه ليتلقى التوبيخ مبتسماً ابتسامة بلهاء، بعد أن سرح في خياله فاختفى صوت رئيسه، وتحوّل جسده إلى كرة تتأرجح في السقف.

شعرت وأنا أعيد كتابة فقرات نجيب محفوظ تلك أنه حاول تجسيد "حقيقة" المشاعر المكبوتة في أعماق الموظفين والعاملين. مشاعر ساخطة، غاضبة، تجسد ربما دوافع مستقبلية للثورة ضد نظام العمل بتنويعاته.

فتحت تلك الكلمات الطريق لتساؤلاتي: كيف يتخيل الموظف منا رئيسه، إلى أي مدى قد يصل هذا الخيال وفي أية ظروف؟

هل يصل الأمر إلى الثورة أو القتل؟

في فيلم "مدراء فظيعون"، نرى شخصيات نك ودايل وكيرت، أصدقاء جمعتهم كراهية المدراء والرؤساء في العمل، فبادروا بالتخطيط للخلاص منهم، مستعينين بقاتل مأجور.

الرغبات المكبوتة داخل كل موظف يعاني من سوء أخلاق مديره.

يُصنف الفيلم ضمن قائمة الكوميديا السوداء، أراد المخرج سيث جوردن من خلاله إمتاع المشاهد والتطرق في الوقت ذاته إلى قضية حساسة، الرغبات المكبوتة داخل كل موظف يعاني من سوء أخلاق مديره.

شعرت وأنا أشاهد الفيلم أنه يلمس جزءاً من تجربة الموظف الحياتية، فربما قصة "نك" الذي أدى دوره الممثل الأمريكي جاسون باتمان، تعكس بشدة قصصاً لموظفين أرادوا الترقية في الوظيفة، لكن تجاهل المدير لهم أحبطهم، وضاعف من الكراهية.

في اليوم الذي يقرر المدير الإعلان عن صاحب الترقية الجديدة، يتجاهل اسم نك تماماً، يتخيل الأخير نفسه ممسكاً المدير من ربطة عنقه، ويسحبه إلى النافذة الزجاجية، ويرميه إلى الأسفل، ثم يصحو من تخيلاته على صوت المديرـ يقول له: نك... نك.

أما كيرت الذي أدى دوره الممثل الأمريكي "جاسون سوديكس"، يعمل لبناء الشركة واستمرارها، فيأتي ابن المدير المتعجرف قليل الخبرة، ويهدم كل ما بناه الموظف خلال سنوات.

وربما تجسد قصة ديل، أدى دوره الممثل الأمريكي "تشارلي داي"، الذي يعاني من تحرش مديرته الشرهة جنسياً، قصصاً واقعية لرجال يقعون تحت وطأة الخوف من المديرة، والرغبة بقتلها في آن معاً، إلا أنه قرر التغلب على شهوة مديرته، التي حاولت استغلاله جنسياً، فأعطته دواء مخدراً، وجردته من ملابسه، ومارست معه الجنس وهو نائم، ثم صورته وهددته بنشر الصور، إن لم يُقم علاقة حميمية معها.

في النهاية، يدرك الأبطال الثلاثة، أن البقاء مع مدير مُتسلط، وتحمّل إهاناته، ليس سبيلاً للنجاح، وأن التخلي عن عمل مزعج، أمر صحي أكثر من الاستمرار فقط للحفاظ على المرتّب، فالحياة تعطينا الكثير من الخيارات، ولكنها تطلب الشجاعة للخروج من دوائرنا المغلقة، والانطلاق إلى رحابتها وسحرها الكامن بإدراكنا لذواتنا.

ولكن… ماذا عن نهايتنا نحن في واقعنا؟

خيالات العبودية

"خرجتْ مسرعةً للقاء زوجها القادم من بغداد، بينما بقيتُ متسمرة في مكاني، وعلى يميني يجلس ذلك العبد!".

تحكي رزان، شابة لبنانية موظفة في شركة خاصة في مدينة السليمانية في إقليم كردستان، وصلت العراق منذ نحو عام، بعد الأزمة التي عصفت بلبنان.

سألتها: من هي تلك السيدة؟ ومن هو ذلك العبد؟

أجابت: "المديرة، فتاة في الثلاثين من عمرها، جميلة وأنيقة، وتتحدث الإنكليزية بطلاقة، لكن بعد تجربة العمل معها أستطيع أن أصفها بالرجعية".

"أما ذلك العبد، فهو مسؤول التسويق، يصل في وقته، يجلس صامتاً، ينفذ الأوامر، يومي برأسه بالإيجاب، يؤيد المديرة بشدة، ويختلق قصصاً خيالية لتأكيد فكرتها، لكنه يحاول مرات التمرّد، يجرب الاستماع لأغنية، فترمقه بنظرة ثاقبة يختفي معها صوته وصوت المغني، يطبق الصمت على المكتب الخشبي الأنيق".

ما هي الرغبات المكبوتة داخل كل موظف يعاني من سوء أخلاق مديره؟ "تخيّلت أن جمالاً تسير في شوارع بغداد، تركض نحوها، وترفعها من شعرها لتسقطها في وعاء المنسف العراقي"... مجاز في رصيف22

تكمل رزان حكايتها: "سألته مرّة هل أنت سعيد بعملك؟ أجابني: لو أحكي ما بداخلي أقتلهم جميعاً، قلت: احكي، فقال: أتخيل نفسي فوق المديرة أمزقها إرباً، ومع كل ضربة توجعها، أقول: خذي أيضاً، يعجبكِ هذا، أم ترغبين بالمزيد؟ نظر نحوي، وقال:هل وصلك شعوري؟"، فأومأتُ بالإيجاب.

وماذا عنكِ؟

"جرى حديثُ في المكتب عن طقوس عيد الأضحية في العراق، وبدأت المديرة بالتكلّم، نظرتُ إليها وتخيّلت أن جمالاً تسير في شوارع بغداد، وتراها من بعيد، فتركض نحوها وترفعها من شعرها لتسقطها في وعاء المنسف العراقي، وتغرق في "التمّن والمرك" أي (الأرز مع صلصة البندورة والفاصولياء)".

هالني تلك التشبيهات والأحاديث، وتساءلت حول ما يمكن أن تسببه ظروف عملنا من ضرر في مشاعرنا الأخلاقية حيال نوعية معينة من البشر، قد يبادلوننا نفس الكراهية.

"بدأت أشتاق لأشعة الشمس".

وكأن رزان قرأت ما يجول بخاطري، قالت: "بعد نحو عام من العمل تسع ساعات يومياً داخل المكتب، بدأت أشتاق لأشعة الشمس، أريدها أن تحرق وجهي لتحييني من جديد، صرت أبحث عن مخبز قريب لأشمّ رائحة الخبز، وهو يخرج ساخناً من النار".

"لم أتوقع يوماً أن أكره رائحة العطر التي ينشرها الجهاز كل 60 ثانية داخل المكتب، ولم أظن يوماً أن صوت الآذان سيذكرني إنني إنسانة، مازالت تتنفس بقلب يخفق لصوت المؤذن الذي كدتُ أن أنساه".

يُلقي نظام العمل بلعنته على الموظف، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً، وما يرسّخ نظام العبودية الجديد، الكاميرا المعلّقة في زاوية الحائط، وكأنها "الأخ الأكبر" في رواية جورج أورويل الشهيرة.

تقول رزان: "تسجل الكاميرا حركاتنا، وأحاديثنا، وأنفاسنا، ودقات قلبنا، وإيماءات وجوهنا، وربما حتى أفكارنا".

أحاول أن أعيد ترتيب وصياغة أفكاري عن العمل برؤية رزان، فأجدني أكتب: إذاً شعور الموظف بأنه مُراقب، ومُكره على العمل، من قبل رئيس يراه آلة منتجة، مجردة من المشاعر أو الأهواء، لا يمكنها الشكوى أو المطالبة بالراحة.

هذا الشعور يتراكم، طبقات من المشاعر والأفكار السلبية يدفنها الموظف بداخله، ويفجرها على شكل تخيلات، يظهر فيها المدير حشرة أو كرة أو ربما بقرة أو حيوان مفترس.

متى ستدق الساعة الخامسة؟

ها هو الثلج يغطي مدينة أربيل، ويغرق العالم الإلكتروني الأزرق بالصور البيضاء، لأناس تعرفهم ليمار، وآخرون لا تعرفهم، يشاركون قصصهم على فيسبوك وسط الثلج، تقول الشابة السورية، (36 عاماً): "حصلت على إجازة يوم كامل للعب مع الثلج، انطلقت إلى العالم الأبيض، بعد أن شكرت رئيسي في العمل، إنه حقاً رئيس رائع".

كنت أراقب وجهها أثناء حديثها، لم ألحظ ابتسامة على شفتيها، أو سعادة في نظرتها، هممتُ بسؤالها، فقاطعتني مبتسمة: "هل صدقتي حقاً أنهم منحوني إجازة لألعب مع الثلج؟ لم يفعلوها في مرضي، فهل سيأبهون بهواية موظف؟ إنها مجرد تخيلات، في الواقع بقيت حبيسة المكتب، أراقب عقارب الساعة، متى ستدق رقم خمسة اللعين".

ما الذي يجبرك على العمل؟ تجيب: "المرتب الشهري طبعاً، الخوف من التغيير، صعوبة الخروج من المنطقة الآمنة المستكينة الكسولة بداخلي، أعباء الحياة المتزايدة يومياً، والتي تجعل هذا السجن الذي يسمونه عملاً أضيق وأضيق، يختفي معه الفضاء الرحب للقرى الهادئة، فالحياة في مدينة حديثة تبتلعك، وتحوّلك إلى روبوت، إضافة إلى مشقّة اتخاذ قرار العودة إلى دمشق الغارقة في الظلام".

أنت لست فاشلاً، معظم الوظائف هي خرائية أو هرائية وفاشلة في فهم طبيعتنا كبشر، من حقنا أن نكره العمل ومدرائنا الذين يكسبون الكثير بمهام الـ"البولشيت"، من حقنا أن نشتاق لأشعة الشمس... مجاز في رصيف22

ترى ليمار أن المشكلة ليست فقط في طبيعة العمل الروتيني، أو في طول ساعاته، بل في البنية الفكرية للرؤساء، تقول: "أحقر أنواع الرؤساء هؤلاء الذين يتفاخرون بعبودية الموظف لهم، فيصبح محبّاً للاعب كرة القدم الذي يحبه الرئيس، ونوع القهوه التي يفضّلها، يكره العبد ما يكره صاحبه ويحب ما يحبه، بهذا يبقى مستكيناً في مساحته الآمنة".

يعتبر الأنثربولوجي الأمريكي ديفيد غرابر، العمدة في صك مصطلحات ومفردات تعكس تطور الوظائف الحديثة، والتي سماها وظائف الهراء/ الخراء أو “البولشيت”.

يرى غرابر أن أغلب الوظائف ليس لديها رواتب تتناسب عكساً مع القيمة التي تُقدّمها للمُجتمع، فمثلاً المعلّمون والمُمرّضات وعمّال النظافة، هذه الوظائف لو توقّفت لبعض الوقت، فإن المُجتمعات الإنسانية ككل ستتضرّر، لكن مع ذلك فإن رواتبها من بين الأدنى بشكل عام.

في المُقابل، المُدراء التنفيذيون، والمسؤولون في مُختلف المراتب في الشركات، والمضاربون في أسواق الأسهم كلّهم يتلقّون رواتب ضخمة، رغم أنه لو اختفت أغلب هذه الوظائف لن تتضرّر البشرية، بل قد تستفيد في حالات عديدة.

يقول غرابر: "كلما ارتقينا في السلم الوظيفي، كلما زادت نسبة وأعداد الوظائف التافهة، ومنها مثلاً وظيفة مساعد أو سكرتيرة تنفيذية، تلك الوظائف التي تهدف بشكل أساسي لجعل من يشغلونها يظهرون بمظهر جيّد، ربما تصح تسميتهم: موظفو الهراء في بيروقراطية الشركات".

خلص غرابر إلى أن تبنيّ أساليب أو معايير إلزامية للغاية لتطوير الشركات واختبارها، يضع ضغوطاً غير عادلة على الموظفين الذين تم إعدادهم مسبقاً للفشل.

لذلك يمكننا القول بإنصاف إن البيروقراطيات هي أشكال طوباوية من التنظيم، لمجموعة من الطوباويين الذين لديهم إيمان ساذج في كمال الطبيعة البشرية، ويرفضون التعامل مع البشر كما هم في الواقع.

يتساءل غرابر، ما الذي يقود أصحاب الشركات إلى وضع معايير مستحيلة، ثم إلقاء اللوم على الأفراد لعدم الالتزام بها؟ لكنه يعود ويجيب: “كل البيروقراطيات تفعل ذلك، بقدر ما تصرّ على مطالبها، تكتشف في النهاية أنها غير معقولة، نظراً لأن عدداً كبيراً من الناس لن يكونوا قادرين دائماً على الأداء كما هو متوقع، وتستنتج أن المشكلة ليست مع المطالب نفسها، إنما عدم ملاءمتها الفردية لكل إنسان يفشل في الوفاء بها”.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard