شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لن أنتظر الموت في سريري"... مسنّون لبنانيون يعودون إلى صفوف الدراسة الجامعية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 9 مارس 202202:19 م

"من قال إنه مع تقدّمنا في العمر تموت أحلامنا وتقف حياتنا؟ ومن يبرهن على أن العلم في الكبر ليس أيضاً مثل النقش في الحجر؟ نعم بعد السبعين والثمانين، يمكننا التعلّم من جديد. بل على العكس، في هذه المراحل العمرية نتعلّم عن قناعة وحب ونضوج. بعضنا فاتته أحلامه بسبب ظروف ما، لكن هذه الأحلام ستعود حين نقرر ذلك. حين نستدعيها ونتمسك بقناعة أننا لن نخرج من الدنيا وهناك غصة بسبب عدم تحقيق ولو جزء منها".

هذه هي النظرة الفلسفية لنيبال الصايغ، السيدة اللبنانية التي ناهزت السبعين من عمرها، واليوم حققت رغبتها في التعلّم الجامعي، بعدما حرمتها ظروف الزواج والسفر مع شريكها إلى إيطاليا قبل أكثر من 40 سنةً، من متابعة تخصصها في مجال الحقوق.

تقول نيبال في حديثها إلى رصيف22، عن تجربتها مع جامعة "كبار السن" التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت: "حين قرأت عام 2010، إعلاناً عن افتتاح هذه الجامعة، لم أتمالك نفسي وسارعت إلى التسجيل فيها، سيّما أن شروط التسجيل لم تكن معقّدةً، كما أن قسط المحاضرات كان رمزيّاً مقارنةً مع أقساط الجامعة الأمريكية".

نعم بعد السبعين والثمانين، يمكننا التعلّم من جديد. بل على العكس، في هذه المراحل العمرية نتعلّم عن قناعة وحب ونضوج.

بالنسبة إلى السيدة السبعينية التي لم تصبح أماً ولا جدةً، "الحياة ليست إنجاب أولاد، ثم حين نكبر يصير دورنا الركض وراء أحفادنا، وتمضية الوقت بين المطبخ واللعب معهم، وانتظار زيارة الأقارب من وقت إلى وقت فحسب. الحياة هي كفاح حتى الممات، وكل شخص يختار ما يحب فعله، وما يريح نفسيته. بالنسبة إلي السفر والخروج والتعلّم وممارسة الهوايات والتعرف على مختلف شرائح المجتمع هي الحياة، وليست الصور النمطية المعطاة عن المسنين".

تدرك نيبال تماماً أن متابعة تحصيلها العلمي ليس لإيجاد فرصة عمل، بل لإشباع رغباتها والإثبات لنفسها أولاً أنها قادرة على إكمال مسيرة حياتها من دون عطف أو حاجة إلى أحد. "العلم بالنسبة إلي تنشيط للذاكرة ورياضة للروح والجسد. حين تشعر بأنك شخص منتج لن ينال منك المرض أو يهزمك. لا أستطيع وصف الفرحة الكبيرة حين أرى الفخر في عيون أولاد أخوتي ورفاقهم وكلامهم وهم يشجعونني على ما أقوم به ويقولون إنني قدوة لهم في مستقبلهم".

معظم الاختصاصات المتوفرة في الجامعة لها علاقة بالفنون والتاريخ والأدب وعلوم الحياة، وأقرب الصفوف إلى قلب نيبال صفوف الموسيقى والعلوم ومن بينها علوم الزراعة، كما تؤكد أنها استفادت من محاضرة عن كيفية التعامل مع المريض في المنزل. حينها كان زوجها مصاباً بالباركنسون واستطاعت مساعدته في محنته.

وتضيف: "لو تسنح لي الفرصة اليوم سأختار من دون تردد تعلّم الغطس، خاصةً أني أمارس السباحة، وكذلك أحب تعلّم التصوير، وقد أجرّب قريباً رياضة القفز من المظلات لأنها حلم يراودني".

نيبال مع زميلاتها في الجامعة

ليس للأحلام عمر

"الأحلام لا تشيخ. حين أتممت واجباتي العائلية مع زوجي وأولادي قررت التفرغ لمرام التي لها الحق في العيش والتمتع بالحياة ومتابعة تعليمها ولو في سن الـ85". هذه هي وجهة النظر الإيجابية لمرام قبيسي التي عادت إلى صفوف الدراسة الجامعية منذ عشر سنوات ولا تزال حتى اليوم تتابع المحاضرات في تلك الجامعة، ولو عبر الإنترنت حالياً بسبب ظروف جائحة كورونا، ومنعاً للاختلاط الجماعي.

تقول لرصيف22: "لا أريد انتظار الموت في السرير، وحولي مجموعة من الأدوية، كوني أصبحت في هذه السن. أنا أرى الحياة من زاوية أخرى، زاوية الفرح، وأن الأحلام والسعادة ليس لها عمر. العلم أثبت أنه حين تكون نشيطاً ومتفائلاً تقلّ فرص الأمراض والموت المبكر، لذلك تراني حتى اليوم أسبح صيفاً، وأمارس المشي يومياً والسفر حين تسمح الظروف، طبعاً إلى جانب الدراسة التي تغذّي العقل والروح على حد سواء".

العلم بالنسبة إلي تنشيط للذاكرة ورياضة للروح والجسد. حين تشعر بأنك شخص منتج لن ينال منك المرض أو يهزمك. لا أستطيع وصف الفرحة الكبيرة حين أرى الفخر في عيون أولاد أخوتي ورفاقهم وكلامهم وهم يشجعونني على ما أقوم به ويقولون إنني قدوة لهم

درست مرام الحقوق في الجامعة اللبنانية لمدة سنتين، وكانت حينها تعمل في مصرف لبناني، وقبلها عملت في مجال الكتابة مع إحدى المجلات النسائية، وبعد إنجابها ابنتها البكر توقفت عن العمل لتتفرغ لتربية أولادها، ثم أتت ظروف الحرب الأهلية عام 1975، ودمرت أحلام اللبنانيين، وكان همهم الهرب من القصف والتنقل من منطقة إلى أخرى، لكن حلمها بمتابعة التعلّم لم تدمره الحرب ولا سنوات العمر. وكانت رغبتها منذ طفولتها دخول الجامعة الأمريكية في بيروت.

"كان أهلي يسكنون في منطقة عين المريسة على ساحل بيروت، وكان منزلنا مجاوراً لحديقة الجامعة الأمريكية. كنت أراقب دخول الطلاب إليها وخروجهم منها وأحلم بأن أكون طالبةً فيها. وبعد عشرات السنين تحقق الحلم، وأستذكر أني حين وصلت إلى المدخل الرئيسي للجامعة، وقفت لدقائق وأنا أتأمل هذا الصرح الذي أصبحت جزءاً منه".

مرام داخل الجامعة

تتذكر مرام أكثر موقف طريف حصل معها بعدما عادت طالبةً. "كنت أمشي في حديقة الجامعة وسمعت شاباً يقول لزميلته أنظري إلى تلك العجوز... ماذا تفعل هنا؟ فتجيبه: إنها زميلة جديدة لنا. وأنا من دون وعي نظرت حولي وتساءلت: عن أي امرأة يتحدثون، لأني فعلاً لم أشعر بأني المعنية. أرى أني امرأة قوية لديها الطاقة والصحة الكافيتان أكثر ممن هنّ أصغر مني".

تعشق مرام الرسم، وتستفيد من بعض المحاضرات الخاصة بهذا الفن كي تصقل موهبتها بشكل أعمق، "فالموهبة تتطور ولا تقف عند حد زمني. أحب أيضاً صفوف التاريخ والأدب إلى جانب صف اللغة الإنكليزية، ولدي حلم واحد هو دراسة أسرار الكون".

أقساط رمزية

تُعدّ جامعة الكبار في الجامعة الأمريكية في بيروت، الأولى من نوعها في لبنان والمنطقة، وتأسست على يد الدكتورة في العلوم الصحية، عبلا السباعي وزميلتها الدكتورة سينتيا ميندي.

وتسجّل منذ إطلاقها في العام 2010 حتى اليوم، إقبالاً ملحوظاً، ومعظم طلابها فوق السبعين مع العلم أنها تقبل من هم فوق الخمسين.

إنشاء الجامعة يعود إلى ثلاثة أسباب، وفق ما تقول مسؤولة البرنامج في جامعة الكبار، مايا أبي شاهين، لرصيف22.

الشرط الوحيد للانتساب إلى الكلية هو أن يكون الشخص قد تجاوز الخمسين، وليس ضرورياً أن يكون خريجاً جامعياً أو يحمل شهادة الثانوية الرسمية، مع العلم أنّ هناك طلاباً يحملون شهادات عليا وتبوّأوا مناصب إدارية مهمة

أولها أن معظم الدراسات المرتبطة بالصحة العامة أظهرت أنه كلما بقي الإنسان ناشطاً فكرياً وجسدياً كلما تقدّم في السن بطريقة صحيّة أفضل، والسبب الثاني أنه وفق دراسة لمنظمة العمل الدولية في العام 2019، فإن لبنان من أكثر الدول المعمّرة في المنطقة العربية، فهناك 11 في المئة من سكانه فوق سن الـ65 ومن المتوقّع في العام 2050 أن تصل النسبة إلى 23 في المئة. أما السبب الثالث واعتماداً على دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية في بيروت، فإن عدداً كبيراً من كبار السن اللبنانيين يعيشون بمفردهم بسبب وجود أولادهم وأحفادهم في الاغتراب.

تضيف أبي شاهين: "الشرط الوحيد للانتساب إلى الكلية هو أن يكون الشخص قد تجاوز الخمسين، وليس ضرورياً أن يكون خريجاً جامعياً أو يحمل شهادة الثانوية الرسمية، مع العلم أنّ هناك طلاباً يحملون شهادات عليا وتبوّأوا مناصب إدارية مهمة، وجميع الأساتذة أهل خبرة ومتطوعون وهناك صفوف بلغات عدة كالفرنسية والإنكليزية والإسبانية، كما توجد صفوف لتعليم اللغات".

وتشير أبي شاهين إلى أن "الانتقال إلى صفوف التعلّم عن بعد، فتحت المجال لطلاب من دول الخليج العربي وإفريقيا وأمريكا للتسجيل، ويتضمن البرنامج السنوي فصلين، الأول في الخريف والثاني في الربيع، وكل فصل يمتد نحو ثلاثة أشهر بشكل مكثّف، ويعتمد على تطوير المهارات، ويمكن للطالب حضور كل الصفوف وليس صفوف الاختصاص الذي تسجّل فيه فحسب".

عدد الطلاب يصل إلى نحو 500 شخص سنوياً، ولا يقل الفصل الواحد عن مئة طالب كما تشرح المتحدثة. أما بالنسبة للأقساط فهي رمزية، ولا تتجاوز كلفة الفصل أكثر من 400 ألف ليرة لبنانية (أي نحو 20 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف الحالي). "لن نزيد الأسعار لأن هدفنا غير ربحي بل لدعم كبار السن في تحقيق أحلامهم، سيّما من طمحوا إلى دخول الجامعة الأمريكية لكن ظروفهم المادية وغير المادية لم تساعدهم".

المدير العام الذي عاد طالباً

يوسف بكري الذي يبلغ اليوم 84 سنةً، كان مديراً عاماً لأحد المصارف الأجنبية العاملة في لبنان، وعمل مستشاراً مالياً إقليمياً لعدد من الشركات، ومنذ عشرين سنةً تقاعد ليعود في العام 2010 إلى مقاعد الدراسة.

يقول لرصيف22: "تخرجت من الجامعة اليسوعية متخصصاً في العلوم المصرفية، وتبوأت مراكز مهمةً، ولكن بعد التقاعد كنت أشعر بنوع من الفراغ أحياناً، إلى أن قرأت إعلاناً في إحدى الصحف عن الجامعة، فتحمست للتسجيل وشعرت وكأن شبابي عاد، وعدت إلى يوسف الطالب في بداية حياته، واليوم أتابع الدروس وأمضي وقتاً جميلاً مع زملائي".

ويضيف بكري: "التعلّم في عمرنا يعزز صحتنا النفسية ويزيد من ثقتنا وهذا ما ينعكس إيجاباً على صحتنا الجسدية، ومن بين الدروس التي تجذبني شخصياً محاضرات علم النفس، وأجمل الأوقات التي قضيتها هي حين كنا نلتقي في حديقة الجامعة ونتحدث عن كافة المواضيع، إلى جانب الرحلات الداخلية والخارجية التي نظّمتها الجامعة، كما شاركنا في مؤتمرات ومعارض فنية في الخارج".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard