صرحت هالة السعيد، وزيرة التخطيط في مصر، ضمن مؤتمر أقيم مؤخراً بخصوص مشروع تنمية الأسرة المصرّية، أن معدلات الزيادة السكانية في مصر وصل إلى 2.5 مليون نسمة سنوياً، وأضافت، أمام عيني الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يستمع، أن "الزيادة السكانيّة بمعدل دولة، فهناك 12 دولة يتراوح عدد سكانها بين 2 و3 ملايين نسمة. دولة زيادة بتزيد على الدولة المصرية سنوياً"، وتضيف لاحقاً، أن "الهرم السكاني في 2006 كان عبارة عن فئة الشباب، وهي الفئة الحاكمة في هذا التعداد، ولكن في تعداد 2017 كان من سن صفر إلى 9 سنوات".
شعب جديد سنوياً
الإشكالية حسب الخطاب الرسمي إذا تتمثل بـ"العدد"، فالموضوعات الجديدة التي "تولد" ويجب أن تتكفل الدولة بها وتضمن السيادة حقوقها، تشكل عبئاً، خصوصاً، وحسب خطاب السيسي في المؤتمر نفسه، هناك مفاجأة دوماً في الأعداد الجديدة، المشكلة دوماً أكبر من المتوقع، أي الدولة حكماً مقصرة ولا تمتلك ما يكفي لحل المشكلة، والأهم في كل ذلك، مستقبل الأسرة المصريّة و"حقوق الإنسان"، التي يسعى السيسي شخصياً لضمانها، ويتحدث عنها في المؤتمرات العلنية بصيغة الأب الذي لا يستطيع تدبر شؤون أسرته بسبب عددهم الكبير.
هؤلاء الأفراد الجدد لا يمكن تأمين "حياتهم" من قبل الدولة، فهم شعب جديد يضاف كل عام، وتقع مسؤوليته على عاتق الدولة، وحسب الإحصائية الرسميّة هم من الأطفال "0 إلى 9 سنوات" أي هم في سن تقع المسؤولية في إنجابهم ورعايتهم كلياً على الأسر الجديدة، أو الأفراد الطامحين بتشكيل أسرة، كونهم غير مدركين لمشكلات الواقع وعجز الدولة ذاتها عن تأمين متطلبات الشعب.
هذا الموقف الحيوي من أجساد الأفراد واستهداف "الأطفال" والمقبلين الجدد على الزواج، ينبع رسمياً من المشاكل الاقتصادية التي يهدف مشروع تنمية الأسرة لحلها و"الارتقاء بجودة حياة المواطنين"، كون النسبة الأكبر من المواليد الجديد لا تدخل في سوق العمل، أي لا تشكل جزءاً من قوة العمل الرسمية وغير الرسميّة، هم مستهلكون لكل شيء، والأهم، المسؤولية ستقع على الدولة في حال كانوا غير أصحاء، والحل الرسمي لهذه الإشكالية يتمثل بمشروع قانون "الفحص الطبي الشامل قبل الزواج"، أي تحويل التوعية بخصوص الصحة الإنجابيّة، من جهد ثقافي إلى اختصاص سياسي- طبي، الهدف منه ضبط "الطاقة الحيويّة" والإنتاجية من جهة، وضبط سوائل "الشعب" من جهة أخرى، والمقصود هنا، وهذا ما نتلمسه من نص القانون، الدماء والبويضات والمني، تلك التي لا بد أن تتمتع بخصائص "صحيّة" كي تدخل ضمن القنوات الرسمية والمشرعنة من أجل تكوين "الأسرة الصحيّة".
صرحت وزيرة التخطيط في مصر، ضمن مؤتمر أقيم مؤخراً، أن معدلات الزيادة السكانية في مصر وصل إلى 2.5 مليون نسمة سنوياً، وأضافت، أمام عيني الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يستمع، أن "الزيادة السكانيّة بمعدل دولة، فهناك 12 دولة يتراوح عدد سكانها بين 2 و3 ملايين نسمة"
الملفت بداية، أن الخطاب الرسمي ونص قانون هذا المشروع يفترضان أن المواطنين غير واعين بالشكل الكافي للتحكم بأجسادهم، وإدراك أثر أطفالهم الجدد على أقرانهم من المواطنين وعلى الدولة العاجزة عن تقديم حلول، إذ يرى القانون بداية أن الأسرة النووية التقليدية هي مصدر الأطفال، لكن أركان هذه الأسرة ، الأب والأم، غير قادرين على إدراك أبعاد الإنجاب وأهمية وجود جيل "صحيح" جسدياً ونفسياً.
وكأن مشروع القانون يسحب الثقة من الأفراد ويحملهم مسؤولية العجز الذي تواجهه الدولة، ويحول المؤسسة الطبيّة والقانونيّة إلى القيّم على صحة الأسرة، من أجل ضبط خيارات الأفراد أنفسهم فيما يخص نقل جيناتهم إلى المستقبل، فسواء كان الزواج نتاج اختيار شخصي أو نتيجة التقاليد والأعراف، كلا الطريقتين غير مناسبتين ويهددان حقوق الإنسان في مصر، وهما سبب تردي الخدمات، لأن الدولة ذاتها لم تقرّ بـ"صحة" هذا الزواج على المستوى الجسدي والنفسي.
تكاثر بموافقة الدولة
ينطلق القانون من ضرورة "الحد من خطر الإصابة بالأمراض الوراثية المنتشرة بين المواطنين المصرين"، وهنا الأخطر والأشد قسوة، إذ يفترض القانون أن الإشكاليات موجودة في الأجساد نفسها، ومنتشرة، ولابد من الحد منها وضبط أسلوب تبادل السوائل، أي الحدود والشروط التي يمكن عبرها لشخصين، أن يقررا إنشاء أسرة، صحية، مثالية، تصلح لأن تكون ضمن الدولة المصرية، لكن الملفت، أن نتيجة "شهادة الفحص الطبي الشامل"، لا تمنع الزواج، أي يمكن إتمام الزواج صحي كان أو غير صحي (المادة 16)، لكن لا أحد يعفى من الرسوم التي يجب دفعها، بالتالي يمكن القول إننا أمام "ضريبة زواج"، لا تحد من انتشار الأمراض الجينية إن أردنا تبني بلاغة القانون.
نتلمس في الخطاب الرسمي الذي يروج له في وسائل الإعلام، أن الهدف من هذا القانون هو "الاستثمار في الصحة"، أي مبلغ الـ500 جنيه الذي سيدفع كرسوم إدارية لإجراء الفحص الشامل (500 جنيه تعادل راتب موظف من الطبقة الوسطى في شهر واحد)، هدفه الوقاية من احتمالات الأمراض المستقبلية. الهدف منه ليس فقط حماية الأسرة من تكاليف العلاج، بل حماية الدولة المصرية نفسها من التكاليف الصحية المفترض دفعها على "غير الأصحاء"، لكن هذه الضريبة لا تعود على الأسرة بشيء ولا تفيد في الحد من انتشار "المرض"، فلو مُنع الزواج في حال وجود احتمالات خطر، فنحن فعلاً أمام تقنية قد تكون ناجحة وشديدة القسوة للتحكم بالنسل، لكن هذا ما لا يتبناه القانون، بالنهاية يمكن القول إن كل من يريد أن يتزوج عليه دفع رسم مقداره 500 جنيه، وهذا كل ما في الأمر.
مشروع قانون "الفحص الطبي الشامل قبل الزواج"، بشكله الحالي، يهدد مفهوم الأسرة نفسه، والأهم حق الأفراد بتكوين أسرة. القيود المالية والطبية والنفسية تكبل الأفراد، وتحول الأسرة إلى مؤسسة اقتصادية ترعاها الدولة بصورة مباشرة
هناك نبرة ديستوبيّة في القانون لا يمكن تجاهلها، خصوصاً حين نقرأ تعريف "الأسرة الصحيّة"، تلك التي تتلاشى الحدود بينها وبين مؤسسات السلطة التي تتحكم بالسوائل، إذ يمكن تقبل موضوع الوقاية من الأمراض الوراثية وانتشارها، لكن ما هي "الفحوصات النفسية" التي يجب اجتيازها، السلطة هنا تحاول رسم الحد بين من يستحق ويمتلك الوعي الكافي للإنجاب وتكوين أسرة وبين أولئك الذين لا يمتلكونه، لا فقط على أسس فيزيولوجيّة، بل نفسية، الشأن الذي لا يشير القانون إلى معناه بدقة، لكن يمكن تلمس ملامح الموقف من "الصحة النفسية" في حوار أجري عام 2018 مع د. منن عبد المقصود، رئيس الأمانة العامة للصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة والسكان، الحوار أجري قبل جائحة كورونا، ويمكن تلخيص أسباب الأمراض النفسية المذكورة في المقابلة بالتالي: "الإدمان، السينما التي تظلم المرضى النفسيين، الفيديوهات التي بثتها داعش، عودة اضطراب ما بعد الصدمة PTSD لإصابة المصرين بالرغم من اختفائه من العالم".
الفضاء الخاص والحميمي وما يحويه من متغيرات، أصبح شأناً سيادياً، الهدف منه "وطني" لا شخصي
يستثني القانون أيضاً فئة لابد من حرمانها من النسل، كونها "ملوّثة"، يتمثل ذلك بالمصابين بالإيدز والأمراض المناعية إذ يُجبر المُصاب على إعلام الشريك عبر السلطات المختصة. نسأل هنا: من هي هذه السلطات، وما هو موقفها من المصابين بالإيدز؟ هل هم محرومون أم ممنوعون من الزواج كونهم لن يحصلوا على شهادة؟ هل سيتم تسهيل معاملات التبني بالنسبة لهم؟
نطرح الأسئلة السابقة كون النص القانوني يضع تعريفات وفئات لمن يستحق ولا يستحق، ويرسم حدوداً فاصلةً بين الأسرة الصحية التي تتبناها الدولة وتبيح لها الاستمرار، وتلك "غير الصحية" التي تهدد مستوى حياة المواطنين، ويكفي فقط الاطلاع على الشهادات التي يقدمها مرضى الإيدز في مصر لاكتشاف الرعب وأسلوب التعامل معهم: إجهاض إجباري من قبل الأطباء، الصمت والتخفي، الخوف من الحجز في المشفى أو المصحات.
مراقبة الرغبة
الملفت أن القانون يشير بوضوح إلى الرغبة "باستحداث قواعد بيانات دقيقة عن الحالة الصحية للمواطنين في سن الزواج، مع سرية هذه البيانات". لا نعلم بعد كيف ستستخدم هذه القاعدة لاحقاً، وإن أردنا تحليل السيناريو الديستوبيّ، فنحن أمام ما يمكن تسميته برصيد صحي- اجتماعي، قد يتطور إلى نظام مطابقة للأزواج القادرين على إنتاج "أسرة صحيّة"، أشبه بنظام التقييم الاجتماعي في الصين، لكن في النموذج المصري الأمر قائم على الجسد نفسه، وما يحتويه من احتمالات صحية ومرضيّة، وحقه بنقل مادته الجينيّة وثروته وأخلاقه ضمن الأسرة، ولا حاجة أيضاً للإشارة إلى الفضائح المتعلقة بالأمن السيبراني المصري، والتعامل مع البيانات عبر تطبيقات مستوردة للتجسس على المواطنين، بل تكفي الإشارة إلى استخدامها كوسائل للقمع والاعتقال وتحديد مكان المشتبه بهم.
أخطر ما في مشروع قانون "الفحص الطبي الشامل قبل الزواج" أنه يهدد الحبّ نفسه، وما يرتبط به من اندفاع ورغبات، ناهيك أنه يتضمن ارتباطاً وثيقاً بين الأسرة والإنجاب وترسيخاً لشكل الأسرة النووية، التي لم تعد فقط حاملاً للأخلاق، بل جزءاً من الاقتصاد الوطنيّ
لا ننكر البلاغة البريئة التي يتبناها مؤيدو حماية الأسرة وحماية النسل... الخ، لكن بشكله الحالي، مشروع هذا القانون يهدد مفهوم الأسرة نفسه، والأهم حق الأفراد بتكوين أسرة، القيود المالية والطبية والنفسية بالرغم من أنها ليست ملزمة، لكنها تكبل الأفراد، وتحول الأسرة إلى مؤسسة اقتصادية ترعاها الدولة بصورة مباشرة، هي استثمار لابد من حمايته، أي أن الفضاء الخاص والحميمي وما يحويه من متغيرات، أصبح شأناً سيادياً، الهدف منه "وطني" لا شخصي، الأهم، هكذا قانون يهدد الحبّ نفسه، وما يرتبط به من اندفاع ورغبات، ناهيك أنه يتضمن ارتباطاً وثيقاً بين الأسرة والإنجاب وترسيخاً لشكل الأسرة النووية، التي لم تعد فقط حاملاً للأخلاق، بل جزءاً من الاقتصاد الوطنيّ، الذي لا بد من انتقال ثروتها (ولو كانت متواضعة) إلى أجساد واعية قادرة إما على الاستمرار ضمن ذات الطبقة أو حماية الطبقات الأخرى والدولة في مصاريفها الطبيّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...