تتنقل تهاني حلمي وهي ترتدي بنطلون جينز قيمته 75 ديناراً، فوقه سترة بخمسين ديناراً، بين بسطات ملابس متراصة بشكل خانق، تحمل كل المقاسات، جميع الألوان وكل احتمالات الأسعار، ما عدا أن يكون سعر معطف ماركة "بيربري" ديناراً واحداً فقط، حسب تعبيرها.
كانت التجربة الأولى لتهاني، وهي التي كانت تعتبر أن فكرة الاقتراب من سوق الجمعة من المستحيلات الثلاثة، لكن ولأنها بسيطة وعفوية كسوق الجمعة تماماً، الأمر الذي جعلها تندمج معه وتؤسس علاقة لطيفة مع سوق شعبي لا يشبه العالم الذي تعيش فيه في عمان الغربية.
وسوق الجمعة هو نموذج لأسواق شعبية متواجدة في المنطقة العربية والعالم، هو بمثابة سوق للملابس المستعملة أو غير المستعملة، وفق معلومات غير موثقة ممن يخجلون من فكرة الاعتراف بشراء ملابس من "البالة"، فيبررون بأنها بضاعة "ستوك" فقط ولم تستعمل قبلاً. يكثر نشاط السوق في نهاية الأسبوع، ويصل ذروته أول كل شهر، مع أول مرور للرواتب الشهرية إلى جيوب المواطنين.
بالعودة إلى تهاني، فقد كسرت حاجز "العيب"، حتى لو كانت هذه الخطوة متأخرة بالنسبة لها، لكن أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي أبداً إلى "سوق الجمعة" وسط العاصمة عمّان، فبعد إلحاح صديقتها المقربة لها بأن "تعطي طناش" لثقافة العيب، تجرأت تهاني يوم الجمعة واستيقظت باكراً وتوسطت سوق الجمعة في السادسة صباحاً، تتلفت يمنة ويسرة بحثاً عمّا اعتادت سماعه من صديقتها: "أواعي سوق الجمعة غير".
وبينما كانت تغطس بين أمواج الملابس الشتوية بمعاطفها وستراتها الصوف، وحتى الفساتين المرصعة بالأزرار الذهبية، التي تشي أنها خرجت من خزائن سيدات الطبقة المخملية أو طبقة "هوانم جاردن سيتي"، كما تصفهم تهاني وهي تضحك بأعلى صوتها، غير مصدقة ما يحدث لها في تلك اللحظة، تحدثت لرصيف22 عن شعورها بكسر "تابو" أو فوبيا الذهاب إلى "سوق الجمعة".
الخجل من أن يراها أحد
وتقول تهاني إن ما كان يمنعها من أن تكون من رواد هذا السوق، رغم أنها على علم مسبق أن "سوق الجمعة" سوق جميع الطبقات الأردنية، هو تحسبها من فكرة شراء شيء قد تم لبسه من قبل، فضلاً عن أنها كانت تخجل من فكرة أن يراها أحد معارفها في هذا السوق، وهي السيدة الأربعينية التي تتواجد دائماً في أماكن الخمسة نجوم وأكثر.
"طُز بالتابو أمام معطف بيربري بدينار واحد فقط!"، تضحك تهاني وهي تتحدث وتقلب الملابس بيديها وبطريقة سريعة مع حرصها على عدم ضياع فرصة ذهبية كتلك التي التقطتها بإيجاد معطف "بيربري" بدينار واحد، وتصرخ فجأة: "ها... شوفي ما أحلى هالجاكيت الفوشي".
ثلاثة دنانير كان مبلغ مجموع الملابس التي اشترتها تهاني، شامل المعطف البيربري، الأمر الذي منحها ثقة تبدو أنها "زيادة عن اللزوم"، عندما خيرت البائع بأن تشتري جاكيت وفيزت بخمسة دنانير وإما لا! وهو ما رفضه البائع الذي لم يكترث لتبعات شرط تهاني لأنه يبدو أن لا تبعات عليه، فمن المؤكد أنه لن يخرج خسران... فهو تاجر سوق الجمعة، يعرف متى يخسر ومتى يكسب.
بعد مضي ساعة ونصف فيه، خرجت تهاني من سوق الجمعة بثلاثة معاطف قيمتهم ثلاثة دنانير، أي نعم أن ثمن "الدراي كلين" لهم سيكون أغلى منهم لكن "مش مشكلة فالماتيريال والبراند تستحقان أكثر من ذلك"، بحسب قولها.
هناك، ومن على مدخل سوق الجمعة، وتحديداً على يسار المدخل، بعد أن تتعدى الرجل السبعيني الذي يجلس على كرسي بلاستيك مرتدياً الشماغ الأردني، وفي حجره علبة كرتون يبيع منها شوكولا صنع محلي أردني، تلمح سيدة ستينية تقلب "ستاندات" الملابس بطريقة احترافية تنبه أنها ليست المرة الأولى لها في زيارة هذا السوق.
"شو يعني؟ عادي بغسله"
"لا طبعاً مو أول مرة أنا باستمرار باجي هون أشتري إلي ولأولادي وأحفادي"، تقول سوسن غيث لرصيف22، وهي تحمل شمّاعة عليها سترة بلون وردي تبدو أنها تناسب واحدة من أحفادها، تحملها بيدين يزينها مناكير "الفرينش"، وتقول بخجل وهي تضحك: "أنا من سكان الرابية".
خبرة السيدة سوسن في سوق الجمعة جعلها تعرف الأسباب التي تشجع كل الفئات الاجتماعية لزيارة هذا السوق، فبخبرتها اكتشفت أن أهم ما يميز سوق الجمعة الملابس ذات الطابع الغريب، والنوعية التي لا تجدها في أسواق "المولات".
وأضافت: "أواعي المولات صح حلوة، لكن بتحسي إنه كل الناس وتحديداً البنات لابسين نفس اللبس".
"شو يعني؟ عادي بغسله"، ترد سوسن على سؤال ما إذا كانت فكرة شراء ملابس مستعملة لا تزعجها، وتستكمل حديثها مؤكدة من خلاله بأنها خبيرة جداً في "سوق الجمعة"، مبينة أن زبون "سوق الجمعة" يجب أن يتحلى بمهارات معينة منها الصبر "الروح الطويلة" والتركيز وبُعد النظر، ذلك أن الزبون قد يعتقد أن قطعة ملابس ما ليست جميلة، لكن يكتشف عكس ذلك فور شرائها وغسلها وارتدائها وتحديداً عندما يسمع سؤال: "واو... من وين بلوزتك؟"، حسب تعبيرها.
فهذا ما يحدث مع سوسن وصديقاتها، اللواتي، وبحسب قولها لا يملكن الجرأة والروح الطويلة التي تملكها، فيعتمدن عليها بأن تكون بمثابة ضابط ارتباط لهن من مقر "سوق الجمعة".
على الرغم من أن "سوق الجمعة" هو سوق جميع الطبقات الأردنية، لكن تحسب البعض من فكرة شراء شيء قد تم لبسه من قبل... فضلاً عن أن بعض النساء كانت تخجل من فكرة أن يراها أحد معارفها في هذا السوق
من عمّان الغربية والشرقية وزوّار العاصمة من المحافظات يوم الجمعة، الغلابة، ومن لا يعرفون ماذا تعني كلمة غلابة، هو "سوق الجمعة" وحده القادر على كسر الفروق بين الطبقات والفئات الاجتماعية الأردنية... إنجاز لم تستطع حتى الحكومات نفسها أن تحققه، بحسب بعض الزوّار
"كل البضاعة مركات"
"قرب قرب.. بخمسة دنانير يابا"، يصرخ البائع فضل عواد، وهو يجلس فوق كومة من الأحذية ويحرك بقدميه إلى الأمام والخلف، ويؤشر إلى زبائن السوق الذين بدؤوا يتوافدون أكثر فأكثر قرابة الساعة السابعة صباحاً، والتي تبدو أنها الساعة الأفضل لزيارة السوق والتنقل فيه بأريحية، في يوم جمعة يصحى فيه الأردنيون قبيل صلاة الظهر.
وخلال الحديث مع البائع فضل، تبين أن خلفه مجموعة شباب يفترشون الأرض ونائمين، "آه مالك، الشباب نامت الساعة ثلاث الصبح وبدها ترتاح قبل مناوبتها الثانية"، يقول في حديث لرصيف22… وبحسب ما أشار فإن "سوق الجمعة" يفتح بسطاته بعد منتصف ليل الخميس حتى الثالثة قبل الفجر، ثم يأخذ البائعون استراحة حتى الساعة الخامسة فجراً.
"سمعتك بتسألي الست شو الي بميّز سوق الجمعة؟"، يقول فضل، الذي كان يسترق السمع للحديث الذي دار مع السيدة سوسن، أي نعم أعجبته إجابتها لكنه أشار إلى ميزة في سوق الجمعة يبدو أنها أغفلتها حسب رأيها: "غير إنه الأسعار من نص ليرة لعشر دنانير، بس كل البضاعة ماركات... بتلاقي عنا أديداس ونايك وتيمبرلاند وأميركان إيغل وبوس".
من أمريكا إلى "سوق الجمعة"
يزاول سامي عمران زيارته الأسبوعية إلى "سوق الجمعة" منذ أن عاد من غربته في أميركا، فإن جودة بضاعة "سوق الجمعة"، بحسب رأيه، تشبه تلك التي في أميركا، مستغرباً من حالة الخجل التي يشعر بها أردنيون من جراء زيارة السوق، فها هو موجود في قلب السوق مرتدياً "هودي" من ماركة نايك ومفتاح سيارته المرسيدس "يخشخش" من جيبته.
ويوشوش سامي بنصيحة لزوار سوق الجمعة الجدد: "لا تضايقوا البائعين ولا تفاصلوهم في الأسعار، وتحملوا عصبيتهم... فالله يعينهم بيتعاملوا مع أشكال وألوان".
من عمّان الغربية والشرقية وزوار العاصمة من المحافظات يوم الجمعة، الغلابة، ومن لا يعرفون ماذا تعني كلمة غلابة، هو سوق الجمعة وحده القادر على كسر الفروق بين الطبقات والفئات الاجتماعية الأردنية... إنجاز لم تستطع حتى الحكومات نفسها أن تحققه، بحسب بعض الزوّار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...