أقف أمام متجر الأحذية، وأحدّق في حذاء ذي كعبٍ عالٍ، فأدخل وأطلب من البائع رؤيته وتجريبه. ينظر إليّ البائع للحظة ويصمت قبل إحضاره، وأنا أعلم جيداً ما يجول في خاطره، فكيف لسيدة مثلي أنْ ترتدي حذاءً بكعب عالٍ وهي طويلة أصلاً؟
وُلدتُ طويلةً لأم وأب طويلَيْن أيضاً، ولكن الطول، الذي يُسمّى في الثقافة المصرية "هيبة"، كان واحداً من أسباب معاناتي منذ الصغر، وحتى الآن.
وُلدتُ طويلةً لأم وأب طويلَيْن أيضاً، ولكن الطول، الذي يُسمّى في الثقافة المصرية "هيبة"، كان واحداً من أسباب معاناتي منذ الصغر، وحتى الآن.
في المرحلة الابتدائية، كنت الأطول بين صديقاتي. لذلك، كنت أجلس على المقاعد الأخيرة في الصف الدراسي، حيث كنا نجلس حسب الطول، الأقصر يجلس في المقاعد الأمامية والأطول يجلس في الخلف، حتى نتمكن جميعنا من رؤية اللوح أمامنا.
ولأنّ الأطفال عموماً يحبون الجلوس على المقاعد الأولى، ولا أعرف لماذا حتى الآن، كنت أذهب إلى والدي وأتحجّج بأنّي لا أستطيع رؤية ما يُكتب على اللوح، ليأتي معي في اليوم التالي، ويطلب من المدرّسين أن أجلس في الصفوف الأمامية.
نقف في فناء المدرسة في الوقت المخصص للاستراحة، فتقول أقصر صديقاتي إنّ نموّها توقف بسبب غلطة طبيب حقنها خطأً بمادة تسببت في وقف نموها، وهنا وجدت الحل. عدت من المدرسة، وتركت حقيبتي بجوار باب الشقة، ثمّ ذهبت إلى أمي في المطبخ، وطلبت منها أنْ تأخذني إلى ذلك الطبيب ذاته لأتلقى حقناً لوقف النمو. نظرت إليّ أمي باستغراب، ثم أكملت غسل الصحون من دون تعليق. وأبي أيضاً أخذ الموضوع بسخرية تامة عندما أخبرته عن هذه الحقن.
انتقلتُ إلى المرحلة الإعدادية وما زلت أتعرّض للتنمّر من قِبل صديقاتي ومعلّماتي بسبب طولي، وخاصةً عندما يطلبون منّي أنْ أمسح المكتوب على اللوح، بصفتي الأطول. ومع مرور الوقت، لاحظت أسرتي مدى تأثير هذا الأمر على صحتي، فكانوا يبرّرون ذلك بالقول إنّ صديقاتي "يغارون منّي".
تقول أقصر صديقاتي إنّ نموّها توقف بسبب غلطة طبيب حقنها خطأً بمادة تسببت في وقف نموها، وهنا وجدت الحل. عدت من المدرسة، وتركت حقيبتي بجوار باب الشقة، ثمّ ذهبت إلى أمي في المطبخ، وطلبت منها أنْ تأخذني إلى ذلك الطبيب ذاته لأتلقى حقناً لوقف النمو
حاولت أمّي أنْ تخفي رأيها في طولي الفائق، ولكن عندما كنت أذهب بصحبتها لشراء بعض الملابس، كانت تطلب لي مقاساً أكبر من مقاسي، وتقول للبائع: "هي طويلة شوية". وحين نذهب إلى "الكوافير"، عادةً لقصّ شعري، كانت تطلب من "الكوافيرة" أنْ تقص أطراف شعري فحسب، حتى لا أبدو أطول ممّا أنا عليه.
الآن، بعد أن انتهيت من المرحلة الثانوية ودخلت إلى الحياة الجامعية، بات طولي 170 سم، ومن المفترض أنْ يثبت طولي فقد اكتمل نموّي. ولكن، بات جسدي محدوداً بقوالب معيّنة، فلا يمكنني ارتداء حذاء بكعب عالٍ مثلاً، إذ إنّي لو ارتديت حذاءً بكعب طوله 5 سم، سيصبح طولي 175 سم. كنت أرى بذلك أنّي محرومة من أنوثتي، وخاصةً عندما أرى زميلتي صاحبة الـ162 سم، ترتدي كعباً عالياً بسهولة.
كنت أقف أمام الحائط في غرفتي، وألصق رأسي به، وأضع القلم فوق رأسي لأقيس طولي، ثمّ أعود إلى الخلف لأرى كيف يراني الناس وأنا أسير في الشارع.
حينها، أتذكر كلمات إحدى صديقاتي لي وقت استراحة الكلية، حين قالت لي إن جسمي ممشوق، وما يميزه هو طولي. كانت تقول عباراتها تلك كوسيلة للمديح، وكنت أراها أنا كوسيلة لتذكيري بطولي.كان السؤال: "ما هو طولك؟"، محور أحاديث كثيرة بيني وبين صديقاتي، وكانت الكثير من هذه الأحاديث تنتهي بشجارات بيننا. على سبيل المثال، قالت لي إحدى صديقاتي ذات مرّة إنّها تتوقع أن يكون طولي 173 سم، وتغيّر مجرى الحديث بعد ذلك إلى شجار بعدما انفعلتُ، وأكّدتُ لها أنّ طولي 170 سم. حاولتْ تهدئتي وقالت لي إنّها لا تقصد شيئاً، وبالفعل هي لم تكن تقصد شيئاً. المشكلة نبعت منّي، فأنا لم أكن متصالحةً مع طولي، على الرغم من وجود العديد من الفتيات الطويلات في الجامعة. الفرق بيني وبينهنّ، أنهنّ تصالحن مع أنفسهن ومع طولهن، أمّا أنا، فلم أستطع التصالح مع طولي.
كانت لا بد أن تختم أمّي حديثها بطول ابنتها ليكون العريس مناسباً، فالرجال لا يفضّلون عادةً الارتباط بامرأة أطول منهم.
عارضاتُ الأزياء غالباً ما يكنّ طوال القامة، وكذلك الأمر مع ملكات الجمال. بهذه الطريقة أقنعت نفسي بالخروج من الغرفة التي تملؤها الأحذية العالية، تلك الأحذية التي لا يمكن أنْ أرتديها في السهرات أو في "المشاوير الليلية". وملابسي أيضاً باتت محدودةً لتناسب طوال القامة فحسب. وحين أقرّر أنْ أقيس حذاءً بكعب عالٍ في متجر ما وآخذ رأي أمّي فيه، كانت تقول لي: "كعب ليه؟ هو إنتِ ناقصك طول؟"، فأعيده إلى مكانه وتختفي بهجتي.
وبعد الانتهاء من الحياة الجامعية، وصلت إلى "رحلة البحث عن عريس"، وكانت أمّي ترشّح العريس المناسب لي، وعندما تصبح لديها قائمة "بالشبان المناسبين"، تعرض عليهم مميزاتي. كانت تقول إنّ ابنتها حاصلة على شهادة في الآداب، وتعمل في مجال الصحافة، وهي ممشوقة القوام وذات بشرة بيضاء، وتجيد الأعمال المنزلية، والأهم من هذا وذاك أنّها طويلة. كانت لا بد أن تختم حديثها بطول ابنتها ليكون العريس مناسباً، فالرجال لا يفضّلون عادةً الارتباط بامرأة أطول منهم.
لم أتزوج بتلك الطريقة "التقليدية"، ليس بسبب طولي، ولكنّها لم تكن الطريقة المفضلة عندي. وبعد ارتباطي بزوجي الحالي، سألته مازحةً في بداية علاقتنا: "ما هو طولك؟"، وبدأت علاقتنا بفستان أبيض ارتديت معه حذاءً يرتفع عن الأرض 3 سم، ووقفت بجوار زوجي، وكان لا يزال أطول منّي بـ2 سم.
جاءت بعد ذلك طفلتي الأولى، طويلةً أيضاً، لأعود معها إلى كل ما عانيته في صغري، فهي ستدخل المدرسة وستتعرض للتنمرّ من قِبل معلّماتها وزميلاتها، وستُحرم لسنوات من ارتداء أحذية عالية، تماماً كما عانيت أنا. ولكن، لن أطلب منها، كما طلبت مني أمي، أن تقص أطراف شعرها فحسب. وربما ستأتي ابنتي ذات يوم وتطلب منّي أن تأخذ حقناً لوقف النمو، وهو أمر غير موجود في الطب، بل اختلقته زميلتي تلك. في جميع الأحوال، أريد من ابنتي أنْ تفعل ما فعلته أنا.
جاءت بعد ذلك طفلتي الأولى، طويلةً أيضاً، لأعود معها إلى كل ما عانيته في صغري، فهي ستدخل المدرسة وستتعرض للتنمرّ من قِبل معلّماتها وزميلاتها، وستُحرم لسنوات من ارتداء أحذية عالية، تماماً كما عانيت أنا
أتحدث مع ابنتي، ذات الأربعة أعوام، عن تقبّل الآخرين بغضّ النظر عن أشكالهم وألوانهم وطباعهم وتصرفاتهم، وتحدّثني هي عن زميلها في الحضانة الذي هو صاحب احتياجات خاصة، وكيف أنّها تقبّلته على الرغم من قصر طوله. حينها، أدركتُ أنّي أنا من حبست نفسي مدة 30 عاماً في غرفة أنا صنعتها بنفسي، ولنفسي، والآن خرجت منها.
بعد خروجي من الغرفة، اشتريت أحذيةً بطول 3 سم، لأرتديها داخل العمل وخارجه، متجاهلةً عبارات المحيطين بي، والتي لا يزال صداها يترّدد في ذهني: "ليه لابسة كعب وإنتِ طويلة؟"، فقررت ارتداء ما أريد، وفعل ما أريد، ليسيطر صوت حذائي الذي يرفعني عن الأرض 3 سم، على صخب المحيطين بي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...