الحواس، جرحٌ في هواء صافٍ
امرأة منتقبة، ممتلئة الجسد تجلس على كرسي جواري في سيارة أجرة تسير بنا في منطقة كرداسة في محافظة الجيزة المصرية.
بذلت جهدي ليتزحزح جسدي عن جسدها، رائحة عرق ممزوجة برائحة كدّ، وإجهاد، وعدم استحمام لأيام. رائحة نسميها في مصر "الكمكمة".
تذكرت معلومة تقول إن حاسة الشم هي الحاسة الوحيدة التي لديها ارتباط حميمي مع المجالات العصبية للعاطفة والتعلم. لا يوجد نظام حسي آخر لديه هذا الارتباط الحميمي.
هذا يعني أن الرائحة تفعل الكثير في حياتنا، بلا مقارنة بما تفعله أشياء أخرى. الرائحة حركتني بشكل تلقائي ناحية النافذة، وأكثر.
بيت الرائحة السيئة
اعتدنا عندما كنا أطفالاً دخول منازل الجيران بلا استئذان، بحُكم الحميمية القسرية المفروضة على أفراد المجتمع القروي، نحصل على الطعام، والفاكهة، والحلوى، وأحياناً ننام. بيت واحد لم أقربه، أنا وصديق لي، سميناه: بيت الجيران ذو الرائحة السيئة.
رائحة الثوم تملأ بيتهم، عنصرهم المفضل في وجبات صباح والظهيرة والمساء، تؤمن جارتنا بفوائده في مواجهة الأرواح والأشباح الشريرة، تضعه في زوايا البيت، مفروماً.
لم نستطع أنا وصديقي الاقتراب من المنزل، وبالتأكيد لم تقربه الأشباح والأرواح الشريرة مثلنا.
تعلمت الدرس الأول لما يمكن أن تفعله الرائحة بطفلين، فعلى عكس أصدقائنا الآخرين، الذين يحصدون دائماً من بيت الجيران الفاكهة والحلوى الشيء الكثير، لم نحصد سوى الشعور بالحقد والغضب والسبب هو الرائحة.
ثم…
بدأ العالم ينقسم داخلي إلى شطرين، شطر رائحته مقبولة، وبالتالي كل ما هو صادر منه مقبول أو على الأقل يمكن التفاوض بشأنه، وشطر آخر ذي رائحة سيئة، وكل ما هو صادر عنه مرفوض.
روائح فريدة أكرهها، منتشرة في كل مكان، ورائحة فريدة أحبها وأبحث عنها في نصفي الآخر.
أين أنتَ/ أنتِ يا نصفي الآخر؟
لا تضخّم الأمور
التقيتها صدفة، والمفارقة أنها أيضاً كانت منتقبة، أعادت إلى ذهني ظل منتقبة الميكروباص، التي أبعدتني عنها الرائحة.
ذهبنا للمنزل، خلعت ملابسي، ناولتني ملابسها، أضعها على كرسي بجانبي، وحين أمسكتها في يدي، لاحظت رائحة لم تعجبني.
رائحة الشارع، التراب الممزوج بالعرق وعوادم السيارات.
لم أكن مرتاحاً.
طلبت منها أن تستحم، لكنها أنكرت ذلك، ورفضت أن تستحم، وقالت لي إني أضخّم الأمور، ولأنها كانت تجربتي الأولى حاولت إقناع نفسي بأنني "أضخّم الأمور".
لم أستطع أن ألمسها، ورغم أن رائحة جسدها باتت "محايدة"، لا رائحة صادرة عنه، إلا أن رائحة ملابسها لا تفارق أنفي.
كانت تلك تجربتي الأول، وكانت المرة الأولى كذلك التي أشعر فيها بهذا الـ"كم" من الإحباط.
لعنت أنفي، وسألتها الرحيل.
لابد وأن الله عبقري
"هل سبق وأن دفنت أنفك في جبل من الشعر المجعد، ورغبت في أن تنام هناك للأبد؟ لابد أن الله عبقري ليخلق شيئاً كهذا".
آل باتشينو في فيلم Scent of a Woman لا يرى. كان يتبع أنفه فقط، طريقه الوحيد إلى تلك الفتاة كان رائحتها، تتوحد مع حلمه، ليزداد وعيي مرة أخرى بما ما قد تفعله الرائحة الجميلة بالإنسان، تأمره بألا يتبع سواها.
حديثها المتكرر، وتأففها الواضح من هوس والدتها بالنظافة، وكيف تحول الأمر إلى مرض، كان ملفتاً.
نصحته بأن يعتني برائحته الشخصية، وعندما ذهب إلى الصيدلية صُدم بأسعار مستحضرات التجميل، تذكر الروائح الكريهة في المواصلات، وأحسّ بالفقر والقهر
تقول غاضبة: "طوال الوقت هناك قواعد خاصة بالنظافة، لا أكل في الشارع، لا نوم دون استحمام، لا تهاون مع عدم نظافة الحجرات والملابس والأدوات باستمرار، مش معقول كدة!". كانت صديقتي تتحدث بضيق عن والدتها، "مهووسة بالنظافة" كما تصفها/تصمها، لكن عقلي انحاز إلى والدتها، وقلت في نفسي لأمها: "شكراً".
في النهاية، هي لن تستطيع أن تتخلص مما زرعته فيها والدتها، علمت هذا بعدما رفضت أن تشرب من فنجان قهوة لم اغسله بالصابون جيداً.
إنها فتاتي المنشودة.
وبينما حصلت منها على قبلة خاطفة في مكان العمل، باغتتني بقولها "رائحتك سيئة"، ثم نصائح متتالية للنظافة الشخصية.
"لابد وأن الله عبقري ليضع فخاً كهذا في طريقي"، قلت لنفسي.
سعر الروائح النظيفة
لكل شخص في العالم رائحته الفريدة التي يعشقها أو يكرهها، حتى رائحة المرحاض، قد تكون مقبولة لدى البعض، وأيضاً لا وجود لرائحة واحدة كريهة يتفق عليها البشر، سوى المواد الكيميائية القاتلة، بحسب تجربة أجراها الجيش الأمريكي.
مادمتُ نظيفاً وأستحم يومياً فلا مشكلة، بررت لنفسي، ولكن وقع كلمة صديقتي لا ينسى بسهولة.
وبينما تحاول أن تتغيّر إذا بك تكتشف أمراً آخر.
كان راتبي لا يتجاوز الـ2000 جنيهاً (127 دولار) لأصل إلى مستوى النظافة الذي أردته، أحتاج لأكثر من نصف راتبي. في عام 2017 وحده، ارتفعت أسعار مستحضرات التجميل لأكثر من 200% للمستورد، و70% للمصري.
في العام الماضي 2021، ارتفعت أسعارها مرة أخرى حوالي 50%، بحسب الغرفة التجارية بالقاهرة، صاحبها ارتفاع حوالي 20% في أسعار الخدمات التي تقدمها صالونات التجميل، تذكرت منتقبة الميكروباص، لتتخذ رائحتها "المكمكمة" في خيالي شكل الفقر والقهر.
من منا لا يريد أن يكون في أبهى صوره، وأجمل وروائحه.
تقول لي: اذهب إلى الصيدليات بنفسك، واسأل عن أسعار مستحضرات التجميل والعناية الشخصية.
هل الرائحة الكريهة سبب كافٍ للانفصال؟ كل من سألتهن أن يستحممن شعرن بالإهانة، وشعرت أنا أيضاً بالإهانة من كلمات صديقتي... مجاز في رصيف22
فعلتُ، ولكن كثير منها، خاصة ذات الجودة العالية، يتجاوز سعره الـ 400 جنيه (15.71 دولارا).
الحل المثالي لدى فتيات الطبقات المتوسطة في مصر، هي المستحضرات التي يجلبونها من العطار، وأغلبها مغشوشة، هذا ما قاله محمود الدجوى، رئيس شعبة أصحاب محلات الكوافير في الغرفة التجارية، لإحدى الصحف المصرية.
لا الذنب ذنبهم ولا ذنبك
لكن أنفك يأبى..
من يرفض تلك الفتاة التي ترقص طوال الوقت، وهي حقاً بارعة في ذلك، لكن أنفك له رأي آخر. يحدثك كل ثانيتين بينما هي ترقص: "نحن في الصيف، ورائحة العرق تسبب الكثير من الروائح".
وهاهو الـ"ميك آب" الرخيص، يبدأ في الانهيار، فتنهار أمام أنفك، وتحاول أن تبتعد عنها.
أحدهم طرح سؤالاً على موقع "Quora": هل الرائحة سبب كافٍ للانفصال؟
البعض وافق، والآخر رفض، والبعض طالب بأن يتكلم السائل معها في الموضوع مباشرة وببساطة.
ولكن الأمر صعب، صعب لحد قد يصل بك للشعور بالإهانة؛ كل من سألتهن أن يستحممن شعرن بالإهانة، وشعرت أنا أيضاً بالإهانة من كلمات صديقتي.
أليس كذلك؟
الأنف يتحرّى خطواته وأنت تتبعه، فأين أنت يا نصفي الآخر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع