شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الحواس القذرة: روائح الممارسات السريّة للبشر

الحواس القذرة: روائح الممارسات السريّة للبشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 21 يونيو 201911:12 ص

غالباً ما يتمّ الربط بين الرائحة والغريزة البدائيّة الأوليّة، التي لا تحكّم فيها، وتنطوي على اندفاعٍ وتهوّر، فالإنسان قام بتطوير سمعه وبصره، وانتصب على قائمتين، فاستشعرت الحواس هذه أنها أكثر أهمية من حاسة الشمّ التي بقيت لديه في تلك المنطقة المعتمة من الدماغ، التي لا تلزمه في مسيرته الحضاريّة الجديدة، في المدن وناطحات السحاب والشوارع المزدحمة، بل ربما يكون من الأفضل التخلّص منها أحياناً، لما نعرفه عن التلوّث الذي ينتشر في العالم كسحابةٍ عملاقة.

وبينما تحتاج الحيوانات تلك الحاسّة لصنع التواصل والتعرّف على بعضها البعض، تبيان مناطق سيطرتها، أو معرفة أيّها في وضع الاستعداد لعملية التزاوج، جرى إقصاء الرائحة البشريّة واعتبارها شيئاً منفّراً، ويتمّ التخلّص منه ما إن يظهر، إذ إنه من غير الممتع على الإطلاق، بالنسبة للإنسان الحديث، نشر رائحة الرغبة الجنسيّة في الهواء، هذا الأمر تمّ الاستعاضة عنه بروائح أخرى تقوم مقام الرغبة بالجنس، فنحن نقوم بإخفاء الرائحة الأصليّة للشهوة وننشر بدلاً منها روائح أخرى تقوم مقامها، روائح العطور ومزيلات العرق، الثياب الجديدة والأحذية المزقزقة، روائح بطاقات السعر المرتفع والتي تفعل فعلها في الإثارة، كما لو أنها صورٌ جنسيّة.

والآن حين نسأل أحد الأطفال ماذا تشبه رائحة والدتك فسيجيب على الأغلب: اللافندر، وهو في هذا لا يذكر رائحة والدته بقدر ما يذكر رائحة معطّر الملابس.

الروائح ميكروبات لا غير

قبل أن يكتشف العالم لويس باستور الميكروبات، كان الاعتقاد السائد أن الرائحة الكريهة يمكن أن تنقل الأمراض، وأن الموطن المفضّل للشياطين هو الأماكن ذات الرائحة الكريهة، لذا تحدّث مؤمنون كثر عن الروائح الجميلة التي تنبعث من أجساد القدّيسين عند موتهم "رائحة القداسة": "عند موت القدّيسة تيريزا أفيلا، شعر الدير بأكمله كما لو أن مجموعاتٍ غير مرئيةٍ من الزهور قد تدفّقت من النوافذ، واستمرّت رائحة الورد تنبعث من قبرها لمدّة ثمانية أشهر كاملة". رغم أن النظرة الدينيّة لحاسّة الشم اتصفت دوماً بالاحتقار الممزوج بالأسى، إذ إنها توضع في أسفل الترتيب الهرمي للحواس الممنوحة من الإله، فبينما قد نرى الرب أو نسمع صوته أو حتى نتحسّس أو نتذوّق بعضَ معجزاته، سيكون علينا أن نشمّه بكثير من الصعوبة، ولا يمكن لحاسة الشمِّ وغيرها من الحواس المتدنيّة بالطبع، أن توصل إلى معرفةٍ باهرةٍ أو تجربةٍ ناصعة في معرفة الربِّ.

لكن هذا تغيّر، ويمكن القول إن حاسة الشمّ وُلدت من جديد، وهذا بعد أن بدأت العطور بغزو العالم الحديث، ولكن الأمر بدأ أيضاً يفقد تلقائيّته وطبيعيّته لصالح الروائح التركيبيّة غير الاعتياديّة: ملابس برائحة الزهور الجبليّة، خبز برائحة الجوز والصنوبر، كتب برائحة البحر، حتى الأحذية الرياضيّة، المتهم الأوّل في نشر الروائح الكريهة، استطاعت المصانع أن تجعلها برائحةٍ جميلة، بعد أن وضعت داخلها عبواتٍ عطريّة، كالنعنع والزهور، بحيث تتغلّب على منبعثاتها المخيفة، فلا نستطيع بعد اليوم أن نشتم أحداً بالقول: منتنٌ كحذاءٍ قديم، إذ لم يعد التعبير مقنعاً كما كان.

بدأ احتلال الحياة الحديثة بقصفٍ تمهيدي بالصور الملوّنة والإعلانات البرّاقة، بالأضواء التي تبهر العين وتخطفها، قبل أن تبدأ قنابل الروائح بالانفجار هنا وهناك، البنايات السكنيّة والمحال التجاريّة الضخمة، الفنادق والردهات وصالات العروض السينمائيّة، الحافلات والقطارات والطائرات، المكاتب ودور النشر والمدارس، كل شيء أصبح ممتزجاً برائحة زهورٍ أو عطورٍ صناعيّة، لم يعد لشيءٍ رائحة أصليّة، فقدنا الإلفة التي تصنعها الرطوبة في البيوت، والآن حين نسأل أحد الأطفال ماذا تشبه رائحة والدتك، فسيجيب على الأغلب: اللافندر، وهو في هذا لا يذكر رائحة والدته بقدر ما يذكر رائحة معطّر الملابس.

روائح التعابير الجميلة

"يمكنني شمّ الحقيقة" يقول نيتشه، رابطاً بطريقة ما بين الشمّ والحدس اللذين يوصلان للمعرفة، بالرغم من أن التفسير العلمي الذي تمّ اكتشافه سابقاً ويتعلّق بالميكروبات والبكتيريا التي تعتاش على العرق وبقايا الجلد، هي المسبّب الرئيسي للروائح، إلا أن ثمّة تفاصيل في الذاكرة تستخدم ميكروباتها الخاصّة لتحتفظ بمكانها، وهذا ما يفعله الكتّاب، يلتقطون تلك الميكروبات ويشيعون فيها بهجةً عارمة:

رائحة الطفولة: مزيجٌ سحري لم يسبق لأحدٍ أن تمكّن من تفكيكه، مقادير مختلفة من حليب الأمّهات وعرق الأطفال، رائحة الأسنان تشقّ اللثة والفواكه المهروسة، رائحة اللثغة في الأحرف الأولى والاصطدامات بالأثاث عند المشي، مع كمّيات إضافيّة من الأغاني التي تعبق بالحيوانات اللطيفة والـ"إغغغغغي" ومفردات أخرى تطير في الهواء ككرات بأجنحة.

 كل شيء أصبح ممتزجاً برائحة زهورٍ أو عطورٍ صناعيّة، لم يعد لشيءٍ رائحة أصليّة

رائحة الذكريات: وهي روائح مختلفة القوّة ومتعدّدة الطبقات، لكنها تشترك بقدرتها على استحضار مشاهد سينمائيّة، وأماكن وأوقات، تبدأ برائحة القهوة ولا تنتهي برائحة سائل تنظيف الحمّامات، وتمرّ أيضاً بالثياب الداخليّة القديمة والبيجامات الحريريّة، العقود والأساور والخلاخيل التي بقيت هنا وهناك، رائحة طلاء الأظافر وأغطية الأسرّة المبلّلة بالعرق، رائحة قلامات الأظافر والمناديل التي تمّ مسح آثار "الميك أب" بها، رائحة السجائر الرفيعة وفراشي الأسنان والطبخ القادم من نافذة قريبة، صابون الغار والتراب بعد أوّل هطول، البسط المنسوجة وأطباق القشِّ، الرائحة التي تبقى بعد رحيل الأجساد، كخناجر مغروسة في الهواء.

رائحة الموت: تبدأ باردةً ثم تنتهي بجعلك توشك على الاختناق، هي رائحة قادمة من مشافٍ عامّة، رائحة معقّماتٍ وأدويةٍ ومراهم، ثمّ رائحة ترابٍ رطبٍ وقبورٍ مفتوحة، أوراق نعي وخليط النشاء لصنع اللاصق، ثمّة من يتحدّث أيضاً عن رائحة "القرآن" في تلك اللحظة، وخليط الأدعية والاستغفارات، وعن هواءٍ باردٍ يتحرّك بفعل أجنحة ملاك الموت.

رائحة الخيانة: وهي رائحة خفيفة لكنها نفّاذة للغاية، وهي بذلك تشبه رائحة "الوحدة" ورائحة "الخذلان"، لا توصف بأنها بشعة بقدر ما توصف بأنها مؤلمة، تدوم طويلاً، ولها تلك القدرة على جعلك تنزف بصمتٍ دماً حقيقيّاً، تشبه أن تُترك في غرفةٍ ضيّقة، بزوج من الثياب الداخليّة فقط، وصورةٍ منزوعةٍ من جريدةٍ حكوميّة على الجدار.

رائحة المكالمات الهاتفيّة: في الصباح الباكر، وأنت تستعدّ لتناول فنجان يأسك الأوّل، ثمّ تقوم بتلك المكالمة التي تضع قطعتي سكّر إضافيتين في يومك، فينتج عنها روائح أخرى: رائحة الحنان ورائحة البكاء، رائحة التفجّع ورائحة الانتظار، يُسأل عنها السجناء، المنسيّون، المهاجرون، المطلّقون، المتروكون تحت أغطية الشتاء السميكة، والشعراء إذا كانوا على قيد الحياة.

رائحة الجنس: بين تعبير هنري ميللر: "الرائحة النضرة لكسِّ امرأة"، وتعبير أمجد ناصر: "له هذه الرائحة: قطع الأعشاب في الصباح"، تنوس هذه الرائحة، ونحن إذ نبهت من الفوح القوي المنبعث من أشدّ الأماكن ضيقاً وبعداً عن الضوء، في الشعيرات القليلة المتبقية، نرغب أكثر بدسّ أنوفنا حيث يجب ألّا تُدسّ، لنشمّ ذلك العبير البدائي للرغبة، رائحة الجلد يتنفّس ويشتدّ ثم يرتخي، رائحةٌ ثقيلةٌ كسحابة عطر، ووحيدة كتفسير مطلق لـ "الإيمان" بالله، مصحوبة ببروق ورعود وتنهّدات، ثم يأتي التدفّق من الداخل كانسحاب بطيء من الوجود.

فبينما قد نرى الرب أو نسمع صوته أو حتى نتحسّس أو نتذوّق بعضَ معجزاته، سيكون علينا أن نشمّه بكثير من الصعوبة، ولا يمكن للشمِّ كحاسة متدنيّة أن توصل إلى تجربةٍ ناصعة في معرفة الربِّ.

الحضور هو الرائحة، الرائحة هي الذكريات، بينما تجلس المدينة على كمٍّ هائل من الروائح المختلفة، أي على كمٍّ هائل من الوجود والعلاقات المتشعّبة، يفتقد البعض، نعمة امتلاك رائحةٍ خاصّة، أي امتلاك حيّزٍ خاصٍّ من الوجود، كما في السجن.

كانت إحدى أثمن الهدايا التي تلقّيتها وأنا في السجن علبةً من عطور الأطفال، أضع بعضاً منها بعد حمّامي الأسبوعي، لأشعر لمدّة عشر دقائق فقط أني أخرج من غرفة السجن إلى طفلتي وبيتي وسريري.

الرائحة الفريدة

"في القرن الثامن عشر عاش في فرنسا رجلٌ يعتبر من بين أكثر الشخصيات روعة، وأكثرها بغضاً أيضاً"، لا بد أنكم تذكّرتم جان بابتسيت غرونوي، الضفدع، الذي لا يمتلك رائحةً وبالتالي لا يمتلك حضوراً، الحضور هو الرائحة، الرائحة هي الذكريات، بينما تجلس المدينة على كمٍّ هائل من الروائح المختلفة، أي على كمٍّ هائل من الوجود والعلاقات المتشعّبة، يفتقد البعض، نعمة امتلاك رائحةٍ خاصّة، أي امتلاك حيّزٍ خاصٍّ من الوجود، كما في السجن.

كانت إحدى أثمن الهدايا التي تلقّيتها وأنا في السجن علبةٌ من عطور الأطفال، أضع بعضاً منها بعد حمّامي الأسبوعي، لأشعر لمدّة عشر دقائق فقط أني أخرج من غرفة السجن إلى طفلتي وبيتي وسريري، قبل أن تتغلّب روائح السجن والسجناء عليها، كنت أمتلك لمدّة عشر دقائق فقط رائحةً خاصّة، ثم تفوز الرائحة الأخرى، مزيج البول والعفونة، العرق والدموع والصابون الرخيص، ورائحة أخرى غريبة لا أستطيع وصفها، أظنّها كانت بدقّة، رائحة اليأس، كنت أمتلك في تلك الدقائق العشر وجوداً هائلاً أقتات عليه فيما تبقى من أيام الأسبوع، وتلك الرائحة كانت أنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image