شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الكابوس… طالب مؤدب في مدرسة حكومية

الكابوس… طالب مؤدب في مدرسة حكومية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 19 فبراير 202212:18 م

الحلم، النائم في هوى المنحدر


لا أعلم منذ متى قاطعتني الأحلام، وأصبحت مناماتي هادئة، أو إذا كان لذلك، كما يقال، علاقة بقتل الخيال في اللاوعي، لكن ما زالت هناك خانة واحدة عصيّة على النسيان، تخترق حواجز المنع، لا زلت أرى نفسي فيها على مقاعد الدراسة في مدرستي الثانوية، رغم تخرجي منها منذ أكثر من عشر سنوات.

عشت مراحل عدة بعدها، وتنقّلات دراسية ومهنية مختلفة، أبرزها الانخراط بالحياة الجامعية.

الثورة على الطالب المثالي

يقال إن هناك شخصيات تزهر متأخرة أو تخوض غمار التجارب في آخر الوقت، وربما تقتنص الفرص في الوقت الضائع. لا أعلم إذا كنت منها، لكن تمردي الأول كان في السنة الدراسية الأخيرة، أي السنة الثالثة في المرحلة الثانوية، تلك السنة المفصلية التي قرّرتُ فيها ألّا أتخذ كما السائد دروساً خصوصية، وغيّرت مقعدي الأمامي إلى جانب الطلبة الأوائل، وأن أثور على الطالب المثالي بداخلي.

اخترت أن أجلس في الصف الأخير مع الكسالى والمشاغبين، حاملاً كتبي،  ومتجاوزاً كل النظرات المستغربة، وتساؤلات الأساتذة، وقررتُ لأول مرة أن أجرب شعور الهروب من المدرسة. كيف يعقل أن تنتهي مرحلة من حياتي وألا أعيش تلك اللحظات؟

فعلتُها وتجولتُ على شاطئ بحر الحافة خلف مدرستي، ومررت بالأسواق والمقاهي والمطاعم التي كانت موجودة آنذاك. أتذكر أنني عندما أسرّيت بذلك لزميل لم يكن حاضراً نهار تمردي لم يصدق، وقال ساخراً: لابد أنك وجدت المدرسة فارغة واعتبرت ذلك هروباً.

لا أريد أن أصور ما قمت به بالصحيح ولا أدعو لذلك، لكن طبيعة الإنسان ميالة للمغامرة وإن كانت متأخرة. بشكل ما لم يؤثر ذلك على مستواي الدراسي، وتخرجت من الثانوية منتصراً بنسبة جيدة جداً. كان تمردي الصغير بالنسبة لي عظيماً، وإلى اليوم لست مؤمناً بفكرة الأسوار حول المدارس، فهي إلى جانب العقلية الإدارية المنغلقة التي تشبه السجون.

لا أعلم متى نعي أن بناء الوعي لدى الطالب يبدأ بإدراكه لأهمية التزامه بالحضور، وتحمل مسؤولية قراراته، فالمنع لم يكن يوماً حلاً، وهذا الشكل من الحرية الاختيارية هو نفسه المتبع في النظام الجامعي.

اخترت أن أجلس في الصف الأخير مع المشاغبين، وقررت لأول مرة أن أجرب شعور الهروب من المدرسة، ولكن لماذا بعد كل هذا العمر تزورني الأحلام والكوابيس عن المدارس والامتحانات؟... مجاز في رصيف22

يذكرني الحديث عن ذلك يوم انبهاري بالعقليات غير التقليدية والمنفتحة، عندما رأت إدارة الجامعة أن هناك من يكتب على الحيطان باستخدام البخاخات ويشوه المنظر العام، وقررت بدلاً من ملاحقة الفاعل أن تقوم بتخصيص جدار للخربشات، وتوفير أدوات الكتابة عليه للطلبة. أعجبت حينها بالفكرة والجرأة بتنفيذها والخروج من القالب التقليدي لحل المشاكل، وتمنيت أن تكون جميع الحلول بهذه الطريقة.

نظام أقل وشغب أعلى

لم أكن يوماً من حزب كارهي المدرسة، ورغم انتمائي إلى مدرسة خاصة، إلا أني أعتبر تجربتي الأعظم حين انتقلت إلى مدارس الحكومة، وخصوصاً في المرحلة الثانوية، فشكلت عالماً جديداً ومثيراً. هناك أربعون طالباً، وشخصيات من مستويات اجتماعية مختلفة، ونسبة الشغب والفوضى والتمرد أعلى، وكنت بينهم ذلك الطالب الهادئ الملتزم، القادم من عالم آخر ومدرسة ذات نظام صارم، عدد الطلبة في الصف الواحد لا يتعدى الخمسة عشر طالباً.

ما تزال أغنية ماجدة الرومي في فيلم "عودة الابن الضال" وهي تودع مدرستها تشطرني نصفين، وتعيد إلي حالة عميقه من الحنين، وهي تنشد قائلة: "وخلاص المدرسة فايتنها/ شوفوا الأيام بتمر ازاي/ مش لسه يا دوبك دخلنها؟/ يا دوب عرفنا أسماء بعضينا/ لحقت تعدي سنين علينا".

الأحلام هي الجزء الخفي منا، تعيد رسم مخاوفنا، وتخلق مواجهة افتراضية بيننا وبين مشاعرنا المخبأة. ليس هناك أراض سعيدة ولا كوابيس. هناك مدن من خبايا النفس التي ظننا أننا كبرنا حتى نسيناها

أعلنت بعدها مقاطعتي للأغنية رغم جمالها، ومحبتي الكبيرة لمغنيتها وصوتها، لكن يبدو أن الهرب لم يكن الحل، فعادت المدرسة تتسلل إلى المنامات.

قابلت العديد من زملاء الدراسة بعد سنوات، لكن لم يعودوا هم من أعرفهم، ولا يشبهون الشخصيات التي بقيت، واحتفظت بها في مخيلتي. لابد أنني أيضاً مثلهم تغيرت. أحلامي لم تكن كوابيساً، يقول بعض مفسري الأحلام أن صاحب هذه الرؤية سوف يكتسب المزيد من الخبرة وتزداد دائرة معارفه، ويقول التفسير الثاني إنه سوف يحصل على مكانة علمية مرموقة. هل حقاً سيحدث ذلك؟ لا أعلم، ولا أؤمن كثيراً بالتفسيرات، لكني أعرف أن أمواج شواطئ الحنين إلى تلك المرحلة أحد أهم الأسباب.

المدرس يزورني في أحلامي

اكتشف لاحقاً أن العديد من الأصدقاء في بلدان مختلفة ما زالت تزورهم أحلام وكوابيس عن المدرسة والجامعة، رغم مرور سنوات على تخرجهم.

تحكي لي صديقي المصرية منة، التي تخرجت من الجامعة منذ ست سنوات، أنها ما زالت ترى نفسها في المنام داخل قاعة الامتحان في الجامعة، وأحياناً أخرى في المدرسة، قائلة: "هو حلم واحد يتكرر على فترات.أكون داخل اللجنة، يا إما مش مذاكرة خالص أو مش عارفة أجاوب".

وتعلل تكرار الحلم بسبب الضغوط النفسية والتوتر، وتبوح أنها تحب فترة المدرسة الثانوية أكثر من الجامعة، وأنها كانت تتأخر عن المدرسة صباحاً رغم ركوبها الحافلة باكراً، إلا أنها وأصدقاؤها لا يدخلون مباشرة إلى المدرسة، وتردد كاشفة: "كنت أهرب مع زملائي، نتمشى قليلاً في الشوارع ونفطر أو نشرب عصير ونجيب لب، بعدها نعود إلى المدرسة وريحتنا بتبقى لب، وبما أننا مدرسة لغات والمدرسون ملتزمون جداً بالقواعد، كنا نتعرض للعقاب ويرددون على أسماعنا مراراً: مفيش بنات محترمة تدخل المدرسة متأخر وتبقى ريحتها لب كمان".

 كلهم حتى بعد أن تجاوزوا الجامعة، وأصبحوا آباء وأمهات، تزورهم كوابيس الامتحانات، قال مدرس لمنّة: "مافيش بنات محترمة تدخل المدرسة متأخر، وتبقى ريحتها لبّ"... مجاز في رصيف22

منذ زمن طويل غادرت الكوابيس أحلام سارة التي تنتمي إلى مدينة حلب السورية، الا أنها عادت تزورها بعد عقود، عندما بدأت ابنتاها بارتياد ذات المدرسة التي درست فيها، فاسترجعت مخيلتها كافة تفاصيل تلك المرحلة، وهي تجدد كوابيسها.

أما يحيى فكابوسه الدمشقي لم يكن حلماً، فما إن يتذكر المدرسة حتى تتداعى أمامه ذكريات الحرب السورية في سنواتها الأولى، وكيف نجا من الموت لمرات، فكان طريق المدرسة يشبه الألغام، فلا تغادر مخيلته يوم فصله وزميله كيلومترات قليلة عن حادث تفجير لحافلة، كانت تقل طلبة وعمال مدنيين، وكيف انبطحا مختبئين بين أشجار الحديقة.

يعود فيصل، الذي يحضّر نفسه لحفل التخرج من الجامعة، إلى مقاعد مدرسته الثانوية بمدينة الرياض السعودية، ويشاهد أستاذ الفيزياء، أحد أكثر الأساتذة الذين كانت علاقته به سيئة، وهو يطوف في المنام بين التلاميذ ويشير إلى صفحات مهمة في الكتاب، ثم يتوجه نحوه ويسأله عن كتابه، ويركل قدمه.

يتساءل فيصل عن سبب عودة تلك الذكريات مرة أخرى.

الأحلام هي الجزء الخفي منا، تعيد رسم مخاوفنا، وتخلق مواجهة افتراضية بيننا وبين مشاعرنا المخبأة. ليس هناك أراض سعيدة ولا كوابيس. هناك مدن من خبايا النفس التي ظننا أننا كبرنا حتى نسيناها، لكنها تتفقدنا في تلك الليالي الباردة، لتخبرنا أنها هنا، وأن ما نحن عليه اليوم ليس إلا تراكماً لخبرات ومراحل قد تكون شديدة العاطفة أو قاسية، لكنها شكلتنا وتركت بصمات قد لا تمحوها بحور العالم مهما اغتسلنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard