"لم تكن حياتي جنةً في المغرب، ولم تتحول إلى ذلك هنا في باريس. كانت زوجة أبي تضربني لأنني كنت أتبول ليلاً، واليوم يصفعني المارة مئات المرات بنظراتهم إليّ واحتقارهم لي"؛ هكذا يخبرني بلال (اسم مستعار)، وعيناه إلى الأرض كفارس مهزوم.
بلال الذي وصل إلى باريس قبل سنتين، وغيره من المهاجرين القاصرين غير المصحوبين بذويهم، تركوا ماضيهم وعائلاتهم وراءهم، واختاروا الرحيل وركوب البحر. كل واحد منهم له قصته وأسبابه الخاصة، لكن القاسم المشترك بينهم هو البحث عن السعادة وحياة أفضل، إلى أن يصطدموا بواقع مرّ يحطم أحلامهم الوردية، ويلوّنها بألوان الوحدة والغربة.
تنتشر أحكام مسبقة عدة حول القاصرين غير المصحوبين بذويهم، إذ يراهم بعض أفراد المجتمع الباريسي أشباحاً تجوب الشوارع من دون هدف، وليس لهم أب أو أم يرعانهم.
بدأ القُصّر غير المصحوبين بذويهم بالقدوم إلى فرنسا أواخر تسعينيات القرن الماضي. يأتون على أمل أن يصلوا إلى أوروبا قبل بلوغهم سن الرشد، وتالياً يسهل عليهم الحصول على أوراق الإقامة لاحقاً، فقانون اللجوء الفرنسي يعدّ المهاجر قاصراً أجنبياً غير مصحوب بذويه، عندما لا يتعدى عمره الـ18 عاماً، ولا يرافقه ممثل قانوني. وفي هذه الحالة، لا يمكن ترحيله، ويُعفى من تصريح الإقامة حتى بلوغه سن الرشد، كما يحق له الاستفادة من الحماية والرعاية الفرنسيتين.
المغاربة والسودانيون
وحسب مدير مديرية المهاجرين القاصرين غير المصحوبين بذويهم، في جمعية "فرنسا أرض اللجوء"، سيرج ديمون، في تصريحه لرصيف22، وصل تسعة آلاف قاصر إلى فرنسا عام 2021.
ويؤكد ديمون أنه بسبب وباء كورونا، انخفض عدد الوافدين من القصّر بالمقارنة مع السنوات الأخيرة السابقة، إذ وصل إلى فرنسا عام 2019 نحو 17،000 قاصر.
ويتابع: "لكن المشكلة الحالية تتمثل في تركز معظمهم في مخيمات كاليه، فالقاصرون السودانيون يتصدرون قائمة الوافدين إلى المنطقة، يليهم القاصرون القادمون من إريتيريا، وأفغانستان، ومالي وغينيا. وبحكم إتقان سكان هذه الدول للّغة الإنكليزية، لا يريدون البقاء في فرنسا، بل يفضلون العبور إلى إنكلترا عبر بحر المانش. ونظراً لهذا العدد الكبير، تصعب عملية إيوائهم لمحدودية الأسِرّة في مخيمات كاليه".
ويضيف: "أما القاصرون القادمون من مالي وغينيا والمغرب وتونس والجزائر، فيستقرّون في باريس".
بدأ القُصّر غير المصحوبين بذويهم بالقدوم إلى فرنسا أواخر تسعينيات القرن الماضي. يأتون على أمل أن يصلوا إلى أوروبا قبل بلوغهم سن الرشد، وتالياً يسهل عليهم الحصول على أوراق الإقامة لاحقاً، فقانون اللجوء الفرنسي يعدّ المهاجر قاصراً أجنبياً غير مصحوب بذويه، عندما لا يتعدى عمره الـ18 عاماً، ولا يرافقه ممثل قانوني
أفكار مسبقة
تنتشر أحكام مسبقة عدة حول القاصرين غير المصحوبين بذويهم، إذ يراهم بعض أفراد المجتمع الباريسي أشباحاً تجوب الشوارع من دون هدف، وليس لهم أب أو أم يرعانهم. إلا أن عالم الاجتماع أوليفييه بيروكس، المتخصص في ملفات الهجرة والمتاجرة بالبشر، والذي يعمل على تحقيقات ميدانية تهم هذه الفئة من المهاجرين، يوضح لرصيف22، أن "هؤلاء القصّر ليسوا في الغالب يتامى ولا أطفال شوارع، بل لديهم عائلات يتواصلون معها في أغلب الأحيان، وبعضهم يقدّم الدعم المادي إلى أقاربه". ويشير في المقابل إلى أن هؤلاء القاصرين لم تدفعهم أسرهم إلى الهجرة، بل هاجروا بقرار فردي.
وهذا ما حدث مع بلال الذي اتفق مع صديقيه على السفر إلى طنجة، شمال المغرب، قادماً من مدينة سلا، ومن ثم إلى جيب سبتة من دون أن يعلم والده بذلك. يقول بلال: "كنا ثلاثة أصدقاء، لا يتعدى عمرنا الـ13 عاماً، انقطعنا عن الدراسة وعملنا في سوق الخضار. نحمل الأثقال أو نبيع الأكياس البلاستيكية للمتسوقين. سمعنا كثيراً عن قصص قاصرين استطاعوا بناء حياة جديدة في أوروبا، فقررنا أن نحذو حذوهم".
وبعد محاولات فاشلة كثيرة، من بينها الوقوع من أعلى السياج المحيط بحدود المدينة في أثناء التسلق، أو الاختناق بالغازات المسيلة للدموع التي تطلقها السلطات الإسبانية، استطاع بلال وأصدقاؤه المرور إلى جيب سبتة، وبعد ستة أشهر قضاها هناك، اختار المخاطرة من جديد والانتقال برفقة صديقه إلى فرنسا، فيما ظل الثالث في سبتة.
وقد عُرض في السابق على بلال وأصدقائه، أن ينضموا إلى شبكاتٍ لتحميهم من شرور الشوارع، لكنه رفض على حد قوله. وتابع: "لا نتعاطى أنا وصديقي المخدرات، ولا ندخن السجائر. نريد أن نسلك طريقاً مختلفاً."
وفي شق آخر، يرى عالم الاجتماع، بيروكس، أن الأحزاب السياسية في الدول الأوروبية تخطئ عندما تربط هجرة القاصرين بالفقر، ويبرر ذلك بالقول: "نجد حالاتٍ اجتماعيةً مختلفةً ومتعددةً في ملف الهجرة. فمثلاً 80 في المئة من القاصرين الموجودين في إسبانيا، هم مغاربة، معظمهم لا يجد أي صعوبة في الاندماج والتعليم والتمكّن من اللغة. ومن بين القاصرين الذين يجولون في أوروبا، هناك مجموعات تنحدر من أسر مفككة تعاني من تبعات الطلاق، قدمت من القرى وسكنت في ضواحي المدن المغربية الكبيرة. أغلبهم مرفوضون من أسرهم، ويعانون من معاملة سيئة. هؤلاء الأطفال هم الأكثر عرضةً للانحراف، وقد تصل إليهم أيادي بعض شبكات التهريب. وعندما تطأ أقدامهم بسلام جيب مليلية أو سبتة، يتعرض بعضهم للاعتداء الجنسي ولتعاطي المخدرات. لهذا يلجأ الكثيرون منهم إلى السرقة وبيع الممنوعات بعد تدهور أوضاعهم المعيشية".
وقد عُرض في السابق على بلال وأصدقائه، أن ينضموا إلى شبكاتٍ لتحميهم من شرور الشوارع، لكنه رفض على حد قوله. وتابع: "لا نتعاطى أنا وصديقي المخدرات، ولا ندخن السجائر. نريد أن نسلك طريقاً مختلفاً. صحيح أننا نبيع السجائر هنا للمارة، وأحياناً يساعدنا بعض المحسنين العرب، لكن أظن أن هذا أمر مؤقت لأننا سنخضع قريباً لتدريب مهني من طرف إحدى الجمعيات".
أما بالنسبة إلى القاصرين الجزائريين، فوفقاً لأوليفييه بيروكس، "تضم فرنسا جاليةً جزائريةً كبيرةً، لهذا يلتحق العديد من القاصرين بعائلاتهم، بعضهم يكمل دراسته، وآخرون يعملون في مطاعم ومخابز العائلة مثلاً. لكن في المقابل، قد نلاحظ في بعض الحالات، أن يتم استغلال حاجتهم المادية من قبل بعض أفراد الجالية نفسها، فيستخدموهم في أعمال السرقة".
اليمين المتطرف
السرقة، وتعاطي المخدرات والانحراف؛ بهذا تتهم أحزاب اليمين المتطرف القاصرين الذين يجوبون الشوارع الفرنسية. غير أن عالم الاجتماع، بيروكس، يؤكد أنه "عندما يتم استغلالهم من طرف شبكات معيّنة، هنا يمكن أن نتحدث عن خلل أمني، إذ يقدّمون لهم حبوباً مخدرةً، تحوّلهم إلى أشخاص عنيفين وخطيرين، وتحت تأثيرها يستطيعون القيام بما يُطلَب منهم. أخبرني أحدهم بأنه بفضلها يصبح بمقدوره السطو على بنك إن طُلب منه ذلك".
الوباء زاد أوضاعهم سوءاً
وإلى جانب كل هذه المشكلات، ساهم انتشار وباء كورونا في تأزم الوضع. فبعد أن يتم تحديد بعض القاصرين المصابين بالوباء في مخيمات كاليه، يتم نقلهم إلى المستشفى، وبعدها إلى مراكز الإيواء حيث يواصلون مرحلة العزل، ما أدى إلى إقفال بعض المراكز في وجه الوافدين الجدد.
وهذا ما عانت منه جمعية "فرنسا أرض اللجوء"، قبل شهر، لأنها لم تتوفر على سرير خالٍ.
وفي هذا السياق، يقول مدير مديرية المهاجرين "القاصرين غير المصحوبين بذويهم"، في الجمعية: "على الرغم من أن مركز الإيواء في كاليه يضم 80 سريراً، ولدينا في باريس 230 سريراً، لكن هذا لا يعني أن كل القاصرين يحتمون في ملاجئ، والأكيد أن بعضهم في الشارع".
وإلى جانب كل هذه المشكلات، ساهم انتشار وباء كورونا في تأزم الوضع. فبعد أن يتم تحديد بعض القاصرين المصابين بالوباء في مخيمات كاليه، يتم نقلهم إلى المستشفى، وبعدها إلى مراكز الإيواء حيث يواصلون مرحلة العزل، ما أدى إلى إقفال بعض المراكز في وجه الوافدين الجدد
مأزق عدم اعتراف الدولة
كثيرة هي الحالات التي يتم فيها رفض منح صفة قاصر لبعض الوافدين الجد، إذ يتم التثبت من العمر عبر مقابلات تجريها جمعية "المساعدة الاجتماعية للأطفال"، أو جهاز "تقييم الأطفال القاصرين الأجانب"، ونادراً ما يتم اللجوء إلى آلية تحديد العمر من خلال فحص العظام بأمر من المحكمة.
وفي هذه الحالة، يدخلون في متاهة حسب حديث يان منزي، مؤسس منظمة "يوتوبيا 56"، لرصيف22. وذلك لأنهم "لا يستطيعون الاستفادة من برامج الدولة الخاصة بالقاصرين، ولا يمكنهم الدخول في برامج البالغين كونهم مسجلين أساساً كقاصرين في السجلات الإدارية. هم في فراغ إداري ومتروكون للشارع والانحراف، سواء في باريس أو غيرها من المدن الفرنسية".
وتخصص منظمة "يوتوبيا 56"، 50 في المئة من برامجها على المستوى الوطني للقاصرين غير المصحوبين بذويهم، سواء تم الاعتراف بهم كقاصرين أو لا.
يشرح يان مانزي، بألم، أدوار الجمعية المتعددة: "بالنسبة إلى القاصرين الذين لا يتم الاعتراف بهم، نحاول الطعن بالقرار أمام قاضي الأطفال، لأنهم يخضعون لاختبار لا يتعدى ثلاثين دقيقةً في غياب مترجم".
ويتابع: "نحن نقوم بتوجيه الوافدين الجدد من القاصرين إلى مراكز الشرطة أولاً، التي تضعهم بدورها في مراكز إيواء قبل خضوعهم لاختبار تقني. منهم أيضاً من نبعثهم إلى مركز "أطباء بلا حدود" الذي فتح أبوابه قبل خمس سنوات في باريس. ومن هناك يمكن أن تبدأ الخطوات الإدارية ليتم الاعتراف بهم كقاصرين، والحصول على موعد للقيام بفحوصات طبية لمعرفة ما إذا كانوا في حاجة إلى متابعة نفسية".
وإذا كان أحدهم مريضاً، أو يحتاج إلى عملية مستعجلة، آنذاك تتدخل مراكز "أطباء بلا حدود"، فيما الباقون، ممن لم يتم التكفل بهم، تقوم فرق جمعية "يوتوبيا 56"، بتوفير الخيام والمواد الأساسية لهم، وتبقى على تواصل معهم عبر الهاتف.
وعلى الرغم مما يمرّ به القاصرون من مخاطر ومعاناة من الجوع والعطش والخوف خلال رحلة عبورهم إلى البرّ الأوروبي، يرفض بعضهم الاستقرار في فرنسا، ويحاولون مواصلة الطريق نحو بريطانيا.
"إلا أن الولاية ترفض تكرار حالة غابة كاليه، لهذا تحاول تجنب بقاء المهاجرين في مخيمات، وتقوم بإخلاء كل النقاط الجديدة، كما توفر بشكل يومي حافلات لنقل المهاجرين من كاليه إلى مراكز الإيواء"، يضيف سيرج ديمون.
وهنا يمكن الدفاع عن إستراتيجية الطرد اليومية من ناحية واحدة: إنها تساهم في إبعاد القاصرين عن المهربين، وعما يسود داخل المخيمات، لكن من جانب آخر يخرج هؤلاء القاصرون بسهولة من رادارات الجمعيات والدولة ويصبحون عرضةً لمخاطر الاستغلال.
وفي هذا الشق، يقول عالم الاجتماع، بيروكس: "بالنسبة إلى أولئك الذين لم يتم التكفل بهم، لا ينضمون كلهم إلى شبكات إجرامية، وبعضهم يتدبر أمره عن طريق بيع السجائر أو العمل في الأسواق".
حلم العبور إلى بريطانيا
وعلى الرغم مما يمرّ به القاصرون من مخاطر ومعاناة من الجوع والعطش والخوف خلال رحلة عبورهم إلى البرّ الأوروبي، يرفض بعضهم الاستقرار في فرنسا، ويحاولون مواصلة الطريق نحو بريطانيا.
"منذ نحو السنة، أصبح الكثيرون يفضّلون المرور إلى بريطانيا، لأنه أولاً لديهم سجل قانوني في إسبانيا أو فرنسا أو ألمانيا، وتالياً يصعب عليهم الحصول على أوراق إقامة. هذا بالإضافة إلى أنه في بريطانيا، يمكنهم العمل بسهولة على الرغم من عدم امتلاكهم أوراقاً رسميةً، كما يتم الدفع لهم كمناوبين أسبوعياً"؛ هذا ما أخبرنا به المتخصص في ملفات الهجرة والمتاجرة بالبشر، أوليفييه بيروكس.
على الرغم من كل هذه المآسي التي يمر بها المهاجرون القصّر خلال رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، وعلى الرغم من أن بعضهم يلقون حتفهم وبعضهم يتشردون في شوارع أوروبا، والبعض الآخر يتعرض للتعنيف والتحرش، لا يزال القاصرون يركبون يومياً قوارب الموت بحثاً عن تحقيق أحلامهم البريئة والبسيطة
أما سيرج ديمون، فيصادف الأمر يومياً: "معظم القاصرين يرفضون البقاء في مراكز الإيواء. يأتون للاستحمام والأكل والشرب فحسب، وبعدها يعودون إلى كاليه خوفاً من تفويت فرصة العبور إلى إنكلترا. يركبون بحر المانش ويخاطرون بأرواحهم في حين أن الجانب البريطاني لا يقدّم أي حلول ملموسة تسمح لهم بتقديم طلب لجوء على أراضيها بشكل قانوني".
وعلى الرغم من كل هذه المآسي التي يمر بها المهاجرون القصّر خلال رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، وعلى الرغم من أن بعضهم يلقون حتفهم وبعضهم يتشردون في شوارع أوروبا، والبعض الآخر يتعرض للتعنيف والتحرش، لا يزال القاصرون يركبون يومياً قوارب الموت بحثاً عن تحقيق أحلامهم البريئة والبسيطة، وأقصى ما يطمحون إليه هو العيش بكرامة بعيداً عن الحروب والفقر والحرمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع