"نعم سأحكي حتى يعرف الجميع كم من الصعب أن يجتاز طفل طريق اللجوء وحده". هكذا أجاب موسى (اسم مستعار)، الشاب السوري الذي يبلغ من العمر الآن 21 عاماً، عندما سألته عما إذ كان مستعداً ليتحدث إلى رصيف22، عن قصته وتجربته. موسى، كآخرين غيره، وصل في عمر الخامسة عشر إلى ألمانيا عام 2015، بعد رحلة لجوء صعبة من تركيا مروراً باليونان وصربيا ومقدونيا.
حالما بدأت بطرح الأسئلة عليه، عن الصعوبات والمشكلات التي واجهها في طريق اللجوء، ارتجف صوته وكأنه يغص بكل كلمة يقولها، ليجيب محاولاً حبس دموعه: "كانت صعبةً جداً، وأدّت إلى أزمات سيئة، ولكن الحمد لله".
"آسف، لا أستطيع أن أجيب عن أسئلتك، ما مررت به لا أستطيع أن أقوله".
"الحمد لله" كانت أكثر جملة سمعتها منه خلال الحديث الذي لم يتجاوز العشر دقائق، بينما كان جوابه عما إذا كان راضياً بحياته الحالية: "بالتأكيد لا. أريد أن أعود إلى بلدي، ولكن عليّ أن أحقق شيئاً أولاً، يجب أن أعمل حتى أساعد أهلي مادياً. أريد أن أصبح مصفّفاً للشعر".
يشير إليّ بيده حتى أطفئ التسجيل، والدموع تملأ عينيه، ليقول: "آسف، لا أستطيع أن أجيب عن أسئلتك، ما مررت به لا أستطيع أن أقوله".
أقف أمام هذا الشاب مرتبكةً، وأعلم أنه نقل إليّ في تلك اللحظة فزعه كله. لكن ممّ يخاف موسى وهو يعلم أني أعرف قصته، أو جزءاً كبيراً منها، من خلال قراءتي لملفه، بحكم عملي في "السوسيال" (مصلحة الخدمات الاجتماعية)؟ هل يخاف من أن يسمع قصته بصوت عالٍ، وكأن قوله للأشياء هو ما سيؤكد حدوثها، هو الذي يُفضّل الحديث بالألمانية على الرغم من عدم إجادته لها بشكل جيد، وكأنه يحتمي بها، وكأنها محاولته ليقول: لقد أنجزتُ شيئاً ما، ولستُ حطاماً بشرياً!
يُعدّ الأطفال والشباب، الذين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، والذين يدخلون ألمانيا من دون والدَيهم، غير مصحوبين بذويهم، ويتمتعون برعاية خاصة في أثناء إجراءات اللجوء الخاصة بهم في ألمانيا.
ممّ يخاف "موسى" وهو يعلم أني أعرف قصته، أو جزءاً كبيراً منها، من خلال قراءتي لملفه، بحكم عملي في "السوسيال" (مصلحة الخدمات الاجتماعية)؟ هل يخاف من أن يسمع قصته بصوت عالٍ، وكأن قوله للأشياء هو ما سيؤكد حدوثها، هو الذي يُفضّل الحديث بالألمانية على الرغم من عدم إجادته لها بشكل جيد، وكأنه يحتمي بها؟
حسب التقرير الصادر عن الوزارة الاتحادية لشؤون الأسرة والمسنين والمرأة والشباب BMFSFJ، لعام 2020، حول وضع اللاجئين القاصرين غير المصحوبين بذويهم في ألمانيا، يعيش حتى تاريخ 28 شباط/ فبراير 2019، ما مجموعه 38،926 من القاصرين والشباب اليافعين الذين بلغوا الثامنة عشر خلال وجودهم في ألمانيا، تحت مسؤولية رعاية الأطفال والشباب، بينهم 14،916 قاصراً.
في نهاية شباط/ فبراير عام 2016، وصل عدد القاصرين غير المصحوبين بذويهم إلى ذروته بعدد 60،638 قاصراً، ويشير التقرير إلى أن 77% منهم فوق سن السادسة عشر، وغالبيتهم من الذكور بنسبة 80%، بينما لم تتجاوز نسبة الإناث من مقدمي طلبات اللجوء الـ20%. وتأتي أفغانستان والصومال وغينيا وإريتريا وسوريا والعراق في مقدمة البلاد التي يتحدرون منها.
من الممكن تقسيم هؤلاء إلى ثلاث فئات: فئة الأطفال المشردين الذين لم يختبروا معنى العائلة والأمان في بلادهم، وفئة اللاجئين من الأزمات الاقتصادية والفقر والحروب، وأولئك الذين فقدوا عائلاتهم في الطريق، فأكملوا الطريق وحدهم.
الخطوات الأولى في بلد أجنبي
يصل هؤلاء الأطفال بعد طريق طويل محفوف بالمخاطر والأهوال، اجتازوه في معظم الأوقات وحدهم من دون شخص يعرفونه أو يثقون به، وفي أحسن الأحوال يرافقهم صديق أو قريب أوكلته العائلة مهمة رعاية هذا الطفل أو ذاك. يصلون إلى بلد جديد لا يعرفون لغته، ولا يعرفون أحداً فيه، ويجهلون تماماً ما سيكون عليه مستقبلهم.
يصل هؤلاء الأطفال بعد طريق طويل محفوف بالمخاطر والأهوال، اجتازوه في معظم الأوقات وحدهم من دون شخص يعرفونه أو يثقون به، وفي أحسن الأحوال يرافقهم صديق أو قريب أوكلته العائلة مهمة رعاية هذا الطفل أو ذاك.
تُنظّم المادة 42 الفقرة A، من قانون الشؤون الاجتماعية الثامن VIII في ألمانيا، الرعاية الأولية لهؤلاء الأطفال من قبل جهة مختصة، أو شخص مناسب. والشخص المناسب قد يكون أحد الأقارب إن وُجد، أو أسرةً حاضنةً. لاحقاً يتم إجراء العديد من الفحوصات النفسية والجسدية للتأكد من صحة الطفل النفسية والعقلية، بالإضافة إلى إجراء فحوصات لتحديد العمر، والتي قد تكون فحوصاتٍ جسديةً عاديةً وتقييماً نفسياً/ اجتماعياً، أو قد تصل إلى حد فحص العظام عن طريق الأشعة. بعد تحديد العمر، يتم توزيعهم على مراكز الرعاية اللاحقة التي يشرف عليها أخصائيون اجتماعيون، حيث يتلقون الرعاية الصحية والاجتماعية والتربوية والسكن والمشورة القانونية.
كما تقوم محكمة الأسرة بتعيين وصي أو مشرف/ ة، لرعاية شؤون الطفل، وتستمر هذه الوصاية حتى بلوغه سن الثامنة عشر، ويكون الوصي مخوّلاً قانونياً لتقديم طلب لمّ شمل عائلة الطفل، في حال كان هذا ممكناً.
إلا أن هؤلاء القاصرين، بسبب غياب الهياكل الأسرية والدعم والتراكمات والأزمات التي مروا بها، سواء في بلادهم أو في طريق اللجوء، يُعدّون هدفاً سهلاً للمتاجرين بالبشر، أو ضحايا للعنف الجسدي أو النفسي أو الاستغلال أو تعاطي المخدرت والاتّجار بها، والسرقات والدعارة.
من الناحية النفسية
تظهر أعراض الصدمة النفسية الناتجة عن تجربة اللجوء لدى معظم هؤلاء الأطفال، وتتراوح في درجة شدّتها وخطورتها، إذ يخضع القسم الأكبر منهم لجلسات علاج نفسي بشكل منتظم، بينما يحتاج البعض إلى معالجة دائمة ضمن مصحات أو مستشفيات خاصة.
في حديثه إلى رصيف22، يشير الدكتور جهاد مصاروة، وهو معالج ومحلل نفسي ومحاضر في جامعة فرايبورغ الألمانية، ويعمل في هذا الحقل منذ ما يزيد عن ثمانية وأربعين عاماً، إلى أن هؤلاء الأطفال ونتيجة مرورهم بهذه التجربة المؤلمة، يتعرضون للإصابة بمتلازمة ما بعد الصدمة، ومجموعة أخرى من الاضطرابات النفسية، كالاكتئاب والخوف واضطرابات القلق والغضب والميول إلى الانتقام، وكراهية الآخرين، وكذلك كراهية النفس إلى حد يصل إلى محاولات الانتحار.
يقول د. مصاروة: "محاولات الانتحار تأتي في مرحلة متأخرة. أول ما تتم ملاحظته لديهم هي العزلة. يبدأون بالابتعاد عن الآخرين خوفاً وخجلاً من الأشياء التي عاشوها، ولا يريدون أن يتكلموا عنها".
د.جهاد مصاروة في حديث لرصيف22: "محاولات الانتحار تأتي في مرحلة متأخرة. أول ما تتم ملاحظته لديهم هي العزلة. يبدأون بالابتعاد عن الآخرين خوفاً وخجلاً من الأشياء التي عاشوها، ولا يريدون أن يتكلموا عنها"
ويضيف: "لكن إمكانية الكبت محدودة، ولا بد من أن يحصل انفجار في يوم من الأيام في داخل هذا الإنسان، ويتمثل في أعراض مختلفة كالخوف، والأحلام المزعجة، والشعور بالاضطراب النفسي وكأنه يفقد التوازن، وكذلك الرعب المستمر والخوف من الفشل (...)، فكل هذه التراكمات من الممكن أن تدفع هذا الطفل إلى الانتحار، ليس لأنه لا يحب الحياة، بل لأنه لا يتمكن منها. يشعر بعجز كبير، وبأنه غير قادر على العيش. وهنا يميلون إلى بعض التصرفات القوية ليس لأنهم يريدون الموت... فهم يريدون الموت ويريدون الحياة في الوقت نفسه".
عن التربية وغياب العائلة
وعند سؤالي الدكتور مصاروة عن الدور الذي يلعبه غياب الأسرة في حياة هؤلاء الأطفال، أشار إلى أن أكثر المشاعر السائدة عندهم، هو الشعور بأن أهاليهم يكرهونهم، ويريدون التخلص منهم، ويضيف: "بهذا التهجير يشعر هؤلاء الأطفال، سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً، بأنهم غير مرغوب فيهم، وهذا الشعور القاتل الذي يرافقهم كل الوقت، يخلق عندهم نوعاً من كراهية النفس والغضب والميول للانتقام ممن جنى وتجنى عليهم، ولكن الاتجاه يتغير ليصبح ضدهم، أي بدلاً من أن يقاوم من اعتدى عليه، يبدأ بتدمير نفسه، وتدمير النفس هذا يعطيه إمكانية القيام بكل أنواع الانحرافات بنسبة ضئيلة من الشعور بالذنب".
يشير د. مصاروة، إلى نقص الكفاءات في حقل العلاج النفسي ممن يتحدثون لغاتٍ أجنبيةً في ألمانيا، كالعربية والفارسية واللغات الإفريقية.
كما يؤكد على أهمية الدور الذي تلعبه "التربية الشرقية" بالنسبة إلى الأطفال القادمين من الدول العربية، إذ إنها تربية سلطوية، قائمة على الخوف وعدم الاستقلالية، ولا تسمح للشخصية بأن تتطور كما هو مطلوب، ويخص بالذكر العقوبات البدنية، ويتابع: "كل إنسان تضربينه على وجهه، وهذا يحصل عند هؤلاء الاطفال، تشوّهين هويته (...). الوجه هو الهوية الوحيدة التي لا تغيير فيها ولا تزييف، والضربة على الوجه تزيّف الوجه. الإنسان الذي يُضرب على وجهه يعتقد دائماً أن آثار الضرب على وجهه لا تختفي".
ماذا عن دور اللغة وفرص التعافي والمستقبل؟
يشير د. مصاروة، إلى نقص الكفاءات في حقل العلاج النفسي ممن يتحدثون لغاتٍ أجنبيةً في ألمانيا، كالعربية والفارسية واللغات الإفريقية، وإلى أن هذا يخلق مشكلةً في التواصل مع الأجانب عموماً، وفي العلاج النفسي خصوصاً، فاللغة يمكنها أن تكون حلقة وصل على الرغم من الاختلاف الثقافي.
إلا أنه يؤكد أن الاختلاف في استخدام محتوى اللغة موجود ويشكل عائقاً حتى بين أشخاص يتحدثون اللغة نفسها. فلغة الشخص البسيط تختلف عن لغة الأكاديمي، ومن البديهي أن تتفاقم هذه المشكلة عند التحدث بلغة أجنبية، ولكن محتوى العطف والحب والاحترام موجود في كل اللغات. وما تُعدّ جوهريةً هنا، هي قدرة المعالِج/ ة على إظهار مشاعر التفهم والاحترام وقبول الآخر، وإيصالها إلى المعالَج/ ة، وهذا من الممكن القيام به بتعابير غير لغوية، كالتعابير الجسدية على سبيل المثال.
يصف د. مصاروة، "الاضطراب النفسي"، بأنه "مزمن"، وأن كل ما يمكن القيام به هو السعي إلى إيقاف تطوره، وحصره في نطاق معيّن، حتى يتم التقليل من فرص استغلال هؤلاء الأطفال، وانحرافهم نحو الجريمة وتعاطي المخدرات، أي التقليل من خطورتهم على أنفسهم وعلى الآخرين قدر المستطاع.
يضيف: "لو تركنا هؤلاء الشباب من دون رعاية أو علاج، فسيصبحون قنبلةً زمنيةً في كل مجتمع هم موجودون فيه". ويؤكد أن كراهية النفس والحقد على النفس يستمران، لأن الذكريات التي يحملونها عما حصل معهم، سواء في الطريق أو في تربيتهم المنزلية أو في ما واجهوه في المجتمع الجديد من رفض وكراهية وعنصرية، تبقى عالقةً في أذهانهم ولا يمكنهم أن ينسوها.
"بهذا التهجير يشعر هؤلاء الأطفال، سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً، بأنهم غير مرغوب فيهم، وهذا الشعور القاتل الذي يرافقهم كل الوقت، يخلق عندهم نوعاً من كراهية النفس والغضب والميول للانتقام ممن جنى وتجنى عليهم، ولكن الاتجاه يتغير ليصبح ضدهم"
عن هذا يعطي مثالاً لقصة شاب وصل إلى ألمانيا، قائلاً: "هناك في المنطقة شخص من هذا النوع جاء كطفل مهدد ومعذب، وأصبح الآن شرطياً... هو من أشرس رجال الشرطة الموجودين في المدينة، وبإمكانه أن يلاحق إنساناً ويحتقره، ويعيش جزءاً من احتقاره لنفسه عند الآخرين، فالخطر على النفس وعلى الآخرين لا يختفي مدى الحياة".
لا شك في أن الأسباب التي تدفع أسرةً لإرسال أحد أطفالها ليخوض أهوال هذه التجربة بمفرده، هي في معظمها أسباب صعبة وقاهرة والهدف منها هو إنقاذهم، وربما إنقاذ العائلة بأكملها من خلالهم. وأنا لست أحاول هنا أن أُلقي اللوم أو أرمي الاتهامات، ولكن من الضروري معرفة أنه مهما كان مصير الطفل بالقرب من عائلته صعباً، فهو ليس أصعب مما قد يعانيه وحده. إنهم لا ينجون أبداً، وإن تحقق ذلك على المستوى الجسدي، فهو مستحيل على المستوى النفسي. وإن كان لا بد من منقذ للعائلة، فهذه ليست مهمة أطفالكم، إنها مسؤولية كل أب وأم، وعليهم أن يتحمّلوها بأنفسهم. فلا تقدموا أطفالكم قرابين للوحوش البشرية والجوع والبرد والخوف والوحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون