اختار بعض أبناء الصابئة المندائية اللجوء إلى الأردن، بعد سلسلة من انتهاكات تعرّضوا لها على يد جماعات إرهابية متطرفة في العراق، ساعين إلى وطن بديل واعتراف الآخر وتقبّله، لكنهم يواجهون تحدياتٍ جمّةً في ممارسة طقوسهم الدينية، إذ تحاصرهم أفكار مغلوطة ومحاولات لتغيير معتقداتهم الدينية ما زالت قائمةً.
يعتنق الصابئة المندائيون ديانةً مستقلّةً في حدّ ذاتها، و غير تبشيرية، تحرّم الزواج من خارج الديانة، ومن طقوسها الصلاة، والصوم، والصدقة، والتعميد، وهو أحد أهم أركان هذه الديانة، ويُعد كتاب "كنزا ربا" (الكنز العظيم)، أقدس الكتب والمخطوطات عند الصابئة المندائيين، ومصدر التشريع والوصايا والتعاليم، ويعدّ صابئة الأردن منطقة المغطس في غور الأردن التي تحظى بقداسة خاصة لديهم، المكان الذي قام فيه النبي يحيى بتعميد النبي عيسى.
حسب أرقام رئاسة الجالية المندائية في الأردن، يبلغ عدد المندائيين المسجلين لديها، ما يقارب 471 عائلةً، يبلغ عدد أفرادها نحو 2،091 شخصاً، وهناك أكثر من 60 عائلةً غير مسجلة لعدم رغبتهم في إظهار أنفسهم.
رئيس الجالية المندائية في الأردن، سمير الكيلاني، يقول في حديث إلى رصيف22: "تمنعنا الجهات الرسمية في الأردن من ممارسة طقوسنا عند المياه الجارية في منطقة وادي شعيب ومنطقة غور الأردن، على الرغم من أهميتها الدينية الكبيرة بالنسبة إلينا. في إحدى المرات تم توقيف أحد شيوخنا يومين، لأنه تعمد في تلك المنطقة. يُسمح لنا بممارسة طقوسنا في مكان خاص فحسب، خوفاً من أن نتعرض للمضايقات، على الرغم من أننا لم نتعرض لذلك من قبل".
ويضيف: "منعنا من ممارسة طقوسنا أضاف أعباءً ماديةً كثيرةً علينا، فقد قمنا باستئجار مزرعة وإصلاحها بمبالغ مالية كبيرة لتصبح مكاناً يصلح لممارسة الطقوس الدينية الخاصة بنا، فقام صاحب المزرعة باستغلال المزرعة واحتلالها ومضايقتنا وممارسة الضغوط علينا. تركنا المكان وتوجهنا إلى المحاكم".
"تمنعنا الجهات الرسمية في الأردن من ممارسة طقوسنا عند المياه الجارية في منطقة وادي شعيب ومنطقة غور الأردن، على الرغم من أهميتها الدينية الكبيرة بالنسبة إلينا"
ثلاثة أعوام من دون توثيق عقود الزواج
باسم عجيب عبود، يقول لرصيف22: "توثيق عقود الزواج أحد أهم التحديات التي تواجهنا في الأردن سابقاً. كان يقوم المندائي بتصديق عقد الزواج من رئاسة الجالية كونها الجهة الوحيدة المخولة لدى الطائفة في الأردن بذلك والمعتمَدة من الحكومة العراقية. رئاسة الجالية تصدر الأوراق والسفارة العراقية في عمان تقوم بالمصادقة عليها وإرسالها إلى العراق وتتم المعاملة، لكن السفير العراقي الجديد عدّ هذه الإجراءات غير قانونية، وقام بمنع تصديق عقود الزواج، مما أدخل المندائيين في مأزق كبير".
ويضيف عبود: "نحن موجودون في الأردن منذ ثمانينيات القرن الماضي، ونعتمد إجراءات الزواج ذاتها، منذ إصدار قرار منع التصديق في 2020، الكثير من الزيجات أوقفت وفُسخت وأصبح زواج المندائي شبه مستحيل. أما إذا أراد الصابئي أن يصدّق زواجه لدى السلطات الأردنية، فلا تتم الموافقة على التصديق لأنها لا تعترف بالديانة الصابئية، وهذا تحدٍّ كبير أمامنا".
في هذه الصدد، يقول رئيس الجالية المندائية في الأردن: "لدينا شيوخ دين لإجراء مراسم الزواج، ولكن المسألة تحتاج إلى أن يكون هناك إثبات قانوني. نحن لا نطمح إلى الاعتراف بديننا في الأردن. نريد أن يقوم كاتب العدل بالمصادقة على صحة الزواج والشهادة بأن هذين الزوجين تزوّجا فحسب، وعلى ضوء هذا التوثيق تقوم السفارة بإجراء المعاملات بصورة أسهل وأسرع".
أجندة وأفكار مغلوطة تواجه المندائيين
يعيش المندائيون بإمكانيات معيشية ضعيفة بوصفهم لاجئين وممنوعين من العمل، مما يضطرهم إلى طلب المساعدات من منظمات وجهات تقول إنها إنسانية إذ يتم إجبارهم على حضور طقوس دينية مختلفة مقابل "كوبون" غذائي، ويقول الكيلاني: "نشعر بأن هناك أجندةً خفيةً تواجه الصابئة في الأردن، وخاصةً الضعيفين مادياً، وتقوم تلك الجهات بتغيير أفكارهم ومعتقداتهم والتأثير عليهم. نواجه هذه المسألة بإقامة دورات وندوات ضمن إمكاناتنا المحدودة، في سبيل جمع المندائيين مع بعضهم، ودعمهم وتوزيع مبالغ نقدية عليهم. أما هؤلاء فهم أقوى منا ولديهم الإمكانات الكثيرة وموارد مادية جيدة".
يعيش المندائيون بإمكانيات معيشية ضعيفة بوصفهم لاجئين وممنوعين من العمل، مما يضطرهم إلى طلب المساعدات من منظمات وجهات تقول إنها إنسانية إذ يتم إجبارهم على حضور طقوس دينية مختلفة مقابل "كوبون" غذائي
رجل الدين الشيخ علاء عزيز طارش، يقول لرصيف22: "المندائيون لا يستطيعون العمل بحكم صعوبة الإجراءات في القانون الأردني، وأوضاعهم المعيشية صعبة. هذه نقطة ضعف استغلتها بعض المنظمات بتقديم مساعدات غير خالصة لوجه الله، ولا نستطيع إنكار أننا شهدنا بعض المندائيين تأثروا وانجذبوا إلى تلك الأفكار".
ويرى المندائيون أن الفكر الخطأ والمعلومات المغلوطة تحدٍ كبير أمامهم، ويقول طارش: "الزي الخاص بنا وطوق اللحى تُعرّضاننا للكثير من المضايقات. هناك من يعتقد بأننا نتبع جماعات ارهابيةً، لذا نحرص على ألا نرتدي الزي إلا عند ممارسة طقوسنا الدينية، وفي حياتنا اليومية نرتدي الملابس العادية حتى لا نجلب الأنظار والانتباه".
ويضيف: "مؤرخو الشرق الأوسط لم ينصفونا، وساهم بعض المثقفين في ذلك. مثلاً يعدوننا نعبد الملائكة فقط لأننا عند بداية صلاتنا نباركها على الرغم من أننا نُتبع المباركة بالتسبيح والسجود للخالق العظيم، وللملائكة مكانة خاصة في كل الأديان، كما يرى البعض أننا نعبد الكواكب والنجوم. أسلافنا وأجدادنا كانوا يدرسون علم الفلك ومسار النجوم وتغيراته وتأثيراته على الإنسان إلا أن ذلك لا يعني أننا نعبدها".
موقف آخر يضيفه أحد الصابئين فضّل عدم ذكر اسمه، وهو اعتقاد البعض بأنهم يتناولون اللحوم والدواجن المذبوحة بطريقة الخنق، فيقول: "عند ذبحنا الحيوان، نقوم بلبس الزي الديني، ونتوضأ ونغتسل بالماء، ويجب أن تكون السكين حديديةً وحادةً حتى لا يتأذى الحيوان. نسمّي على الحيوان قبل ذبحه، وبعد الذبح نغتسل من خطيئتنا، وعلى الرغم من أن هذا مشروع إلا أننا نتوسل للخالق المغفرة، وهذا لا يعرفه الكثيرون عنا".
ويضيف: "تعرّضنا في العراق للاضطهاد الديني، وهربنا من التكفير، وهذان كانا سبباً في أن يُعرّف البعض بأنفسهم على أنهم من ديانة أخرى، كمسلم أو كمسيحي، بسبب الأفكار المغلوطة لدى الكثيرين عن الدين الصابئي".
قانونياً، المحامية إيناس زايد، تقول لرصيف22: "لا يوجد أي نص قانوني يمنع أو يقيّد أو يحظر الأقليات الدينية الموجودة في الأردن من ممارسة طقوسها الدينية".
"الزي الخاص بنا وطوق اللحى تُعرّضاننا للكثير من المضايقات. هناك من يعتقد بأننا نتبع جماعات ارهابيةً، لذا نحرص على ألا نرتدي الزي إلا عند ممارسة طقوسنا الدينية، وفي حياتنا اليومية نرتدي الملابس العادية حتى لا نجلب الأنظار والانتباه"
وتضيف: "الأردن وقّع وانضم إلى العديد من الاتفاقيات الدولية التي تضمن عدم التمييز بين الناس على اختلاف أديانهم، مثل الشرعة الدولية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يساوي بين الجميع ويتيح ممارسة الطقوس والشعائر الدينية الخاصة بالأقليات، ويلزم الأردن بتوفير الحماية لهم والسماح بإقامة المنشآت الدينية الخاصة بهم".
تاريخ قديم من الظلم والاضطهاد
الدكتور سعد سلوم، الخبير في شؤون التنوع الديني ومؤسس معهد دراسات التنوع في بغداد، يقول لرصيف22: "المادة الثانية من الدستور العراقي تعدّ المندائية كأحد الأديان المعترف بها رسمياً، إلا أنه في عام 2003، بعد الفوضى التي اجتاحت العراق، بدأ المندائيون رحلة نزوح من وسط العراق وجنوبه إلى إقليم كردستان والهجرة إلى بلدان الجوار شملت سوريا والأردن وتركيا، ووصل الأمر إلى أن 90% منهم غادروا البلاد إلى وجهات مختلفة، وتُعدّ أستراليا الوجهة المفضّلة لهم".
سلوم الذي ألّف كتاباً عن الصور النمطية عن الأقليات عنوانه "مائة وهم عن الأقليات في العراق"، يضيف: "كلمة الصابئة مشتقة من الفعل الآرامي (صبا)، والذي يعني في اللغة الآرامية المندائية اصطبغ أو تعمّد، وهي شعيرة مهمة وأساسية في ديانتهم، تقوم على الارتماس في الماء الجاري، والاصطباغ أي التعمد فيه، ولذا يلازم المندائيون ضفاف الأنهار لممارسة الطقس الجوهري في الديانة المندائية (التعميد بالماء)".
ويوضح أن كلمة "المندائيين" تعني المعرفة أو العلم، وترجع إلى الفعل الآرامي أيضاً (يدا-أدا)، الذي يعني يعرف أو يعلم، وبذلك يكون معنى الصابئة المندائيين هو: المصطبغون المتعمدون العارفون بوجود الله وتوحيده".
ويضيف: "تتعرض الثقافة المندائية لخطر حقيقي، كما أن وجودهم مهدد بالانقراض، فجمعهم في بلد واحد بدل تشتتهم في المنافي حل مناسب لمواجهة هذا الخطر، ومخاطر انقراض لغتهم التي تُعدّ لغةً طقسيةً يقتصر تداولها على رجال الدين، وعدد قليل من الباحثين، وكونهم غير تبشيريين ولا يُسمح لهم بالزواج من خارج الطائفة، فإن ذلك يقدّم صورةً مظلمةً عن مستقبلهم في بلدٍ يُعدّون من أقدم سكانه".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...