يعيش أهل بلدي
شَعره مسحوب على هيئة ذيل حصان، ولأنه خشن بعض الشيء فإن هناك بعض الخصل تنفر من بعضها وتتمرد على الإستك الذي يحاول لَمَّ شملهم بدون جدوى. تبدو كأسلاك شائكة ذات سنون قاتلة. أعرفه منذ الصف الأول الثانوي، حيث يزور منزل خالته من وقت لآخر، وكنا نجتمع أسفل البناية الفخمة التي بها الشقة، أنا وبعض الأصدقاء من الشوارع المجاورة في منتصف التسعينيات، قبل أن تدمر وسائل التواصل كل أشكال التواصل.
أول مرة رأيناه كانت عيناه حمراوتين وأثار فينا الفزع، كان حريصاً جداً أن يقوم بتصدير هذا الإحساس: "أنا شرير، خافوا مني"، وكنا نخاف! صوته خافت لا يشعرك أنه موجود، ولكنه موجود وبقوة، حيث يتسلل إلى أعماقك عندما يتحدث وعندما يصمت وعندما ينفث بغضب دخان السيجارة في وجوهنا عمداً.
لم يكن مُرحباً به. قال لي صديقي هشام: "الواد ده مؤذي ومحدش عارف له حاجه!". لا أقتنع، ولكن أنظر إلى النونو وأتيقن أن هشام غير مخطئ! تضربني الحيرة!
نزل يوماً من العمارة الفخمة التي تطل مباشرة على شارع الهرم ومعه شنطة بلاستيكية مطبوع عليها لوجو أعرفه جيداً، كانت ماركة للتسجيلات الصوتية من خارج مصر والتي تنسخ من الأسطوانات المدمجة (الباهظة الثمن في هذا الوقت) وتضعها على شرائط كاسيت لكي تكون متاحة لقطاع أكبر من المستمعين، كنت أعرفها بحكم عملي لفترة قصيرة كمنسق أسطوانات "دي جي". نظر لي وهو يمر من أمامنا وهو على يقين أنني سوف ابتلع الطعم! عيناه الحمراوان تزدادان احمراراً، ثم يقترب مني ويأخذني جانباً بعيداً عن بقية الشِلة.
محطة الأريزونا
موقف أتوبيس محطة الأريزونا، والتي سُميت بذلك بسبب ملهى ليلي بنفس الاسم، وهو واحد من أكثر من 20 ملهى ليلياً منتشرين في شارع الهرم، منذ فترة الثمانينيات وحتى بداية الألفية الجديدة. أصوات السيارات تهفو مسرعة وتمرق من أمامي الآن عائدة بالزمن للخلف، وتضعني أمام مأزق الحنين للماضي. كنت أسكن في شارع "عمر بن الخطاب" المقابل تماماً للملهى، من الجهة الأخرى لشارع الهرم الرئيسي، في مفارقة صارخة ما بين هيبة أمير المؤمنين وبين الرجال السكارى الذين يخرجون فجراً بعد نهاية السهرة وفي أيديهم مومسات ما بعد الانفتاح، الذي بدأه الرئيس الراحل أنور السادات وهو يتأبط ذراع الولايات المتحدة، والتي استعار أصحاب الملهى الليلي اسم أحد أهم ولاياتها، في مفارقة أخرى يعلمها الكل، بما فيهم الرئيس السادات نفسه!
كنت أسكن في شارع عمر بن الخطاب المقابل تماماً للملهى، في مفارقة صارخة ما بين هيبة أمير المؤمنين وبين الرجال السكارى الذين يخرجون فجراً بعد نهاية السهرة وفي أيديهم مومسات ما بعد الانفتاح... مجاز في رصيف22
كان النونو يزور خالته في البناية التي تقبع على ناصية شارع شفيق غالي، على بعد شارعين فقط من مسكني، وكان هذا الحيّ يضم الطبقة المتوسطة أو الطبقة المتوسطة العليا، القليل ممن عادوا بأموال الخليج في الثمانينيات واشتروا شققاً بنظام التمليك، أو من استأجر شقة متوسطة في شارع داخلي بجنيهات قليلة من أجل حياة أفضل لأولاده، وهو الحال مع أبي الموظف في إحدى شركات القطاع الحكومي المصري.
"وصلوني من الكويت… من عند سامر ابن خالتي"، أجاب النونو عن سؤالي، ثم أضاف: "خدهم اسمعهم براحتك ورجعهم لي". قلبت في الشرائط ونظرت له ولم أعهد هذا الود والنعومة وكأني أراه للمرة الأولى!
"أنت فنان": أضاف بهدوء وعيناه لا تزال حمراوين والأسلاك الشائكة تزداد انفلاتاً من رأسه بسبب عدم قدرة الفازلين الذي يسحب به الشَعر للخلف على السيطرة، نظرت له في هلع في انتظار إضافة بينما تعبر أمامنا السيارات ونحن نجلس على رصيف الشارع أمام ملهى الأريزونا بعيداً عن أعين الباقيين. أشار بيديه علامة القلم والورقة وكأنه يكتب في الهواء. حدقت فيه بدهشة! "أنا أعرف سرك": أكمل وهو ينفث في وجهي دخان سيجارة محلية من نوع كليوباترا.
شارع الهرم
تتفرع عدة شوارع جانبية من شارع الهرم الرئيسي وتنتهي من الناحية الأخرى بأحياء أشد فقراً، في علاقة طردية ما بين عدد الكيلومترات التي تسيرها للداخل مع نسبة الفقر. كنت أسكن في منتصف شارع عمر بن الخطاب بالضبط، وبالتالي كنت في المنطقة الوسط، ثم ينتهي الشارع بمنطقة حي "الأندلس" الفقير في مفارقة ثالثة تذكرنا بجنة المسلمين المفقودة والتي لا يبالي بها السكان المطحونون، ثم لو سرت عدة كيلومترات أخرى تصل إلى منطقة "بركة الرمل" ثم "مسجد كُرّاتة"، ثم تصل إلى قلب "عاصمة جهنم".
"أنا أعرف أنك بتكتب شِعر وأغاني". لا أعلم لمَ أرتعد عندما اسمع هذه الصفة عني، منذ بزوغ قدرتي على صياغة كلام موزون ومقفى مع نهاية المرحلة الإعدادية وأنا أشعر بمجموعة مشاعر متضاربة عندما يصفني أحد بالـ "شاعر". هذه صفة أكبر مني، دوماً أراها كذلك، أخجل وأتوارى من نفسي وأشعر بأنني صغير ولا أستحقها، ويخرج مني رد تلقائي أكرره داخل نفسي "أنا؟ أنا شاعر؟".
"بتكتب أغاني وكده"، أضاف النونو وعيناه تزدادان احمراراً وتتسعان أكثر وتخيفاني. "أحياناً": متلعثماً أجبت وأنا أتجنب النظر لعينيه مباشرة وأتظاهر بتصفح شريط في يدي.
"أنا عارف كل حاجه عنكم… الشِلة دي كلها بنت وسخة مش بيحبوني، بس عارف عنهم اللي أهاليهم نفسهم مايعرفهوش".
ينظر لي: "بس انت رايق ونضيف".
"أنا عايزك تعرف أنت كمان سري".
لا أعلم ما وظيفة "نضيف ورايق" بعد السبة الجماعية لأمهاتنا، وظهر لي مرة أخرى صوت هشام "الواد ده مؤذي"، وأطلت النظر في عينيه الحمراوين، وأخذت مني الشكوك مده زمنية ليست بالقصيرة، ومن ضمنها كل الوصمات التي قد تطرأ على عقل شاب.
عاصمة جهنم
لم يقتل الفضول قططاً فقط ولكن من المؤكد أنه قتل بشراً أيضاً، هل يمكننا تصنيف "الفضول" من ضمن الخطايا السبع المميتة؟
لا أعلم لمَ أرتعد عندما اسمع هذه الصفة عني، منذ بزوغ قدرتي على صياغة كلام موزون ومقفى وأنا أشعر بمجموعة مشاعر متضاربة عندما يصفني أحد بـ"الشاعر". هذه صفة أكبر مني، دوماً أراها كذلك، ويخرج مني رد تلقائي أكرره داخل نفسي "أنا؟ أنا شاعر؟"... مجاز في رصيف22
كان الفضول هو ما حرك آدم نحو الشجرة المحرمة وليس الجشع أو الجوع. لن يحدث لي هذا ولا ذاك. لن يقتلني أحد لو حاولت معرفة سر النونو ولن أُلقى من الجنة لأني على الأرض بالفعل. ظللت أفكر في هذه الخواطر وأنا في الطريق إلى "عاصمة جهنم"، أركب في الصندوق الخلفي لسيارة نصف نقل تم تعديلها بغطاء جلدي سميك مشدود على قوائم حديدية متينة، تجعلها مغطاة من أعلى، لكي تتحول من سيارة لنقل البضائع والحيوانات إلى سيارة نقل ركاب.
"أول مرة عاصمة جهنم؟".
حاول الراكب بجواري فتح مجال للحديث بعد أن لاحظ اختلاف هيئتي وملابسي عن طبيعة قاطني الحيّ، بالإضافة إلى توتري الواضح والخوف الذي يسيطر على جلستي. لم أرد.
رفضت في البداية دعوة النونو لكي أعرف "سرّه" عندما دعاني لزيارته في بيته داخل حواري الطالبية "عاصمة جهنم". غضب بشدة وخطف من يدي الشنطة التي بها الشرائط، وغادر رصيف الأريزونا في عصبية طفل صغير اختلف مع أصدقائه فقام بسحب كرته منهم ومضى مُفسداً متعتهم. لم يفسد متعتي لأن لي طرقاً أخرى عديدة أحصّل بها الأغاني ولكنه أحزنني. لم أكن يوماً من ذلك النوع الذي يصغي لما يقال عن الآخرين وأبني عليه موقفي منهم، غضبت من نفسي لأن سبب رفضي زيارته هو كلمة هشام التي تتردد في أذني.
كان لي أصدقاء في الجامعة من كل الأطياف والميول والطبقات الاجتماعية، كنت أجيد التعامل مع الجميع وأنصت للكل ولا أترك مجالاً لأحد أن يؤثر في شخصيتي، لم لا أفعل نفس الأمر مع النونو. "أحياناً أخاف منه"، هكذا رددت لنفسي، "ربما يكون السر يستحق الاستكشاف". أنحاز إلى نفسي وأختار خطيئة "الفضول" بدلاً من سلامة الخوف. أعطاني صديقي عجوة العنوان وأخبرته أن لا يخبر بقية الشلة، وانطلقت في اليوم التالي نحو "عاصمة جهنم".
صوت ثُغاء ماعز قطع شرودي، ورأيت رجلاً يصعد إلى السيارة ومعه معزتين سوداواتين نحيفتين، دار شجار قصير بينه وبين الركاب انتهى بانتصاره عندما صرح بأنه دفع أجرة كاملة لكل معزة منهم، وحصل من السائق على تأييد بإيماءة خفيفة من رأسه عبر زجاج السيارة الخلفي أخرست المتشككين في أحقية الحيوانات في الركوب، دققت النظر في عيني المعزتين المليئتين بالأسرار وبالفضول عن سبب مجيئي إلى هنا.
كلما غاصت السيارة داخل حواري الطالبية أكثر كلما تنامى داخلي شعور بالغربة والخوف والتساؤل عن طريق العودة. سرنا لمدة لا تقل عن نصف الساعة، مررنا ببائعة جائلين وأسواق خضر وفاكهة وسمعت مشاجرتين على الأقل تأتيان من الشارع، وفي الخلفية صوت ثُغاء الماعز المسكينة التي ضجرت من اهتزاز السيارة. خلت السيارة في النهاية إلا مني وتوقفت وصاح السائق: "الكُنيّسة والآخر يا كابتن".
سرت حسب وصف عجوة، عالم آخر يسير حولي، أطفال نصف عراة وموسيقى شعبية تتداخل في ضوضاء منفرة، أسير في خوف وهلع وأتذكر وصية عجوة: "دخولك عاصمة جهنم يكون بالأدب… وطي راسك في الأرض أحسن تخرج من غير هدومك"، الآن أيقنت كم يحبني عجوة.
وصلت إلى شارع "عكوة" الصامت المهجور، ثم انحرفت يميناً إلى حارة "غراب" المظلمة تماماً، ولا أكاد أرى كف يدي. طالت وطالت وطالت وأنا ألعن نفسي لأني لم أتعظ من نصيحة هشام وقمت بسباب عجوة لأنه لم يردعني عن رغبتي.
"اقلع الكوتش ده يااض".
رأيت فقط نصل مطواة يلمع ولم أتبين أي شيء آخر.
السر
فُتح باب الشقة المتواضعة بعد أن صعدت خمسة أدوار حافياً، نظر لي النونو بدهشة زادت عندما رآني حافياً. ولكنه احتضنني طويلاً وشعرت بدفء قلبه وترحيبه بكل العبارات الممكنة. كان شعرَه حراً هذه المرة وغير ممشط ويرتدي تي شيرت قديم مرسوم عليه صورة باهتة لمغني الروك كيرت كوباين، مطرب فرقة "نيرفانا" وكان حافياً مثلي.
لا تزيد مساحة الشقة عن ستين متراً، وبها دفء لا يتماشى مع "عاصمة جهنم"، داخل غرفة النونو سرير بسيط وجهاز كاسيت حديث، وهناك في ركن ما منها رأيت جيتارين.
"انت بس اللي تعرف السر من الشلة بنت الوسخة دي".
وصلت إلى شارع "عكوة" الصامت المهجور، ثم انحرفت يميناً إلى حارة "غراب" المظلمة تماماً، "اقلع الكوتش ده يااض". رأيت فقط نصل مطواة يلمع ولم أتبين أي شيء آخر... مجاز في رصيف22
امسك جيتاراً منهم، وسحب شعره للخلف وربطه بالإستك ويعود لهيئة ذيل الحصان، وبدأ يعزف ببراعة شديدة، جزءاً من إحدى أغاني فرقة "نيرفانا" المعقدة وكان يغني بالإنجليزية بطلاقة، هذا ليس وليد النونو.
"حفظت الكلام بالعافية". ردد عندما رأى دهشتي من براعته، ربما شعر بالخجل أو الإطراء.
"مجيتك دي شايلها في قلبي".
حكيت له باختصار ما حدث منذ دخولي سيارة الماعز حتى "تقليب الكوتش النايكي"، ضحك كثيراً ولم يعلق ثم سحب الجيتار مرة أخرى وقال: "اسمع كده"... بدأ يعزف لحناً جميلاً دخل قلبي…
"تعرف إن عندي غيّة حَمَام فوق السطح؟ نفسي أغني للحَمام".
"ممكن تكتب لي كلام على اللحن ده؟ عن الحَمَام، تعرف؟".
أعاد العزف أربع مرات… دخل أخوه الصغير سعد الذي لا يتعدى العشرة أعوام ووضع أمامي كيك منزلي.
"اعمل اللي قولت لك عليه". يأمره النونو بشيء ويومئ الولد بالإيجاب.
ينصرف سعد ويطلب مني أن آكل. كنت جائعاً وأكلت وكان المذاق رديئاً للغاية وظهر على وجهي.
"أمي مالهاش في عمل الحلوّ". ضحكت.
"ولا الحادق".
ضحكنا أكثر، وطلبت ورقة وقلماً وحاولت مرات ومرات، لكن اللحن لم يطاوعني ولا يداي ولا قلبي. بدأت خصل شَعره في الانحلال مرة أخرى بعيداً عن قيود الشد، وكانت أشبه بأوتار الجيتار هذه المرة. شعرت أن الموهبة تخون، وحزنت لأني كنت أريد أن أثبت له ولنفسي أنني مهتم ومتفهم. من المرات النادرة التي وددت فيها أن أكون "شاعراً" متمكناً لكي أكمل لحن أغنية النونو الذي بدا كهروب طير من جحيم الأرض إلى رحاب الجنة.
أخرج شريطاً قديماً وبدأ في تسجيل اللحن عليه، وطلب مني أن أظل أحاول. أضاف أنه ربما يجرب اختبارات معهد الموسيقى بعد أن فشل في معهد التجارة المتوسط للمرة الرابعة. كان يكبرني بثلاثة أعوام.
ألقى لي بالشريط بعد ان كتب عليه بخط متناسق للغاية "أغنية النونو". ثم فتح دولاباً متهالكاً ذو ضلفة واحدة فقط، وأخرج منه حقيبة ضخمة بها عدد مهول من شرائط الكاسيت المرسوم عليها ذلك اللوجو الشهير لشركة التسجيلات الكويتية، تشكيلة مذهلة من كل أنواع الموسيقى، وبدأ يجرب شريطاً تلو الآخر ويصف لي نوع الموسيقى وأسماء بعض العازفين. واخترت بعضاً من الشرائط النادرة لكي أنسخها عند مؤنس الصعيدي، الوحيد في الشلة الذي يملك كاسيت مزدوجاً ذا بابين.
طلبت الانصراف. "مرعوب ترجع؟". لم أرد أن أكشف له عن خوفي وضعفي بعد أن خذلته في المهمة الأسمى. طمأنني بأنه سوف يقوم باصطحابي حتى موقف السيارات. لم يكن لديه خط هاتف أرضي واكتفيت بأن اتفقت معه على موعد في الأسبوع القادم لإعادة الشرائط. اقترب من الدولاب مرة أخرى وأخرج صندوقاً عليه علامة نايكي الشهيرة وفتحه ومد يده بحذاء جديد.
"تقريباً مقاسنا واحد". رفضت رفضاً شديداً وشرح لي أنه لا يملك إلا حذائين اثنين ولا يصح أن يعطيني أحدهم لأعود به، كما أنه ليس من اللائق ان أرتدي "شبشب".
عاصمة جهنم- العودة
دخلنا حارة "غراب" وتوترت بشكل تلقائي، أضاء النونو قداحة السجائر. رأيت تحت قدمي واستغربت للحظة من هذا الحذاء الذي أرتديه، ثم تداركت الأمر. وصلنا لشارع "عكوة" ولاحظت زحاماً من البشر وميزت سعد الصغير واقفاً ومعه مجموعة من الشباب ممسكين بـ "سنج" (سكين طويل ضخم)، يحيطون بشاب ضخم الجثة، عاري الصدر، يرتدي فقط سرواله الداخلي ويبدو عليه الهلع الشديد.
"قرب تعالى"، أمرني النونو أن اتبعه ناحية الزحام، وعادت عيناه للاحمرار مرة أخرى، وما أن رآه الشباب حتى صافحوه بحرارة، وقاموا بإفساح الطريق له ليصبح وجهاً لوجه مع الشاب العاري.
"ده اللي قلب منك الكوتش"، أخبرته بأني لم أتبين ملامحه في الظلام، وفجأة قام بصفع الشاب بعنف رهيب وأدمى وجهه. "فين الكوتش يابن المرة؟"، أشار الشاب إلى سعد الذي رفع حذائي أمام وجهه.
شعرت أن الموهبة تخون، وحزنت لأني كنت أريد أن أثبت له ولنفسي أنني مهتم ومتفهم. من المرات النادرة التي وددت فيها أن أكون "شاعراً" متمكناً لكي أكمل لحن أغنية النونو الذي بدا كهروب طير من جحيم الأرض إلى رحاب الجنة... مجاز في رصيف22
"وربنا ما أعرف أنه جايلك يا نونو". يكاد الشاب يبكي، يمسك النونو "سنجة" من أحد الواقفين ويضرب بها الشاب في فخذه ويدميها ويزيد صراخه. "بعد كده تبقى تسأل".
عاصمة جهنم تبدو أهدأ في الليل، أركب وحدي في سيارة العودة مرتدياً حذاء النونو الذي صمم أن يأخذ حذائي وآخذ حذاءه كاعتذار عن سوء الأدب الذي أبداه معي "خرتيت".
سكون الشوارع واحد، تبدو كلها متشابهة عندما تكون نائمة، لا فرق بين الطالبية ومصر الجديدة وباريس، أرصفة وعمدان ومحلات مغلقة، البشر فقط هم من يضيفون للمكان مذاقه، اقتربنا من شارع الهرم مع السائق العجوز. أعود بحقيبة فيها شرائط موسيقية نادرة وحذاءان، ولحن جميل يتردد في أذني.
أغنية النونو
يعلم الشعراء أن الموهبة تراوغ مثل أنثى كلما اشتهيتها كلما هربت منك وتركتك تذوب. ينقضي الوقت وأقابل النونو مرات مرات، وفي كل مرة يتجنب سؤالي، ويلتحق بمعهد الموسيقى.
عشر سنوات كاملة تمر، وأترك شارع عمر بن الخطاب مع أهلي وانتقل إلى شارع "فاطمة رشدي". لا أعلم شيئاً عن النونو، أتوقف أمام البناية التي تقطنها خالته بينما أقود سيارة أبي. أرفع رأسي لأعلى واعتصر السنوات في عقلي ليخرج منها كل المشاهد التي جمعتني بـالنونو.
أمسك قلماً للمرة الأخيرة كان ملقى بإهمال في درج السيارة، أحاول مرة أخيرة أن أقبض على اللحن الذي أحفظه عن ظهر قلب بعد أن ضاع الشريط أثناء النقل من البيت القديم، وتاه النونو في مسارات الحياة.
من وسط طيور الكون اخترتك طيري…
طير يا حَمام…
على سطح القمرة أم عيون فضة…
نام واتوضى…
طير يا حمام…
على أرض الحرم أنا شوفتك هايم…
نايم صاحي…أو صاحي نايم…
صليت تاني وجات لي نسايم في الأحلام…
طير يا حمام…
وف قلب الغيّه…
تقول أغنية…خير وسلام…
من وسط طيور الكون اخترتك طيري…
طير يا حَمام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع