عالميّةُ الموسيقى، صكُّ اعترافٍ نالتهُ منذُ قرون، ممهورٌ بحبرِ إبهامِ مثقّفي الأرض كلهم. خاضت الموسيقى بخاصيتها الـ"عالمية" هذه، امتحانات كثيرةً تجاوزتها بتفوّق، فعندما قال صانعها العبقري: "أفضّلُ كتابة عشرة آلاف علامة موسيقية بدلاً من كتابة حرف واحد من الأبجدية"، أثبت بيتهوفن للعالم صحّة مقولتِه عبر جعله الموسيقى أبجديةً قادرةً على نسجِ حكايةٍ بأحاسيس وفلسفة حياة تعجز عن التعبير عنها حروف لغات العالم كلها.
وإلى اليوم تتلو أوتار موسيقيي الأرض قصائد وأقاصيص، بعضُها يحومُ في مدار أصحابِه وبعضها يجوبُ العالم سفيراً للّحن العذب لبلاده وصنّاعه، ومحركاً وجدان أبناء جالية بلاده في تلك الأراضي البعيدة.
على مسرح الأوركسترا الكندية العربية، خشبة تُبحر بمن عليها إلى أوطان وتراث وثقافة... كلٌّ يُجذف بأوتار آلته الموسيقية، فيما يساند الحضور المبحر مع السفينة بتصفيق وهتاف وكأنه يقول للمركبة: سيري بنا إلى برّ ذلك العالم المتعب لرُدهة قصيرة، ومن ثم نعود إلى صخب الغربة.
ولاءٌ لسحر الموسيقى
تقدّم الأوركسترا الكندية العربية مجموعةً منوعةً من المهرجانات والبرامج كمهرجان الموسيقى العربية ومهرجان تعدد الثقافات، وجولات العروض، ويتحدث مؤسس الأوركسترا الكندية العربية ومديرها، وفا الزغل (43 عاماً)، إلى رصيف22، قائلاً: "نقدّم الموسيقى الكلاسيكية والتراث الموسيقي العربي المنوّع ونعملُ دائماً على دمجِ الموسيقى العربية مع موسيقى الشعوب الأخرى التي تشكل الموزاييك الكندي".
"لننسَ كل الخلافات بيننا وننصهر في بوتقة الموسيقى العربية التي توحدنا وتجمعنا دائماً"؛ هكذا يتحدث عازف القانون الزغل عن دور الأوركسترا في توحيد الجالية العربية في كندا، وبناء جسور التواصل بين الموسيقى الغربية والعربية، ويضيف: "نحاول من خلال الأوركسترا أن نحتضن الشباب العربي ليبقى على تماس مع ثقافته وتراثه".
على مسرح الأوركسترا الكندية العربية، خشبة تُبحر بمن عليها إلى أوطان وتراث وثقافة... كلٌّ يُجذف بأوتار آلته الموسيقية، فيما يساند الحضور المبحر مع السفينة بتصفيق وهتاف وكأنه يقول للمركبة: سيري بنا إلى برّ ذلك العالم المتعب لرُدهة قصيرة، ومن ثم نعود إلى صخب الغربة
بدأت فكرة الأوركسترا بين الزغل وزوجته عازفة البيانو لميس عودة عبر إقامة حفلات جمعت الآلتين الشرقية والغربية، وهنا يقول الزغل الذي ترك بلده فلسطين وانتقل إلى كندا عام 2013 لرصيف22: "مثلما جمعتنا الموسيقى كزوجين، أيقنّا قدرتها على جمع شعبين وثقافتين… أنجزنا في كندا عروضاً مصغّرةً لاقت تقبلاً ورواجاً كبيرين، ووُلدت معها فكرة الأوركسترا التي احتضنها المجتمع والدولة في كندا من باب حرصها على التنوع الثقافي ومن باب إيمانها بأن الثقافة الكندية هي ثقافة تراكمية تستند إلى جمع طيف كبير من الثقافات، وفي نيسان/ أبريل 2015، تم تسجيل الأوركسترا الكندية العربية كمؤسسة غير ربحية في كندا".
على متن النغم
كان لاهتمام الجالية العربية دور كبير في نجاح الأوركسترا، والاهتمام الحكومي الواضح أيضاً، حرصاً منها على أن يشعر المغترب بأنه على صلة بتراث وطنه وثقافته، الأمر الذي جعل المشروع يكبر ويتشعب إلى ثلاث أوركسترات مستقلة والمعهد الكندي العربي، وهنا يقول قائد الأوركسترا الكندية العربية للشباب، غابي البطرس (27 عاماً): "بعد هجرتي من سوريا، تعرفت إلى الأوركسترا عبر حفل موسيقي وبدأت مسيرتي معها كعازف، ثم أوكلت إليّ مهمة قيادة أوركسترا الشباب اليافعين وتدريبهم، وهنا بدأت العمل على العناية بخاصية التوزيع الموسيقي بين الآلات في الأوركسترا، وتعزيزها، وإعادة صياغة النوتات الموسيقية للآلات لتظهر بشكل متناغم".
بدأت فكرة الأوركسترا بين وفا الزغل وزوجته عازفة البيانو لميس عودة عبر إقامة حفلات جمعت الآلتين الشرقية والغربية.
يضيف البطرس الذي يرأس المعهد الكندي العربي التابع للأوركسترا: "عندما نعتلي المسرح، نشعر وكأننا انتقلنا جغرافياً من كندا إلى العالم العربي، فعندما نقدّم تراثاً مصرياً نشعر بأننا وسط القاهرة، وفي حفلات 'العراقيات' تتناغم مع موسيقانا زغاريد نساء الجالية العراقية، وبعد انتهاء الحفلات تنهال علينا تعليقات الحضور المشيدة بحالة النوستالجيا التي عاشوها خلال الحفل، أما الجمهور الأجنبي فيقصد حفلاتنا لاستكشاف التراث العربي وأصالة الموسيقى العربية".
تمكنت الأوركسترا من تغيير "الصورة النمطية" التي يصدّرها الإعلام والسينما عن المجتمعات العربية في كندا حسب مؤسسها الزغل، الذي يقول لرصيف22: "أثبتنا أن العرب لديهم ثقافة وموسيقى تمتد لآلاف السنين، ولديهم إرث ثقافي مهمّ، والجمهور الكندي متعدد ومهتم بالاطلاع على الثقافات الأخرى وشغوف للتعرف على الفنون المختلفة عن ثقافته الأم".
علامةٌ شرقية مسجّلة
الجمهور يتفاعل عندما يسمع موسيقى يعرفها ومتعلق بها، لكنه لا يحب سماعها بالشكل التقليدي القادر على الوصول إليه عبر الإنترنت، وهو ما تعمل عليه الأوركسترا الكندية العربية، كما يتحدث المايسترو وانيس مبيض، قائد الأوركسترا الكندية العربية (51 عاماً)، إلى رصيف22، قائلاً: "الجمهور يأتي إلينا وهو على موعد مع إضافات جديدة، وهذا ما نسمّيه الصّدمة الإيجابية التي تلهب حماسة الجمهور والتي نحرص على خلقها في كل حفل".
يضيف مبيض وهو سوري الجنسية: "أحاول من خلال قيادتي للعازفين استغلال مهاراتنا في التعامل مع الموسيقى الشرقية التي تربينا عليها والمقامات الشرقية التي تشربناها منذ الصغر، وهذا عنصر تميّزنا هنا في كندا، وفي الوقت ذاته نسعى إلى الاستفادة من معارفنا وخبراتنا في الموسيقى الكلاسيكية وتقديم هذا المنتج الثقافي المميز والمتكامل".
وعن الأجواء داخل الاوركسترا يقول مبيض: "هي حالة من الموزاييك العربي، مفعمة بالود والمحبة وكل الموسيقيين يتم انتقاؤهم بعناية لضمان الجو الصحي اللازم لنجاح العمل، وكل من لم يبدِ انسجاماً ابتعد من تلقاء نفسه".
كان لاهتمام الجالية العربية دور كبير في نجاح الأوركسترا، والاهتمام الحكومي الواضح أيضاً، حرصاً منها على أن يشعر المغترب بأنه على صلة بتراث وطنه وثقافته، الأمر الذي جعل المشروع يكبر ويتشعب إلى ثلاث أوركسترات مستقلة والمعهد الكندي العربي
مصنعُ حرّاسِ التراث
يحرص صناع الأوركسترا على ضمان بقائها وعلى تنوع طاقاتها التي تحقق عنصر المزح بين مختلف الأنواع الموسيقية، لذلك كانت الحاجة إلى تأسيس المعهد الكندي العربي كنواة للأوركسترا وبيئة خصبة لصقل مواهبها، وهنا يؤكد مؤسس المعهد الزغل: "المعهد صمام أمان استمرارية الأوركسترات الثلاثة، وهو يصدّر إنتاجها إلى الأجيال القادمة الشابة، وإلى المجتمع الكندي أيضاً من خلال ما يقدمه عازفو المعهد عبر نشاطاتهم الفردية في أنحاء كندا كلها".
كوادر المعهد موسيقيون من مختلف البلاد العربية، وبعضهم من جنسيات كندية وأوروبية.
وعن آلية التدريب يقول البطرس الذي يدير المعهد: "التدريب في المعهد ينقسم إلى نوعين، النوع الأول موجه إلى الهواة، والثاني إلى الموسيقيين الأكاديميين المتفرغين للموسيقى من خلال تأهيلهم للمنافسة في امتحانات المعهد الملكي الكندي".
كوادر المعهد موسيقيون من مختلف البلاد العربية، وبعضهم من جنسيات كندية وأوروبية، ويؤكد البطرس أن "مستوى الأساتذة في المعهد يضاهي مستوى أعرق المعاهد الموسيقية في كندا، وهم يقومون بتدريب الطلاب على الموسيقى الكلاسيكية لصقل موهبتهم الموسيقية وتعليمهم موسيقى التراث الشرقي.
نحو الوطن
على الرغم من أن الأجهزة الذكية رقّعت بعض الشيء أوصال المغترب بوطنه، فبات يتلذذ بموسيقى بلاده كل يوم، وربما يحجز كرسياً "افتراضياً" على مقعد أوبرا وطنه، لكن ذلك لم يخفف من أثر الموسيقى الشرقية في تأجيج وجدان المهاجر العربي، ولا زالت النوتة الشرقية الـ"بلدية" تستفز نشوته الموسيقية، وترتّب له خلوةً مع بقايا الوطن البعيد، تبقى أجمل وهي "حيّة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...