سافرت للمرة الأولى إلى أمريكا، في 2016، ضمن إحدى المنح الصيفية التي تقدّمها السفارة الأمريكية في مصر. أذكر يومها كيف اعترتني البهجة والشعور بالخلاص. ستطأ قدميّ أخيراً أرض الحرّية والتقبّل التي لطالما استدعيتها في أحلامي.
وذات يومٍ، ذهبت في رحلةٍ إلى شلالات نياغرا، مع بعض الشبّان المصريين، وشاب وفتاة أمريكيَين. حين وصلنا إلى الفندق، رفضت الفتاة أن أنام معها في الغرفة نفسها، إذ خافت من أن أؤذيها في أثناء نومها، لأنني عربية مسلمة. صارحتني يومها بأن هذا الارتياب ليس عندها فحسب، بل عند الأخريات من أصدقائنا الأمريكيين المشتركين. بصراحة، لم أفهم عمّا تتحدث وقتها، فضحكتُ بتوترٍ شديد لما قالته، وتجاهلتها وأويت إلى فراشي بسلام.
لكن الحقيقة، أن نساءً عربيات، بالأخص المُحجّبات منهنّ، شهدن على الأراضي الأمريكية التمييز العنصري في أشكالٍ مختلفة.
لكن، لم يغب ما قالته عن بالي يوماً، خاصةً مع وجودي في أمريكا، ومشاهدتي ما يمكن أن يتعرّض له "المختلف/ ة"، من عنصريةٍ أحياناً، وتساءلت: إذا كان هذا نصيبي من العنصرية والتمييز ضدّي، وأنا عربية مسلمة غير مُحجّبة، فما حال المُحجّبات المقيمات في أمريكا؟
ادّعاءات التقبّل
المفترض أن أمريكا هي دولة ليبرالية ديمقراطية، تؤمن بالحريات، واختلاف الأعراق، والعقائد، والميول، والثقافات، فلا تتوقّع أنّ دخول امرأة محجّبة إلى مكانٍ، سيلفت الأنظار إليها.لكن الحقيقة، أن نساءً عربيات، بالأخص المُحجّبات منهنّ، شهدن على الأراضي الأمريكية التمييز العنصري في أشكالٍ مختلفة. ولقد مرّت على النساء المحجّبات أوقات صعبة، فشهدن موجتَين ضاريتَين من التعصّب والتمييز ضدّهن، أولاهما كانت بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، حين تعرضت كثيرات من المحجبات للتحرش اللفظي والجسدي، واتهامهنّ بالإرهاب، والصراخ في وجوههنّ بضرورة العودة إلى بلادهنّ. وكما جاء في بحثٍ أصدره اتحاد الحريات المدنية الأمريكية، بعنوان "التمييز ضد النساء المُسلمات"، بأن الشكاوى المتعلّقة بحقوق النساء المسلمات، ازدادت من 366 شكوى في 2000، إلى 2،467 شكوى في 2006، فشكّلت زيادةً بنسبة 647%، وكانت الشكوى الأكثر شيوعاً بينها، تتعلق بارتداء الحجاب.
لم يغب ما قالته الصديقة الأمريكية عن بالي يوماً، خاصةً مع وجودي في أمريكا، ومشاهدتي ما يمكن أن يتعرّض له "المختلف/ ة"، من عنصريةٍ أحياناً، وتساءلت: إذا كان هذا نصيبي من العنصرية والتمييز ضدّي، وأنا عربية مسلمة غير مُحجّبة، فما حال المُحجّبات المقيمات في أمريكا؟
أما الموجة الثانية، فكانت بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، فوفقاً لتقريرٍ أصدرته واشنطن بوست، أنه ورد في أحد الأبحاث الخاصّة بجرائم الكراهية، أن 69% من النساء المحجّبات، و29% من غير المحجّبات تعرّضن للتمييز العنصري، لمرةٍ واحدة على الأقل. ساءت أحوال المحجبات في هذه الحقبة، إلى الحدّ الذي دفع مجلة "الفتاة المسلمة"، وهي مجلة أمريكية تم إصدارها في 2007، لعرض حقيبةٍ فيها محتويات تساعد الفتاة المسلمة للدفاع عن نفسها، وسُمّيت بحقيبة "ما بعد الانتخابات"، وعبّرت عنها بتفعيل هاشتاغ عبر الإنستغرام MuslimGirlArmy.
خلال هذه الفترة، تم التداول بأحداث وقصص عن التمييز المُمارَس ضد المحجّبات، وكانت من أشهرها رفض شركة آبركرومبي وفيتش، توظيف سامانثا العوف، بسبب حجابها، وتدخّل جمعية أوهايو الثانوية الرياضية لحرمان نور ألكسندر من المشاركة في السباق، لأنها محجّبة!
تمييز يومي
لكتابة هذا التقرير، التقيت بنساء عربيات مسلمات، منهنّ المحجّبات، ومنهنّ من خلعت حجابها. في حديثٍ عن تعرّض المحجبات للعنصرية، تقول يمنى عكاشة، موظفة في أحد البنوك في ولاية سياتل في أمريكا :"في الولاية الكثير من المهاجرين، وهذا يحدّ من تعرّض المحجّبات للعنصرية، وأغلب العنصرية تصدر من الأمريكيين ذوي البشرة البيضاء. تعرّضت لموقفٍ سخيفٍ من عميلةٍ سألتني بشكلٍ واضح عن سبب ارتدائي الحجاب، فأخبرتها بأني مسلمة. وعندما جاءت إلى البنك في المرة الثانية، عرضت عليها المساعدة، ولكنها لم تقبل، وفضّلت أن تنتظر للتعامل مع أيّ شخص آخر غيري".
وعندما سألتها كيف تتعامل في هذه المواقف، قالت: "أستقبل الدعم من زملائي في البنك، لأنهم أيضاً من الأقلّيات مثلي، إذ يجمعنا خوف واحد من التمييز ضدنا... العنصري الذي يكرهني لأني محجّبة، هو الشخص نفسه الذي يكنّ الكراهية بالتبعية، لأيّ إنسانٍ آخر، لمجرّد أنه مختلف عنه".
تواجه نساء عربيات محجّبات، بشكلٍ شبه يومي، تمييزاً ضمنياً، غير مُصرّح به، يعرقلهن عن امتزاجهن مع النسيج المجتمعي الجديد، ويدفعهن إلى الشعور بالغربة، بسبب تقبّلهن المشروط. تزداد فرصة ممارسة التمييز ضد النساء المُحجّبات، إذا كانت لغتهنّ الإنكليزية ضعيفةً، أو يعملن في وظائف دون المتوسطة، أو كونها أمّاً تحاول دفع أطفالها لدمجهم في وطنهم الأصلي، أمريكا، الذين لم يعرفوا غيره.
تواجه نساء عربيات محجّبات، بشكلٍ شبه يومي، تمييزاً ضمنياً، غير مُصرّح به، يعرقلهن عن امتزاجهن مع النسيج المجتمعي الجديد، ويدفعهن إلى الشعور بالغربة، بسبب تقبّلهن المشروط.
خلع الحجاب
تحكي نهى مصطفى، عن تجربتها مع الحجاب، وخلعه في ما بعد، وكيف تغيّر المجتمع في استيعابها: "يتوتّر الناس من وجود غطاءٍ على الرأس، حتى لو تصنّعوا التقبّل بابتسامةٍ صفراء، فلا يزالون يفضّلون تجنّبك، لأنهم قلقون من وجودك في الفضاء العام، ولأنهم لا يعرفون مدى تقبّلك للآخر".تدرس نهى حالياً، صحة الفم والأسنان، وهي مُقيمة في أمريكا منذ سبع سنوات، وتابعت حديثها قائلةً: "هذا يدفعني للمبادرة في الحديث، واستجماع طاقتي لبذلها في إلقاء التحية، والتودّد لهم، ليطمئنّوا إلى أنّي لا أريد إلحاق الأذى بهم" .
تصف مشاعرها المختلطة قائلةً: "أظنّ أن المعاملة اختلفت بعد خلعي الحجاب، ويمكن أن لا شيء اختلف على الإطلاق، وكل ما طرأ في الأمر، هو إحساسي الداخلي، ورؤيتي الذاتية لنفسي، التي أعادت إليّ الثقة تدريجياً، ورفعت عنّي الخوف -بشكلٍ غير كامل- من الاحتكاك بالعالم الخارجي".
الحجاب "يقولب" العربيات، ويلفّق عنهن سيناريوهاتٍ مُسبقةً، مما يصعّب عليهن عملية الاندماج، وعن هذا تضيف نهى: "خلع الحجاب سهّل عليّ التعامل مع 70% من الناس، وبالأخص التعامل مع المرضى في سياق الشغل، لأن هذا النوع من الوظائف، الذي نحتكّ فيه مع العميل بشكلٍ مباشر، يصعب فيه توظيف امرأة محجّبة" .
العنصرية من العرب أيضاً
في سياقٍ متّصل بالتمييز والتقبّل المشروط، جاءت معظم قصص النساء المحجّبات بأن التمييز ضدّهنّ لا يأتيهنّ بالضرورة من الأمريكيين، ولكن أحياناً يأتي من أبناء العرب.
تقول ندى خليل، 29 سنةً، وتعمل حالياً، مديرةً للمشاريع الإنشائية في أمريكا: "تعرّضت للتمييز العنصري من شابٍّ تونسي يدرس معي في منحة الماجستير نفسها، في أمريكا. كان يتعامل معي بعنفٍ شديد، وغير مُبرّر. كان يتعامل مع المشروع الذي نتعاون فيه لإنجازه، بمنتهى اللا اكتراثية. ذات يومٍ أرسل لي رسالةً عنصريةً، قال فيها: ما بقاش غيركم يا حيوانات الصحراء تقولوا لينا هنشتغل إزاي!".
تابعت ندى حديثها: "صُدمت حين استقبلت هذه الرسالة. فنحن الاثنين عرب ندرس في المنحة نفسها، في المجال نفسه في أمريكا، فلمَ كل هذه العنصرية من إنسانٍ عربيٍّ قادمٍ من البلاد نفسها، وتجمعنا الظروف نفسها؟".
"أستقبل الدعم من زملائي في البنك، لأنهم أيضاً من الأقلّيات مثلي، إذ يجمعنا خوف واحد من التمييز ضدنا... العنصري الذي يكرهني لأني محجّبة، هو الشخص نفسه الذي يكنّ الكراهية بالتبعية، لأيّ إنسانٍ آخر، لمجرّد أنه مختلف عنه"
وفعلاً، حاولت ندى تصعيد الموقف، ولجأت إلى مكتب تقديم المشورة في الجامعة، الذي تعمّد تمييع الشكوى، لتكرارها على مدار سنوات الدراسة من النساء المُحجّبات، وأردفت قائلةً: "إثبات تعرّضي للضغط النفسي من هذا الشخص لم يكن سهلاً، أردت اتّخاذ موقفٍ حقيقي يمنع هذا الشاب من ممارسة العنصرية ضدّ أيّ إنسانٍ آخر، وألا تمرّ إهانته لي مرور الكرام".
في الأخير، استطاعت ندى أن تدفع الجامعة لاتّخاذ إجراءاتٍ صارمة ضد هذا النوع من المضايقات العنصرية، فمُنع الشاب من الحديث إليها، أو مشاركتها في أيٍّ من المشاريع الجامعية أو التعرض لها بأيّ طريقة.
أكدت ندى على شعورها تجاه التمييز قائلةً: "لا أشعر بأني أتعرّض بشكلٍ مباشرٍ للعنصرية، بسبب حجابي. هي عنصرية تمارَس في العموم ضدّ أيّ إنسان مختلف عنهم، والحجاب إحدى الوسائل التي تساعدهم في تخمين عربيتي. وأردفت ندى قائلةً: "أكره سؤالي: من أين أنت؟ لمحاولة إرسائي في قالبٍ معيّن، وعلى أساسه يتمّ التعامل معي".
التمييز والقوالب النمطية المُعدّة مُسبقاً، كابوس يلاحق العربيات المسلمات المحجّبات، ويقيّد تواجدهنّ في الفضاءات العامة، فيصبح وقتها تقبّل الاختلاف مشروطاً، وحرية ممارسة العقيدة مُصادَرة ضمنياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون