شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مشاهدات من كندا عن أحوال العرب والمسلمين

مشاهدات من كندا عن أحوال العرب والمسلمين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 29 أكتوبر 201608:52 م

في الاستراحة بين حصتين، لم يغادر بعض الطلاب الصف. جلست يمنية وسورية وليبية يتناقشن مناسبة عيد الميلاد، ولم ينتبهن إلى طالبة عراقية جديدة جلست على مقربة منهنّ، وكان يومها الأول في المدرسة. خلفهنّ مباشرة جلستُ، أنا الطالب الخامس، قبالة الكمبيوتر أتصفح بعض مواقع الصحف العربية على الإنترنت.

كانت اليمنية تتحدث بثقة حين قالت بجزم: "لا يجوز أن نهنئ النصارى بعيد الميلاد، فالإسلام ينهى عن فعل ذلك. هذا حرام والشيخ (...) أفتى بحرمة ذلك". غلى دمي عند سماع هكذا كلام، لكني آثرت الصمت.

الطالبة العراقية هي مسيحية. عرفت ذلك في ما بعد. نظرتْ إليهنّ وقالت: "عيب عليك، هذه الدولة استقبلتك، وحمتك، وتدرسك مجاناً، وتعطيك راتباً أنت وزوجك وأولادك، ومعيب أن تتحدثي هكذا". أدلت بما عندها وخرجت من الصف.

اليمنية فوجئت. لم تتوقع أن تُلجم ويُردّ عليها بمثل هذه الطريقة، فقالت بعصبية موجهة كلامها للسورية والليبية: "قليلة أدب، ولا تعرف أدب الحوار". شعرتُ أن صمتي لا معنى له، فاستدرت وقلت لها: "وهل من الأدب أن تهيني من يعتنق هذا الدين، وتعتبرين تهنئته حراماً؟ وهل الإسلام ينهى فعلاً عن ذلك، أم هم شيوخك الذين يسيئون إلى الإسلام؟". فقدت صوابها وردت محتدةً: "هل أنت مسلم؟". أجبتها: "ليس من حقك أن تسأليني هذا السؤال، إنما أودّ أن أقول لك إنّك تسيئين إلى الإسلام بترديد فتاوى كهذه من دون التدقيق فيها، هذه ثقافة كراهية وتحقير للآخر، وهذه هي ثقافة القاعدة". جاوبتني باستفزاز ووقاحة: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً". هنا قلت لها: " آسف، لم أكن أعرف أني جاهل إلى تلك الدرجة. أشكرك"، وابتلعت لساني.

لم ينته الموضوع عند هذا الحد، فوجئت بعد يومين أن مديرة المدرسة تقول لي: "أحمد هل أستطيع أن آخذ من وقتك قليلاً؟". استغربتُ. كانت الطالبة اليمنية قد تقدمت بشكوى ضدي، مدّعية أني أتهمتها بالإرهاب وبالانتماء للقاعدة. شعرتُ بخيبة أمل وإحباط شديدين. شرحت للمديرة ما جرى كاملاً، وقلت لها في نهاية الحديث: "لدينا مثل شعبي في سوريا يقول: ضربني وبكى، سبقني واشتكى. ويبدو أن زميلتنا اليمنية استشعرت أنها مخطئة أو حدست أني أو الطالبة العراقية سنتقدم بشكوى ضدها فاستبقت الأمور".

لم يحدث أي شيء بعد تلك الحادثة، استمرّت اليمنية تتلقى دروسها مجاناً في المدرسة التابعة للكنيسة. واستمررت أنا كما أنا، واستمرت المدرّسة الكندية تدرّسنا وتتعامل معنا من دون أي تمييز، وضحكتها لا تفارقها.

الطالبة اليمنية ليست حالة فردية، وما كنت سأكتب ما كتبت لو أنها كذلك. هي، يا للأسف، ظاهرة فوجئت بكبر حجمها، فكثير من العرب والمسلمين يعيشون هنا بأجسادهم فقط. فهموا مسألة "الخصوصية" بشكل مشوّه، يعتقدون أن البحث عن "اللحم الحلال" وارتداء الحجاب وارتياد الجوامع كافٍ لجعلهم متمسكين بالدين.

بعد عامين من هذه التجربة، تعرضت لحادثة أخرى، في معهد آخر كنت أتابع دراستي اللغة الإنكليزية. في يوم الدراسة الأول، جمعتني طاولة واحدة بطالبتين، واحدة من الصين، والأخرى من كوريا الجنوبية، وبطالب من الهند. يعشق الكنديون في تدريس مناهجهم الدراسية العمل المشترك بين الطلبة، إذ إن مهمة المدرس هي الإشراف أكثر منها "التلقين"، فالطالب هو المركز، وليس المدرس.

الطالب الهندي كان صندوقاً أسودَ مغلقاً! يأتي صباحاً، لا يبادلنا التحية، لا يبتسم، وأثناء حلّ التمارين لا ينطق إلا بكلمات قليلة جداً. هو شاب في منتصف العشرين، على رأسه قلنسوة بيضاء، له لحية شبيهة بتلك التي يطلقها مقاتلو تنظيم داعش، ولباسه شبيه بلباسهم. حاولت الفتاتان بلباقة إخراجه من "الغيتو" الذي يحاصر نفسه داخله. وكما الطفل عندما تريده أن ينطق، بدأتا توجهان إليه أسئلة تتطلب شروحاً.

تذكرت بعد أكثر من أسبوع أن اسمه أُويس. قلت له، وأنا أخمن شيئاً، أنا من مدينة سورية اسمها الرقة، كانت لها شهرة كبيرة أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد، كذلك فيها ضريح الصحابي عمار بن ياسر، وضريح أويس القرني، وتابعت: "هل لاسمك علاقة به؟". التمعت عينا الشاب وافترّ فمه عن ابتسامة كبيرة، حتى خُيّل إلي أن وجهه وروحه يتراقصان طرباً ونشوة، ولم أشعر إلا ويداه الاثنتان تمسحان على كتفي في مشهد لطالما تكرر وشاهدته لأناس يأتون ليتباركوا بأضرحة الأولياء والصالحين.

تحوّل جذري طرأ بعد ذلك في علاقة أويس بي، وبالمجموعة كذلك، إذ بدأ يتقرب مني بشكل أربكني. في اليوم التالي مباشرة أحضر معه مفكرة أنيقة، وقال إنها هدية بسيطة، فتحها وأشار بيده إلى مواقيت الصلاة، ثم طلب مني بعد يومين أن يزورني في البيت، رحبت به وأنا أسأل نفسي: ماذا يخبئ لي في تحوله المفاجئ؟

لم يمض أسبوع وإذ بهاتفي يرن. كان أويس يستأذنني لزيارتي بصحبة شاب عربي. فتحت الباب، كان أويس ومعه شاب ثلاثيني عرّف عن نفسه: "أحمد من السعودية". كان ذا لحية سوداء طويلة، يرتدي دشداشة بيضاء حتى الركبة، تحتها سروال أبيض، وقد اعتمر قلنسوة بيضاء.

تبادلنا ثلاثتنا كلمات مجاملة قليلة بالإنكليزية، وبفصاحة رجال الدين اللغوية المعروفة انطلق أحمد يلقي خطبة عصماء بالعربية عن الإسلام الذي أعز الله به المسلمين، وكيف أن العالم يتآمر عليه، وكيف أن المسلمين متفرقون ومشتتون، ويجب أن نكون يداً واحدة. كان مثل مُسجّل، ولا أعرف كيف أوقفه. كنت أنظر إلى أويس الذي لا يعرف العربية، رأيته مأخوذاً ووجهه مسترخياً ومرتاحاً، وكلما جاء اسم الرسول أو أورد أحمد آية قرآنية، بسمل واستغفر وراقب أحمد بشغف.

حاولت أكثر من مرة تغيير مجرى الحديث والمجيء به نحو الثورة السورية لكني لم أفلح، وكان التعليق الوحيد أن الله يمتحن مؤمنيه، وأننا طغينا في الأرض وابتعدنا عن ديننا، وهذا جزاؤنا. عندما ودعتهما ألهج أحمد في شكري، قائلاً أني أخوه في الإسلام، ودعاني في عطلة الأسبوع كي نبيت يومين في أحد المساجد في مدينة فانكوفر مع مجموعة من "الإخوة" نقرأ القرآن ونتعبد. قلت له مجاملةً: سأفكر في الأمر. اتصل بي قبيل الموعد بيوم فاعتذرت بلطف، واعتقدت أن الموضوع انتهى هنا، لكن...

لم يجرِ أي اتصال بيني وأحمد لأكثر من خمسة عشر يوماً، إلى حين الزيارة الثانية المفاجئة. كنت وأويس نلتقي يومياً في المعهد، وكان لا يملّ دعواته المتكررة لي للصلاة في ذلك المسجد وحضور درس ديني في مسجد آخر، فيما كنت دائماً أعتذر وأتعلل بتبريرات شتى. لم أشأ مصارحته بأني لا أمارس أياً من الطقوس الدينية. خشيت نفوره ، لكني أردت أيضاً، ودافعي الفضول، استكشاف أي إسلام يتلقى هذا الشاب.

من دون موعد، اقتحم أحمد منزلي ومعه عجوزان في السبعين من العمر. عرّفا عن هويتهما، وعن أنّهما قدما من مدينة مكة. استمعت إليهما بصبر وصمت. قالا كلاماً كثيراً لا يختلف في الجوهر عما قاله أحمد في زيارته الأولى، وأضافا أن أحمد يحبني، لذا جاءا لزيارتي ودعوتي لحضور "خطب" متعددة تمت برمجتها في برنامجهما "الدعوي" وهو هدف زيارتهما إلى كندا، كما قالا.

بالعودة إلى أويس الشاب الهندي، وبعد فترة من الزمن بدأ يتضح لي أن إسلامه يتوقف عند المراحل الأولى أيام الفتوحات الإسلامية، حين كان مفهوم "الكفر" و"الإيمان" بصيغتهما الخام. فالشاب معبّر حقيقي عن إسلام تم عزله عن سياقاته التاريخية، إسلام مرتجف وشكاك في كل شيء ولا يثق معتنقوه بأحد، وأيضاً هو إسلام يظنّ أنه مستهدف وأن الكل يتأمر لمحاربته.حتماً هذا ليس ذنب أويس، هو ذنب تقترفه كل يوم دوائر "صناعة الإسلام" إن جاز التعبير.

في كتابه "ذهنية التحريم" يعرّي المفكر السوري صادق جلال العظم ما تقوم به "المراكز الإسلامية" المرتبطة بإيران والسعودية ويذكر أرقاماً دقيقة وموثّقة عن أموال هائلة تنفقها الدولتان للسيطرة على الجاليات المسلمة في أنحاة عدة من العالم، ولتسخيرها من أجل خدمة مصالحهما السياسية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image