يظن الغالبية أن حكاية الراديو مع العرب بدأت مع تأسيس أول إذاعة رسمية عربية من القاهرة في 1934، ولكن البداية في مصر كانت قبل ذلك بما يقرب من 15 عاماً مع تأسيس الإذاعات الأهلية الخاصة، التي أهمل تأريخها إهمالاً كبيراً في الدراسات الإعلامية.
أهمية هذا التاريخ المهمل ينبع من دوره في تحليل المزاج المجتمعي المصري في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر، التي مثلت ثورة 1919 بداياتها.
"وَنَس" أيام الاحتلال والسطو
بدأ البث الإذاعي في مصر، أول دولة عربية تعرف الراديو، في العشرينیات من القرن الماضي مع الإذاعات الأهلية، وكانت الانطلاقة قبل عام 1926.
وركزت معظم تلك الإذاعات، خاصة في فترة البدايات، ما بين القاهرة والإسكندرية، وأغلب برامجها كانت باللغة العربية، وأذاعت بعض موادها بالإنکليزية والفرنسية والإيطالية للأجانب المقيمين فى مصر، الذين شكلوا جاليات كبيرة آنذاك.
تركزت ملكيات الإذاعات الأهلية في أيدي التجار.
تركزت ملكيات الإذاعات الأهلية في أيدي التجار، الذين يرغبون في تسويق سلعهم، كما شكل تجار أجهزة الراديو (الوسيط الحديث في ذلك الوقت الذي لا يعرفه أحد) نسبة لا يستهان بها من ملاك المحطات الإذاعية، وذلك للمساعدة على فتح المجال للراديو، وزيادة مبيعات الجهاز الجديد.
احتضن المصريون الجهاز الجديد، وقاموا تدريجياً بجلبه إلى داخل منازلهم، ويعبر موضع الراديو المعلق في أعلى الحائط ذلك الوقت، عن المكانة التي دخل بها الراديو لقلوب المصريين، لينشر "الونس" في مصر الراقدة تحت وطأة الاحتلال الإنکليزي والسطو العثماني.
من أبرز محطات الإذاعة الأهلية التي بدأ بها الراديو العربي، محطة "راديو فؤاد" التي أنشأها عزيز بولس، ومحطة "راديو فاروق" التي أنشأها إلياس شقال، كانت ضعيفة الإرسال في تلك المرحلة، خاصة مع ضعف الإمكانيات والتقنيات، لا يتعدى مدى تغطية إرسالها أبعد من الحي الذي تبث منه.
كانت المقرات عبارة عن شقة صغيرة، أو غرفة داخل شقة، وكانت رغبات المستمعين تصل إلى تلك المحطات عبر الرسائل البريدية، أو من خلال المكالمات التليفونية المحدودة في أحيان أخرى.
بلغت مدة الإرسال، طبقاً لبعض الدراسات الأكاديمية، التي تبحث في تلك المرحلة ما بين ساعتين إلى 4 ساعات يومياً، على فترة واحدة أو فترتين بحد أقصى، بفاصل زمني في منتصف اليوم.
تركز المحتوى المقدم في مرحلة الإذاعات الأهلية، التي امتدت لما يقرب من 10 سنوات، على المحتوى الترفيهي أو الإعلاني، وبعد انطلاقة البدايات، وتزايد أعداد تلك الإذاعات، ارتفعت حدة المنافسة، لتنتشر المهاترات والفقرات الهجومية ما بين الإذاعات المختلفة، مما دفع المستمعين لإبداء عدم رضاهم عما يحدث، كما تشير بعض تعليقات الصحف في تلك المرحلة أن المستمعين كثيراً ما عبروا عن عدم رضاهم عن زيادة المواد الترفيهية والخفيفة على حساب المواد الجادة.
تزايدت حدة المهاترات بين ملاك الإذاعات وتراجع مستوى المضامين الإذاعية، وغلبة المواد الإعلانية في نهاية تلك المرحلة التأسيسية، بعد أن قررت الحكومة المصرية إنهاء إرسال الإذاعات المحلية في 29 أيار/مايو 1934 لتترك مكانها للإذاعة المصرية المركزية، والتي سيتغير معها تاريخ الراديو في المحروسة، من مجرد وسيط حديث وطقس مستحدث، إلى عضو مركزي داخل البيت المصري، يؤثر تأثيراً بالغاً في المزاج المصري والوعي المصري، ومن ثم المزاج العربي بشكل عام.
ارتفع النداء "هُنا القاهرة" للمرة الأولى من المحطة الحكومية فى 31 أيار/مايو 1934.
ليلة الخميس الأولى
كان أول صوت عربي ينطلق عبر البث الرسمي لأثير الإذاعة المصرية، هو الشيخ محمد رفعت، وذلك عندما قرأ الآية القرآنية: "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا".
غير الراديو جزءاً من روح مصر والروح العربية، وربما ليست مصادفة أن انطلاقة الإذاعة تواكبت مع انطلاقة حدث فني آخر، سيشكل جزءاً لا ينسى داخل الذاكرة العربية؛ حدث سيمتد منذ منتصف الثلاثينيات لمدة 4 عقود كاملة، ليلة الخميس الأولى من كل شهر في حضرة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم.
تفوقت أغاني أم كلثوم في موائمتها للسلم الموسيقي، وانضباطها الإيقاعي على أداء الشيخ محمد رفعت للقرآن، بحسب تحليل لأسطوانات الإذاعة المصرية الأولى
منذ أن بدأ ذلك التقليد الذي صاغته درة الفن، ظل حفل أم كلثوم الشهري هو أبرز حدث فني في الشرق الأوسط، وكتب الناقد الفني الشهير "جودون جسكيل" في اقتباسة متداولة منشورة في العدد التذكاري الخاص بأم كلثوم الصادر عن هيئة الكتاب في كانون الأول/ ديسمبر 2019: "إن تغييراً يشمل حياة الناس في الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرة في كل شهر، ودائماً في العاشرة مساءً، فالمرور يكاد يتوقف في القاهرة، وفي مقاهي الدار البيضاء تختفي الطاولة، وفي بغداد يترك الأغنياء تجارتهم والمثقفون كتبهم، وتفرغ الشوارع من المارة، وكلهم آذان تتركز على إذاعة القاهرة في انتظار أم كلثوم".
الشيخ رفعت
الشيخ رفعت، صاحب الانطلاقة الأولى، نسج لنفسه قالباً خاصاً داخل الروح المصرية، وذهب صوته مع الإذاعة إلى أبعد مدى في قلب الحالة العربية، لتطلب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" من الشيخ رفعت تسجيل القرآن الكريم بصوته لصالحها، رغبة في صناعة محتوى يجذب المستمعين في المناطق العربية والإسلامية.
في البداية رفض الشيخ رفعت عرض بي بي سي، وظن أن ذلك لن يكون مفيداً للإسلام، ليقوم باستفتاء الشيخ المراغي في الأمر، الذي أشار عليه بالموافقة، ليقوم الشيخ بتسجيل سورة مريم لصالح بي بي سي.
ويبقى صوت الأذان بصوت الشيخ رفعت في مقام "السيكا"، جزءاً أساسياً من الروح الرمضانية في قاهرة المعز.
وتجمع الشيخ رفعت وأم كلثوم، مفارقة مدهشة، تعبر عن موهبتهما الفطرية، بحسب تجربة أعدها "المعهد القومي للقياس والمعايرة" في مصر عام 1971، رصدتها د. رتيبة الحفني في كتابها "أم كلثوم" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
تقدم تلك التجربة محاولة لقياس أكثر الأصوات المصرية انضباطاً على السلم الموسيقي.
واستعان المعهد في التجربة بألفي اسطوانة سجل عليها المطربون والمطربات أغانيهم/ن طوال نصف قرن، وذلك بهدف وضع سلم الموسيقى العربية على أساس علمي.
كشفت نتيجة التجربة أن صوت أم كلثوم هو أكثر الأصوات المصرية ضبطاً، لتطابق معادلته الرياضية مع المعادلة الرياضية للسلم الموسيقي الطبيعي، وأثبتت الأجهزة الإلكترونية أن ترددات صوت أم كلثوم تبلغ 3996,5 ذبذبة في الثانية الواحدة، وجاء الصوت الثاني بعد كوكب الشرق الشيخ محمد رفعت، تلاه صوت المطرب صالح عبد الحي.
الراديو في بدايات التليفزيون
في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء 31 أيار/مايو 1934، من ساحة وزارة المواصلات بشارع رمسيس، انطلقت الإذاعة المصرية برئاسة علي باشا إبراهيم.
بدأ البث بآيات القرآن بصوت الشيخ رفعت، تلاه صوت أم كلثوم التي تقاضت 25 جنيهاً نظير إحيائها لحفل الافتتاح ، وغنى في الحفل المطرب صالح عبد الحي، والفنان محمد عبد الوهاب.
وشمل برنامج الإذاعة إلقاء قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي بك، ومشاركة المونولوغست محمد عبدالقدوس، والموسيقيان مدحت عاصم وسامي الشوا، وأول مذيعي الإذاعة أحمد سالم زوج الأيقونة أسمهان، والمذيع محمد فتحي الذي عرف في ما بعد بـ"كروان الإذاعة".
وشهدت الشهور الأولى للإذاعة المصرية حفلات أسبوعية للفنانة ليلى مراد، بداية من 6 تموز/يوليو 1934، كما عرفت الإذاعة منذ عام 1935 مونولوغات الفنان الكوميدى إسماعيل يس، والتي امتدت حتى منتصف الأربعينيات.
بعد أن قررت الحكومة إطلاق الإذاعة المصرية المركزية، منهية عصر المُلّاك التجار، قرأ الشيخ محمد رفعت: "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا"
ظلت الإذاعة المصرية في بدايتها تخضع لعقد تعاون مع شركة ماركوني البريطانية، قبل أن يتم تمصيرها بالكامل بعد 13 عاماً في 27 آذار/مارس 1947، وذلك بعد أن تصاعدت حدة الأمور بين مصر وبريطانيا بسبب عدم جلاء القوات البريطانية، وتقديم مصر شكوى ضد بريطانيا في مجلس الأمن.
أصبح للإذاعة ميزانيتها المستقلة التي تعطي لمجلس الإدارة حق اختيار المذيعين والكتاب والأدباء والموسيقيين وغيرهم، دون التقيد باللوائح المالية العادية، وتسلمت الحكومة المصرية محطة الإذاعة، وانتقلت من مقرها الأول في شارع علوي إلى المقر الثاني في شارع الشريفين الذي خرج منه صوت محمد أنور السادات يلقى بيان ثورة 23 تموز/يوليو بعدها بخمس سنوات فقط.
تزايد تأثير الراديو في الخمسينيات، وازداد انتشاراً مع تأسيس التلفزيون المصري في النصف الثاني من القرن الماضي.
ظل الراديو محتفظاً بتأثيره القوي مع ظهور أجيال من الرواد الإذاعيين الموهوبين، فعرف المصريون بابا شارو، وأبلة فضيلة، وأصبحت برامج مثل "ساعة لقلبك"، "كلمتين وبس"، "همسة عتاب"، "ربات البيوت"، و"لغتنا الجميلة" لاعباً فاعلاً في حركة الوعي المصري، وتشكيل ثقافة المجتمع.
انجذب المستمع العربي مع الإذاعة المصرية في ذلك الوقت للأغانى الصباحية والصور الغنائية، والمسلسلات الإذاعية مثل "عوف الأصيل" و"ألف ليلة وليلة"، وارتبط بأصوات عباس العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والشيخ الباقورى وغيرهم من أركان الثقافة المصرية في القرن العشرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...