يرقص على أطراف أصابعه على المسرح، ويدور بحريةٍ شاعراً بأن الدنيا لا تسعه، بينما هناك من ينظر إليه نظرةً ضيقةً تسيء إليه أحياناً، فالمجتمع ما زال لا يتقبل أن الرجل يستطيع أن يرقص، وأن الباليه فن ونوع من الإبداع.
على الرغم من وجود معاهد ومدارس رقص الباليه في مصر، إلا أن راقص الباليه الذكر ما زال حتى الآن يتعرض للكثير من الصعوبات، ويواجه السخرية من قبل بعض غير المتفهمين لطبيعة عمله، وخاصةً أنهم يرون أن الباليه للنساء فحسب.
ويُعدّ فن الباليه حديثاً بالنسبة إلى مصر، إذ أُنشئت فرقة باليه القاهرة عام 1966، ومن أهم العروض المصرية التي قُدّمت، باليه "خطوات مصرية" الذي وضع موسيقاه عطية شرارة، وأيضاً باليه "النيل" الذي قُدّم على خشبة مسرح دار الأوبرا المصرية عام 1990، ووضع موسيقاه عمر خيرت.
"معهد البنات"
على الرغم من النجاح الذي يحصلون عليه من الجمهور، ما زالت بعض المواقف التي لا تُنسى عالقةً في أذهان عدد من راقصي الباليه.
يتعرض راقص الباليه الذكر في مصر للكثير من الصعوبات، ويواجه السخرية من قبل البعض.
فادي النبراوي (34 سنةً) من محافظة الجيزة، وهو راقص منفرد في فرقة باليه أوبرا القاهرة، قال في حواره لرصيف22، إنه دخل المعهد العالي للباليه وهو في عمر تسع سنوات، عندما قرأ والده إعلاناً عن المعهد في إحدى الجرائد، ولم يكن وقتها يعرف شيئاً عن الباليه، ولا يعرف معناه.
النبراوي أضاف في حديثه: "عندما كنت صغيراً، كنت أشعر بالحرج من أن أقول إلى أي أحد يسألني إنني طالب في معهد الباليه أو إنني راقص باليه، وكنت أكتفي بالإشارة إلى أنني أدرس الموسيقى، حتى لا أسمع تعليقات قد لا تعجبني، وخاصةً أن الفكرة السائدة حينها كانت أن الباليه يخص البنات فحسب، ولا يوجد رجل يمكن أن يرقص أو يدرس هذا الفن ويتخذه مهنةً له، ولو عرف أحد أنني في المعهد سيقول: أليس ذلك معهد البنات؟".
الراقص فادي النبراوي
كانت هذه المشكلة تقابل فادي بشكل كبير، في المواصلات أو في أماكن خارج المنزل. "كنت أشعر بنظرات البعض التي تتغير بمجرد سماعهم أنني راقص باليه، ولذلك استمريت لسنوات أخفي ذلك، ولكني بعد أن احترفت المهنة، وأصبحت معيداً في المعهد العالي، أقول ذلك من دون أي اهتمام بآراء الناس".
تعليقات مزعجة
يتمنى راقص الباليه عبد الرحمن صلاح، أن تتغير النظرة إلى راقص الباليه مع مرور الوقت، ويرى أنها تغيرت قليلاً في السنوات الأخيرة، ولكن ليس بنسبة كبيرة، خاصةً أن كل دفعة من المعهد العالي يكون فيها أربعة أو خمسة ذكور فقط.
الراقص الثلاثيني، وهو أيضاً عضو في فرقة باليه أوبرا القاهرة وراقص منفرد فيها، قال في حواره لرصيف22: "دخلت معهد الباليه عام 1999، وكان ابن عمي راقص باليه، وهو من أقنع والدي بأن ألتحق بالمعهد، وأخبره بأن له مستقبلاً جيداً، ووافقت والدتي أيضاً، وبعد ذلك قدمت إلى دار الأوبرا المصرية حيث أعمل الآن، ومن أصعب التعليقات التي أسمعها: الباليه ده بتاع البنات بس... راقص باليه؟ طيب ورينا حركة كده".
عندما كنت صغيراً، كنت أشعر بالحرج من أن أقول إنني طالب في معهد الباليه، وكنت أكتفي بالإشارة إلى أنني أدرس الموسيقى، حتى لا أسمع تعليقات قد لا تعجبني، وخاصةً أن الفكرة السائدة كانت أن الباليه يخص البنات فحسب، ولا يوجد رجل يمكن أن يدرس هذا الفن ويتخذه مهنةً
عبد الرحمن عمل مدرب باليه في أكثر من محافظة، ومنها أسيوط التي تتسم بتشددها في هذه الأمور، ويقول إن من أسخف المواقف التي تعرّض لها، عندما كان يتقدم لاستخراج بطاقة، وعندما عرف المسؤول هناك أنه طالب في معهد الباليه قال له: "طيب ارقص لنا ورّينا حاجة".
وعلى الرغم من دراسته في المعهد العالي للباليه وعشقه للرقص، إلا أنه قرر أن يحصل على ليسانس الحقوق، وهذا ما طلبته منه والدته، ولكنه عاد إلى الرقص من جديد، ولم يفعل شيئاً بشهادة الحقوق.
الراقص عبد الرحمن صلاح
متعة وتحدٍّ
الراقص المصري المحترف ومدير مدرسة "on stage" في إسبانيا، حازم زكريا الشيمي، قال في تصريح لرصيف22: "مجتمعنا كبير جداً، ومن الطبيعي أن يكون هناك من يقبل الفكرة، وآخرون يرفضونها وينتقدونها، وهذا أيضاً يحدث خارج مصر وليس في مصر فحسب. لم أتعرض لصعوبات كثيرة في أثناء رقصي الباليه في مصر ودراستي في المعهد العالي، وكان التحدي الأكبر أمامي أن أطور نفسي لأستطيع أن أحترف في الخارج".
الراقص والمصمم الثلاثيني أشار إلى أن النظرة إلى فن الباليه تغيّرت أيضاً بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، لأن كل شيء آخر تطور، ويقول إنه تحدّى نفسه ليطوّر أداءه خاصةً أن الباليه في مصر مستواه ضعيف، وهو كان يريد أن يصل إلى المستوى العالمي، ويرى أن على الراقص أن يقاوم أي تحديات تواجهه، وأن يعيش من أجل حلمه.
الراقص حازم الشيمي
بدوره يتحدث أحمد سعيد، وهو راقص باليه من محافظة الجيزة عن بداية مشواره الممتع: "دخلت المعهد العالي للباليه عام 2000، وحالياً أنا معيّن في دار الأوبرا المصرية، وأؤدي الكثير من أنواع الرقص الكلاسيكي غير الباليه ومنها التانغو والجاز. لم أهتم يوماً لأي انتقادات يمكن أن توجَّه إلى راقص الباليه، وخاصةً أنها لا تقوم على أساس سليم، فهو فن يمكن أن يمارسه الجنسان، بل أجد أن راقص الباليه الرجل، متفوق على الراقصة الأنثى في كثير من الأحيان".
الراقص ذو الأعوام الثمانية والعشرين أضاف: "يقولون إن راقص الباليه ليس رجلاً، وإن الباليه مخصص للنساء. هذا تفكير عقيم لا يصح. أما عن تعليقاتهم على الأزياء التي نلبسها، فأنا لا أخرج على المسرح وأنا أرتدي بدلة رقص، بل أحياناً نرتدي السراويل أو الشورتات حسبما يتطلب العرض. على كل شخص أن يختار عمله الذي يحبه من دون الالتفات إلى أحد"، ويشير إلى أنه أحياناً يجد نفسه وهو يبرر للغير ما يفعله، أو يشرح معنى رقص الباليه، وأحياناً أخرى لا يهتم البتة.
لم أهتم يوماً لأي انتقادات يمكن أن توجَّه إلى راقص الباليه، وخاصةً أنها لا تقوم على أساس سليم، فهو فن يمكن أن يمارسه الجنسان، بل أجد أن راقص الباليه الرجل، متفوق على الراقصة الأنثى في كثير من الأحيان
"هو بنت عشان يرقص باليه؟"
الأمر لا يقتصر على الراقصين فحسب، ولكن أيضاً يواجه الآباء والأمهات الذين يرغبون في تعليم أولادهم الذكور الباليه أو الجمباز، انتقاداتٍ ويسمعون من المحيطين بهم كلمات سخرية غير لائقة.
سميرة قاسم، وهي سيدة ثلاثينية من الجيزة، قررت أن تدرب ابنتها على الباليه والجمباز وهي في عمر أربع سنوات، وكان شقيقها أكبر منها بعام، ففكرت أن تمرنه معها أيضاً، "ولكني وجدت من المشاركات معنا في النادي تعليقاتٍ غير مناسبة، مثل: هذا ولد، والباليه لن ينفعه، ومرّنيه كرة قدم أفضل أو كرة سلة، وهو بنت عشان يرقص باليه؟".
سميرة أضافت في حديث إلى رصيف22: "فكرت أن أعاند ما دمت مؤمنةً بالفكرة، ولكن والده اقتنع وطلب مني أن أسجله في كرة القدم ليتمرن وهذا ما حدث. في رأيي، الناس تفكيرهم لا زال عقيماً في هذه الأمور".
"أغلب من يأتون للتدريب على الباليه يكونون من البنات وليس الصبيان، وعدد الذكور يكون أقل لأن الآباء يرون أن الباليه والجمباز لا يتناسبان معهم، وهذا موجود في الكثير من العقليات في مصر، على الرغم من التطور الكبير الذي شهدته المهنة"، يقول عمرو محمود، وهو مدرب باليه في محافظة الجيزة، خلال لقاء مع رصيف22.
ويضيف الشاب العشريني: "على الرغم من أنني لم أحترف الرقص، لكنني تعرضت للكثير من المواقف بصفتي مدرب باليه وجمباز، ومنها أن يطلب مني شخص مثلاً في أثناء وجودي في فرح أن أرقص. أشجع أي ولد يريد أن يحترف رقص الباليه، فهو فن ورياضة مثل أي رياضة".
هذا ولد، والباليه لن ينفعه، ومرّنيه كرة قدم أفضل أو كرة سلة، وهو بنت عشان يرقص باليه؟
لكن للأسف، لا يتمكن كل الأهالي من مواجهة هذه الصور النمطية. يقول سعيد حازم الذي يعيش في القاهرة: "كنت أحب أن أجعل ابني يتمرن على الباليه وهو صغير، ولكن لن تصدّقي أن والدته كانت أول المعترضين. قالت إن الباليه للبنات وصممت أن يتمرن على كرة القدم. كنت وأنا صغير أتمنى أن أصبح راقص باليه وأطير على المسرح، وحلمت بالأمر ذاته لابني لكنه لم يتحقق".
الراقصون الذكور قلّة
"هذا الفكر الرافض يرى أن الأولاد الراقصين فيهم نسبة أنوثة، وهو تصور غير صحيح"، تقول الدكتورة سحر حلمي هلالي، الأستاذة المساعدة في المعهد العالي للباليه، في حوار مع رصيف22، وتضيف: "للأسف الأولاد الذين يريدون الاحتراف قلة، والبعض يمارسون الباليه كأنه هواية فحسب، والأمر ذاته بالنسبة إلى الجمباز، لأن الأهل يميلون إلى كرة القدم والكاراتيه والتيكواندو والألعاب الذكورية. للأسف المتخرجون من المعهد العالي للباليه قليلون جداً، وأغلبهم من القاهرة".
وأضافت هلالي، وهي راقصة باليه أولى في فرقة باليه أوبرا القاهرة: "حتى لو كانت النظرة إلى الراقصين غير لطيفة، فهم لا يغيّرون طريقهم، وعدد كبير منهم احترف الرقص وذهب إلى العالمية. الناس بدأوا يفهمون معنى الباليه، ويدركون أنه يمكن للذكر أن يمارسه بشكل عادي. تقبّل الأمر يعود إلى المرجعية التعليمية والنفسية والدينية وليس محصوراً بطبقة أو فئة محددة في المجتمع المصري"، وتنوه في ختام حديثها بالفرق بين الهواية والاحتراف، فهناك كثير من المراكز في مختلف المحافظات المصرية تستقبل هواة الرقص، "ولكن الاحتراف واتخاذ الرقص مهنةً، أمر آخر تماماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...