لا أذكر عمري بالضبط حين شاهدت فيلم "غرام في الكرنك" لأول مرة، لكني أتذكر حجم السعادة التي غمرتني بعد رؤيتي لفيلم استعراضي براقصين رجال ونساء. لاحقاً، عرفت أن من تسبب في حبي للرقص هو بطل الفيلم محمود رضا، الذي رحل قبل أيام قليلة، في العاشر من تموز/ يوليو الجاري، حاملاً معه لقب أشهر راقص ومصمم رقصات في مصر، وحلماً تم اغتياله وهو على قيد الحياة.
كان عزاؤه الوحيد لقب "أشهر راقص في مصر"، الذي نُعي به.
وقبل الحديث عن حلم رضا، أعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت المسارح الفنية تملأ القاهرة وتقدّم كافة أنواع الرقص. وقتها كان الرقص، كأي نوع آخر من الفنون، غذاء للروح، ومن يحضر تلك العروض هي الأسر المصرية كاملة، رجالاً ونساء، وتحوّلت المسارح لأهم أكاديمية فنية: من ينجح فيها يعني أنه يملك رصيداً عند الجمهور، وبالتالي ينتقل للسينما، ومن تلك القاعدة خرج نجوم كثيرون من المسارح، على رأسهم نجيب الريحاني وسامية جمال.
مع بداية الخمسينيات ظل الأمر كما هو عليه باختلاف الوسيلة، فبدلاً من المسرح أصبحت السينما، وظلّ المصريون ينظرون إلى الرقص كأحد أنواع الفنون، وظل هناك تقدير للراقصات، ومثال ذلك تحية كاريوكا.
في مناخ كهذا، لم يكن غريباً على محمود رضا المولود عام 1930، أن يختار العمل كراقص بعد تخرجه من كلية التجارة في 1954، وأن يتتلمذ على يد شقيقه الأكبر، المخرج علي رضا، وفي سنوات قليلة تعرّف محمود رضا على الكثير من فنون الرقص الشرقي والغربي، وبدأ وضع لمسته الخاصة، قبل أن يقرر بدء جولة في ربوع مصر ليتعرف على أنواع الرقص الفلكلوري، لتكون النواة التي يؤسس بها فرقته عام 1959 مع شقيقه، ويطلقا عليها اسم "فرقة رضا".
مع وجود "فرقة رضا" انتقل الرقص من كونه أحد الفنون إلى معبّر أساسي عن الهوية والثقافة المصرية، واستطاع محمود رضا تحقيق ذلك من خلال تصميم رقصات تعكس ثقافة كل محافظة في مصر
مع وجود "فرقة رضا" انتقل الرقص من كونه أحد الفنون إلى معبّر أساسي عن الهوية والثقافة المصرية، واستطاع محمود رضا تحقيق ذلك من خلال تصميم رقصات تعكس ثقافة كل محافظة في مصر، وفي رأيي هذا ما دفع جمال عبد الناصر لتأميم فرقة رضا 1961، ففي عصر القومية العربية كان هناك حاجة لفرقة رضا التي عبّرت عن مصر عالمياً.
ولأن حلم محمود رضا أن يصبح الرقص جزءاً من تكوين كل مصري كفن أصيل، اتخذ الخطوة الثالثة التي تعد ذروة النجاح في تاريخ الرقص، حين انتقل به إلى شاشة السينما بأفلام استعراضية كاملة. وهذا ما حدث في البداية، على استحياء، بفيلم "إجازة نصف السنة" عام 1962، ووقتها، كما يؤكد رضا، كان هناك شعور بالخوف دفعهما للاستعانة بالفنانة ماجدة، وحين نجحت التجربة، قرّرا في 1967 أن يقدما فيلمهما "غرام في الكرنك" دون الاستعانة بأحد، ونجح الفيلم جماهيرياً، كدليل على أن الجمهور لازال ينظر للرقص كفنٍّ راقٍ، لكن هذا النجاح لم يتكرر، ومنذ ذلك التاريخ تغير كل شيء وأصبح الرقص مرادفاً للشهوة وإثارة الغرائز، فكيف تمّ لك؟
أول الأسباب هو ما حدث في عام 1967، فبعد هزيمة يونيو مباشرة بدأت الأفكار المتطرفة تتسلل إلى مصر، تحت ادعاءات أن الهزيمة عقاب من الله جرّاء ارتمائنا في أحضان الشيوعية، وتولى شيوخ نشر أفكارهم التي سيطروا بها على كثير من المصريين، ووقتها بدأت صياغة جديدة للمجتمع تحرم كل شيء، وكان للرقص نصيبه الأكبر، إذ تم تحويله لأول مرة، من كونه فناً إلى "غواية تثير غرائز الرجال"، وتحولت الراقصة إلى "عاهرة". يروي إبراهيم عبد المجيد، في روايته "الإسكندرية في غيمة"، توثيقاً لمرحلة السبعينيات، كيف أن التيار السلفي كان يضع ملصقات على البيوت تحذر من مشاهدة الأفلام التي توجد بها راقصات، بجانب ترهيب الناس على أبواب دور السينما.
ثاني الأسباب تسبب فيها منتجو الأفلام، فمع بداية الثمانينيات وظهور ما يسمى بأفلام المقاولات، بات الرقص مجرد "فقرة" في الأفلام تؤديه راقصة، أُنيطت بها مهمة "إثارة الغرائز"، ووصل الأمر حدّ أن أحد مقاييس النجومية في تلك الفترة أن تكون الممثلة قادرة على الرقص، لا لشيء سوى لأن ذلك يجعلها قادرة على تأدية أدوار تكون فيها "امرأة لعوباً"، وأبرز الأمثلة هي أفلام نبيلة عبيد الملقبة بـ"راقصة مصر الأولى".
منذ 4 سنوات ذهبت إلى معرض الكتاب لحضور عرض لفرقة رضا، وبعيداً عن رداءة المسرح وقلة الجمهور و"قلة أدبهم" في بعض الأحيان على الراقصات، تساءلت كيف قتلنا حلم محمود رضا هكذا، وهل يمكن أن نعود كما كنا؟
فكرة مشاهد الرقص التي تخدم الأبوية في علاقة الرقص بإثارة الرجال فقط، هي مستمرة حتى الآن، مع وجود استثناءات، مثل يوسف شاهين الذي اعتمد الرقص كفن قادر أن يعبر عما يدور في نفوس الأبطال، وبين حين وآخر تظهر أفلام تتحدث عن نفس الأمر، مثل "ما تيجي نرقص" و"دنيا"، ولكنها أفلام لم تلق جماهيرية، إذ إن أفكار المجتمع نفسها ترسخت تحت عنوان: "الرقص مرادف الشهوة".
السبب الثالث هو أن المسارح التي كانت قديماً نموذجاً لتقديم الرقص كفن، تحوّلت في الوقت الحالي إلى " كباريهات" ترتكز على علاقة الرقص بالمال، مع غياب سؤال علاقة الفن بالرقص الشرقي، وفي القاهرة المليئة بكل شيء، لم أجد مؤخراً أي مسرح يقدّم أي نوع من الرقص، أما منافذ الدولة وعروضها فأصبحت شبه معدومة.
منذ 4 سنوات ذهبت إلى معرض الكتاب لحضور عرض لفرقة رضا، وبعيداً عن رداءة المسرح وقلة الجمهور و"قلة أدبهم" في بعض الأحيان على الراقصات، تساءلت كيف قتلنا حلم محمود رضا هكذا، وهل يمكن أن نعود كما كنا؟ وجاءت الإجابة أن تلك الفقرات أًلغيت من برنامج معرض الكتاب العام الماضي، قبل أن يرحل محمود رضا نفسه، وكان عزاؤه الوحيد لقب "أشهر راقص في مصر"، الذي نُعي به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...