"الأعظم شأناً من المكان الذي نسكنه، هو المكان الذي يسكننا، لأن المكان الذي نسكنه مجرد حيّز، لكن المكان الذي يسكننا فردوسٌ، ولا يتحول المكان في تجربتنا الوجودية وطناً ما لم يتحمم بهذه الحميمية التي تستوطننا".
أقرأ عبارة المفكر الليبي ابراهيم الكوني، وأعود بالذاكرة 30 عاماً، كنت طفلةً، أخبرتُ أبي أن بيتنا فردوس، وأنه أجمل مكان في الوجود، ابتسمَ بفرح يداري دمعةً فاضت ولم تنزل، في إيحاءٍ أن هذا ما استطاع أن يقدمه لنا.
غرفتان بسقفٍ عالٍ وجدران رمادية خالية إلا من تقويم سنويّ يعدّ الأيام، أريكة واحدة والكثير من الطرائح والوسائد المرتبة على الأرض، في الزاوية طاولة خشبية تحمل جهاز الهاتف والراديو وتلفاز سيرونكس. إلى جانبها مكتبة معدنية متوسطة الحجم، بابُها زجاجيٌّ يظهر بعض العناوين المصطفة على الرفوف، ماركس، نوال السعدواي، الجرجاني، أحمد شوقي، المعلقات واللسانيات اللغوية، والكثير من أعداد مجلتَي "الثقافة" و"العربي".
ربما هذا يشي بالفكر المختلف الذي حمله أبي، كان مُتكَأه في تربيتنا وفي مدخول بيتنا ذي الشرفة الواسعة المفتوحة على السماء. سنوات طويلة أمضينا لياليها تحتها، عددنا نجومها ولحقنا شهبها وخبأنا أحلامنا معها. في تلك الشرفة الرحبة لعبتُ وكبرتُ وحلمت، وانتظرتُ حبيباً لم يأتِ.
"الأعظم شأناً من المكان الذي نسكنه، هو المكان الذي يسكننا، لأن المكان الذي نسكنه مجرد حيّز، لكن المكان الذي يسكننا فردوسٌ، ولا يتحول المكان في تجربتنا الوجودية وطناً ما لم يتحمم بهذه الحميمية التي تستوطننا"
صرخة وترنيمة وأطياف
يقول مثلٌ صيني قديم "هناك ثلاثة أصوات سعيدة تصنع منزلاً: صرخة الرضيع، وترنيم القصيدة، ونقرة النسيج على النول". الأصوات الثلاثة كانت في بيتنا، أحيلُ النولَ لآلة الخياطة، نسجت أمي عليها الكثير من الأثواب الجميلة لنا وللآخرين، لثلاثة عقود كانت آلة الخياطة سبباً آخر لعيشنا، ثم بفضلها طورت أمي البيت، وسَقَفت الشرفة ليصبح البيت أكثر مدنية من الناحية المعمارية.
كان صوته جزءاً من أطياف طفولتنا... وداعًا سامي كلارك يا من أحبّك جيل كامل
بينما أعدّ هذا المقال أعلم بوفاة الفنان اللبناني سامي كلارك، وقد كان صوته جزءاً من أطياف طفولتنا. يعبر شريط الذاكرة سريعاً أمامي: أنا وأخوتي بثياب البيت بعد الاستحمام، جالسين حول طبق الألمنيوم المليء بأطايب الطعام، نشاهد جزيرة الكنز، وصوت سامي كلارك يمتزج بصوت الغسالة اليدوية القادم من الخارج.
هذا هو البيت: الأحاديث والضحكات ورائحة الغسيل ونكهات طبيخ أمي. البيت ليس أثاثاً أو قطعَ ثريا أو جدراناً مزدانة بالصور، هو تلك الصور والتفاعلات البسيطة، الحلوة والمرّة، التي جبَلتنا وشكّلت هويتنا وكينونتنا.
"هناك ثلاثة أصوات سعيدة تصنع منزلاً: صرخة الرضيع، وترنيم القصيدة، ونقرة النسيج على النول"
كان لأبي مفهوماً سهلاً وهيّناً حول البيت، يقتصر على سقف، يقول: "سقفٌ يأوي من الحر والقرّ بعيداً عن العيون، حتى لو كان خيمة". كان يعوّل على ساكنيه، هم روح المكان ورائحته. تلك البساطة العميقة أحالتني لقول أعرابي سُئل: كيف تصنع بالبادية، إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظلَّه؟ فقال: "وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدُنا ميلاً ويرفض عرَقاً، ثم ينصُب عصاه ويلقي عليها كساءَه، ويجلس يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى".
الباحث الانثربولوجي يوليوس ليبس، يقول في كتابه "أصل الأشياء" إن مفهوم "البيت" مقدس في جميع اللغات، فهو سبب الطمأنينة والراحة لدى الناس أجمع مهما اختلفت أعراقهم ورؤاهم الفلسفية. يهبط الظلام ليغمض البشر عيونهم وينعموا بالهدوء بعيداً عن كل ما يهددهم في الخارج، من برد ومطر وحرّ وتأثيرات أخرى يفصل الصراعَ معها بابُ البيت فقط.
ذات يوم وقع جزءٌ من سقف بيتنا فاضطررنا لمغادرته بعض الوقت، لم أتجاوز وقتها الحادية عشرة من العمر. أذكر تماماً الخوف الذي أصابني، لم أفهمه أو أعبر عنه، وكأني مكشوفة على الجميع، جسد بارد وقلب أكثر برودة، دون بيت أنت عار وثقيل، حتى الأرض التي تطؤها لن تحملك.
مرة أخرى دفعنا حدث سريالي لمغادرة البيت قسراً. عندما شاع خبر في أنحاء سوريا أن زلزالا سيقع، ليمضي الجميع ليلتهم في الشوارع، كان وقتاً ساخراً وعابراً لكنه لا يُنسى، امتزج فيه الخوف والسهر والسمر.
في القلوب منازل
يحيّرني اعتقاد البعض أن الحنين ضعف أو عدم قبول بالواقع وانفصال عنه. الحاضر امتداد لجذور الماضي، الذي هو أفعالنا، تجاربنا وتراكماتنا، والحنين نوع من الوصل، يعيد لنا الصور والملامح ولمعات العيون بطريقة سحرية، فنتذكر ونستمر.
غير بعيد، يؤكد علماء الأنثروبولوجيا أنه عندما يتخلى إنسان عن بيت عاش فيه فترة طويلة، خاصة مرحلة الطفولة فإن تصرفاته ستقوم على تفاعلاته مع البيت وأدواته وسكانه، ما يعني أن البيت فضاء يحمل رمزية كبيرة، تتجلى في الصورة التي يعكسها في شخصية كل منّا.
هذا هو البيت: الأحاديث والضحكات ورائحة الغسيل ونكهات طبيخ أمي. البيت ليس أثاثاً أو قطعَ ثريا أو جدراناً مزدانة بالصور، هو تلك الصور والتفاعلات البسيطة، الحلوة والمرّة، التي جبَلتنا وشكّلت هويتنا وكينونتنا
هذا المسافر سوف يحمل معه ذاكرة قوية عن البيت بل وسيشد الحنين أوتار قلبه أينما يحلّ، تعزز ذلك تفاصيل كالطعام والمناظر الطبيعية والأسرة التي هي جوهر الإحساس بالمكان. دون الأسرة المنزلُ مجرد مكان لا معنى له".
أُجريت دراسة ألمانيا على أشخاص قسِّموا لفريقين وُضعا بظل ظروف قاسية، طُلب من الأول التفكير خلالها بالماضي، على أن يفكر الفريق الآخر بشيء محايد. نتائج الدراسة أثبتت أن تذكر الماضي يشعرنا بدفء القلب والجسد، ونطلق هرمونات السعادة، كذلك يجعلنا أكثر تسامحاً وسخاء مع الآخرين.
"الحنين حالة طبيعية وإيجابية تمنحنا السياق والمنظور الذي نحتاجه للاستمرار، سواء كان ذلك الماضي قاسياً أو يسيراً، مع اليقين أن كل اللحظات عابرة كما الماضي، على ألا يغرق الإنسان في الحنين لأنه سيسبب في انفصاله عن الحاضر ويشل تقدمه"، تقول الدراسة.
أكتبُ مقالي من بيتٍ آخر وبلد آخر قدِمته منذ عشرة أعوام. وأنا في حنين دائم لبيت الطفولة، لكن ليس بمنطق امرؤ القيس "قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل"، بل هو تعلّق واعتراف بأفضاله وأفضال ذلك الماضي الجميل.
أكتب عنه امتناناً لتلك الجغرافية الخضراء السخية ولتفاصيلها وشخوصها. عشر سنوات عشتُ فيها منعطفاتٍ شخصية ومهنية، وراكمتُ فيها الكثير من الحكايا، سأعود حتماً وأحكيها لجدران بيتنا، متى، لا أعرف!!. حتى ذلك الوقت أقول له بلسان المتنبي:
لَكِ يا مَنازلُ في القُلوبِ مَنازِلُ/ أَقفَرْتِ أَنتِ وهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون