أصدق من يعبر عن رأيه بالطريقة التي يحبها بفهم نادر، كما قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، الميال إلى المرح حتى في الشكوى والأنين، كما وصفه الموسيقار رياض السنباطي، وأشد كبار الموسيقيين تعصباً لعروبة موسيقاه، وأوضحهم في انتمائه المصري، كما يقول الناقد والباحث المرموق فيكتور سحاب.
هو همزة الوصل بين موسيقى القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مصر، بل بين مصر التي كانت ترتدي الجلباب ومصر التي ترتدي البدلة الأوروبية... إنه الموسيقار زكريا أحمد، الشيخ الأزهري وأحد مكتشفي أم كلثوم وملحني روائعها، الذي واجه همومه بسخرية. همومه التي دفعت ابنه يعقوب للانتحار، بعد أن كتب: "انتحرت لأن أبي مظلوم في الحياة".
بعيداً عن مظلومية زكريا دعونا نتأمل غناءه "يا صلاة الزين" كمدخل لسرد ملامح من فنه وحياته، وهي من مسرحية "عزيزة ويونس" المنتجة عام 1945، وكتبها بيرم التونسي بوحي من ملحمة السيرة الهلالية الشهيرة. وهذا التسجيل لزكريا كان في 6 فبراير 1961 قبل وفاته بأسبوع في 14 فبراير، وعمره 65 عاماً.
الموسيقار زكريا أحمد، الشيخ الأزهري وأحد مكتشفي أم كلثوم وملحني روائعها، واجه همومه بسخرية. همومه التي دفعت ابنه يعقوب للانتحار، بعد أن كتب: "انتحرت لأن أبي مظلوم في الحياة"
وهو يستمع لعازف القانون خلال إصلاح آلته قبل بدء العزف نلاحظ في زكريا خشوع الصوفي وهو يستمع لشيخه، وفي أدائه الغنائي نلاحظ عنفوان منشد الموالد، وقادة حلقات الذكر، وهو يقبض على يديه محركاً كتفيه وجسده مع إيقاع الموسيقى.
فيه ظُرف ومكر ابن البلد المصري وهو يغازل فتاة حين يرفع حاجبه الأيسر ويومئ بوجهه وهو يردد: "قولوا على عزيزة بنت السلطان...". فيه براءة طفل شقي وهو يبتسم ويطأطئ رأسه خجلا بعد تغزله في عزيزة.
فيه خفة ظله التي انعكست كابتسامات على عازفي الفرقة الماسية الجالسين خلفه. فيه الكبرياء المعروف عنه وهو يغني رافعاً وجهه بل جسده كله لأعلى، بالتوازي مع صوته الميال للسمو لأعلى الطبقات المتاحة لحنجرته.
فيه أداء قارئ القرآن حين يتلو الآية مرة من الجواب ثم يعيدها من القرار وهو يغني "أبوها سلطان.. سلطان زمانه..". فيه أسلوب غناء القرن التاسع عشر، بعفقاته وقفلاته وخَنْفَة الصوت.
هذه التوليفة التي لاحظناها، كيف تكونت لدى زكريا؟ ما جذورها؟ وما منجزها؟
هنا نجيب من واقع كتب: زكريا أحمد للمؤرخ والصحفي صبري أبوالمجد، صديق زكريا الذي اعتمد على يوميات زكريا في كتابة سيرته، والسبعة الكبار في الموسيقى العربية لفيكتور سحاب، وأعلام الموسيقى والغناء العربي لفكري بطرس، وأم كلثوم وعصر من الفن لنعمات أحمد فؤاد، وقصاصات من صحف قديمة.
تزوج والد زكريا أحمد من فتاة لأسرة تركية تجيد الغناء التركي، ومنها أنجب واحداً وعشرين طفلاً ماتوا جميعاً، وأخيراً أنجب ابنه زكريا في 6 يناير 1896
حكاية بدأت باستدعاء من السيدة زينب!
في سبعينيات القرن التاسع عشر حلم الصبي أحمد صقر بالسيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، صاحبة المقام الشهير بالقاهرة، فاعتبر أهله أن الحلم استدعاء لابنهم فأرسلوه إلى القاهرة ليتعلم بالأزهر.
أحمد صقر المنتمي لقبيلة مرزبان العربية التي استوطنت بجوار الفيوم انتقل للسكن بجوار مقام الحسين بن علي بالقاهرة الفاطمية وذاب في مجتمعها الطربي؛ فاستمع إلى ألمظ، عبده الحامولي، محمد عثمان، عبد الرحيم المسلوب وكل أساطين الطرب حينها.
كان الناس حزبين: حزب مع المطرب عبده الحامولي مؤذن مسجد الحسين، وحزب مضاد يناصر الشيخ أحمد ندا مؤذن مسجد أخته السيدة زينب، وكان أحمد صقر من أنصار الحامولي.
تزوج صقر من فتاة لأسرة تركية تجيد الغناء التركي، ومنها أنجب واحداً وعشرين طفلاً ماتوا جميعاً، وأخيراً أنجب ابنه زكريا في 6 يناير 1896.
جاء زكريا بعد صبر، وتربى مدللاً وسط هذا الجو الفني الديني، وألحقه والده وعمره 4 سنوات بكُتّاب "الشيخ نِكْلة" قرب منزله، واشترط على نكلة أن يترك زكريا يتردد على المنزل كلما أراد رضاعة ثدي والدته، فاستغرب نكلة الذي يعتقد أن الرضاعة في هذه السن الكبيرة تصيب الطفل بالغباء!
ثم ألحقه بالأزهر وعمره 7 سنوات فأتقن القراءات السبع للقرآن، وكثيرا ما رُشِّح لختام الحلقات الاحتفالية بالجامع بتلاوة بعض الآيات لجمال أدائه، وكان يسعد حين يقولون: "عال يا شيخ زكريا، بكره تبقى من الفقهاء المشهورين ونجيبك في ليلة مولد الحسين".
يخلق زكريا أحمد أحياناً الظروف بنفسه ليُخرج لحناً يليق بالمعنى؛ ففي مسرحية "أبوزعيزع" طلب منه الفنان علي الكسار لحناً يُغَنى بحضور العفاريت والسحرة على المسرح، فاختار زكريا ليلة حالكة ممطرة وارتدى لبس المجانين، وذهب للأهرامات بجوار تمثال أبو الهول
كبر زكريا وقادته فنون التلاوة للغناء، حتى اعتاد زملاؤه وأساتذته مشاهدته على مقهى "التجارة" بشارع محمد علي مع الموسيقيين والمطربين، فرفع بعضهم شكوى لإدارة الأزهر لاعتبارهم أن في الأمر إهانة للزي الأزهري.
فتقرر وقفه عن الدراسة لمدة شهر وحرمانه من الجراية (مكافأة مالية شهرية)، خاصة وأنه كان "يأكل البسطرمة على المقهى والعياذ بالله!".
عاد زكريا للدراسة وبعد فترة سأل شيخه: "لماذا يجوز أكل لحم الجمل الكبير ولا يجوز أكل الجمل الصغير"، وفقاً للحديث الذي يحرم أكل الجزور؟!
اعتبر الشيخ أن زكريا يتهكم على حديث النبي، فانهال عليه ضرباً، فبادله زكريا الضرب حتى سال دم الشيخ، فاقتيد التلميذ المشاغب لقسم الشرطة، وبعدها قرر ألا يعود للأزهر، وهو نفس الأمر الذي قررته إدارة الأزهر أيضاً.
ألحقه والده بعدها بأكثر من مدرسة مدنية ولكنه كان كثير الشقاوة، مجنون بالغناء، يغني في الفصل دون اعتبار لوجود معلم، ففُصِل من مدرستين التحق بهما.
فهرب من البيت وبات في الشوارع والخرابات ليتفرغ للموسيقى وموالد الأولياء، يتسلل من تحت قماش سرادقات الغناء، ليجلس تحت دكة المُنشِد أو العازف، متحملاً أعقاب سجائرهم وبصاقهم، لأنه ليس معه ثمن تذكرة الدخول.
تشرد لأجل الفن: لا يهمني من يضع شرائع الناس طالما أضع لهم أغانيهم
خلافات شديدة وقعت بين زكريا ووالده بعد تشرده ورفضه العودة للمدارس، وإصراره على احتراف الغناء وتلاوة القرآن، وكان والده يرى أن الفن لا يؤكل عيشاً بدليل عبده الحامولي الذي مات فقيراً... فرد زكريا: "الحامولي تغلب بفنه على الخديوي إسماعيل بسلطاته، وألمظ كانت تسير بموكب أضخم من موكب زوجة الخديوي، وساكنة، أستاذة ألمظ، كانت الأعيرة النارية تطلق تحية لها، وتزين المحطات ابتهاجاً بقدومها".
قد يلحن زكريا وهو يمشي في جنازة، كما أغنية "ياما أمر الفراق"، وقد كان الميت شاباً وأصاب مشيعيه بحزن كبير، فاستلهم زكريا اللحن وأمسك بمفتاحه وغاب عمن حوله في الجنازة، وكلما كلمه أحد أصدقائه لم يرد حتى عاد لمنزله وأكمله
بعد وساطات الأقارب وافق الأب بعمل زكريا كقارئ، وعهد به للشيخ درويش الحريري لإكمال تحفيظه القرآن، وكان تحفيظ القرآن لدى درويش يكتمل بتدريس المقامات الموسيقية للقراءة عليها، وليس في مصر خلال هذا الجيل وما تلاه ملحن لم يتعلم من درويش أو يستفيد من تراثه، بما فيهم أسماء مثل محمد عبد الوهاب.
وجد زكريا مبتغاه، ومارس الغناء والتلاوة في المناسبات، ضمن بطانة (كورال) الشيخ درويش، ثم بطانة الشيخ علي محمود الذي وثق في زكريا حد جعلِه يؤذن الفجر في الحسين، فكان كل يوم يؤدي الأذان على مقام موسيقي مختلف، وبعد ذلك بدأ زكريا يلحن للفرقة.
كذلك التحق بفرقة الشيخ إسماعيل سكر، ذي الشعبية الكبيرة ومن خلالها زادت شعبيته وطاف مدن وقرى مصر، موالدها وأفراحها وقصور بشواتها وبكواتها كمصطفى رضا وصالح باشا ثابت، حتى استدعاه السلطان العثماني محمد رشاد (في الحكم من 1909 حتى 1918) إلى الأستانة لإحياء حفلات، ومنحه النيشان المجيدي إعجاباً به.
قبيل الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) وأثناءها، نشطت حركة فنية مدنية قوية، تجلت في المسرح، رغم القيود التي مارستها سلطات الاحتلال الإنجليزي على المسارح خلال الحرب، حتى شاعت عبارة تقول إن عدد الممثلين سيزيد عن المتفرجين!
وكانت مصر حينها قبلة للأوروبيين المتضررين من الحرب، بل وللعرب، خاصة من الأقطار الشامية، ما أضاف خبرات للمشهد الفني المصري.
ووسط كل ذلك هام زكريا متأثراً بعبارة كونفوشيوس: "لا يهمني من يضع للناس شرائعهم، ما دمت أنا الذي أضع لهم أغانيهم"، التي كتبها على لافتة ووضعها في حجرة نومه.
لم يترك الشيخ مكاناً فيه رائحة الفن إلا وذهب إليه، بداية من بيوت الأثرياء وحتى المقاهي وخاصة "متاتيا"، والبارات وخاصة "بريكلي" الذي كان يلتقي فيه بالموسيقار الشيخ سلامة حجازي والممثلة السورية مريم سماط، والمؤلف والفنان اللبناني الأصل فرح أنطون، وغيرهم.
وهكذا تشكل وانطلق زكريا أحمد الملحن والمطرب، وظل لفترة يرتاد المسارح ومراكز الفن بزيه الأزهري، حتى وجد نفسه يخلع الجبة والقفطان ويرتدي البدلة في أواسط عشرينيات القرن الماضي، في وقت كان المجتمع المصري يتخلص هو الآخر من موروثات القرن التاسع عشر، وربما القرون الوسطى عموماً.
وهو نفس الأمر الذي فعله آخرون من ممتهني الفن في عصره، ومنهم سيد درويش الذي خلع هو أيضا لباسه الأزهري، لكنه كزكريا احتفظ بلقب "الشيخ" حتى وفاته.
كان زكريا أحمد متمسكاً بتطوير الموسيقى الشرقية لكن دون الاقتباس من الغرب، فتجلى تطويره في قالبي "الطقطوقة" و"الدور" المصريين، ولاسيما الطقطوقة التي يعتبر زكريا أهم مطور لها
في خناقة أو جنازة أو بين الأشباح أو أهل الهوى... هكذا يُلحِن زكريا
عاش زكريا بالفن؛ فكل تفاعل مع الحياة بالنسبة له فن، وقد سُئل: كيف تخرج ألحانك؟
فرد: حسب الظروف، أحياناً عندما أكون رائق البال، وأحيانا عندما أكون ثائر الأعصاب خارج من خناقة كبيرة، وقد عرف أولادي عني ذلك، فتراهم يقولون في أعقاب كل خناقة لي معهم أو مع غيرهم: "لازم الخناقة دي بعدها لحن يا بابا".
أحيانا يخلق زكريا الظروف بنفسه ليُخرج لحناً يليق بالمعنى؛ ففي مسرحية "أبوزعيزع" طلب منه الفنان علي الكسار لحناً يُغَنى بحضور العفاريت والسحرة على المسرح، فاختار زكريا ليلة حالكة ممطرة وارتدى لبس المجانين، وذهب للأهرامات بجوار تمثال أبو الهول.
وعن ذلك يقول: "وما أدراك ما أبو الهول وما يغمره في الظلمة والمطر من رعب وأشباح تأكل الأشباح ورمال تتقاتل كأنها أرواح الشياطين، وجلست أمثل الجنون وجلس حولي مع الليل العاصف السحرة والعفاريت وورقة عليها كلمات الأغنية".
وبينما زكريا على حاله اكتشفه شرطي فاقتاده لقسم الشرطة، لكن اللحن كان قد ولد في ذهنه.
بشكل عام يتحد زكريا بالمعنى والمُغَني والشاعر ليضع اللحن المناسب، وعن ذلك يقول:
"أفتش في نفسي عن شخصيات المغنيين والمؤلفين، أقلب كلماتهم وأنقر أوتار حناجرهم، ثم أخلق من ذاتي وذات المغني وجوه. أتعرى من شخصيتي المرئية وألبس شخصيات الممثلين والمغنيين".
ويكمل: "ولا يعني ذلك خضوعي لهم ولكن يعني أنني مستودع من البشر مملوء باختلاف العواطف والقوى، فكلما احتجت إلى فرد من الأفراد مددت يدي إلى قلبي وأخرجت منه نغمة تختلج ثم تتدفق في منافذ قلوب الناس".
زكريا أحمد له محصول لم يصل إليه أي فنان لوقتنا هذا، حتى بلغ محصوله الفني 1070 أغنية، جمعت شتى الألوان، فكان دائرة معارف فنية، إذ كان الملحن الوحيد الذي يصور الألحان البدوية والتونسية والمغربية، وجميع هذه الألحان كانت ناجحة إلى حد كبير، لم يسقط منها أي لحن
قد يعيش زكريا كل ذلك وهو في سهرة بين أصدقائه الذين يسميهم "أهل الهوى"، وبين هؤلاء قد يخرج لحن أغنية كاملة، وربما كانت أغنية "أهل الهوى" تعبيراً عن واقع هؤلاء الأصدقاء، فقد كتبها أحدهم وهو بيرم التونسي، ولحنها زكريا، وغنتها أم كلثوم:
ويحكي الروائي العالمي نجيب محفوظ أنه عاش مع أهل الهوى ليلة وفيها خرج لحن أغنية أم كلثوم "إيه أسمي الحب ماعرفش"، فقد كان زكريا يلحن كل مقطع منها ويعرضه عليهم، حتى جاء الصباح فكان اللحن قد نضج.
كذلك كان لحن "الأولى في الغرام" لأم كلثوم، حيث كانوا يسهرون في بيت أحدهم وزكريا يدندن اللحن على العود حتى يأتي الصباح فيذهبون إلى مطعم فول ويأكلون على رصيفه قدرة كاملة وقفص جرجير، وما تيَسَّر من البطيخ.
ثم ينامون في منزل أحدهم ويستيقظون مساءً ليستأنفوا السهرة، وهكذا لمدة 7 أيام، حتى انتهى الشيخ من تلحين الأغنية التي حين غنتها أم كلثوم لأول مرة في النادي الأهلي استعاد الجمهور مطلعها ست مرات، حسبما يحكي صديقه أحمد كفافي.
وقد يلحن زكريا وهو يمشي في جنازة، كما أغنية "ياما أمر الفراق"، وقد كان الميت شاباً وأصاب مشيعيه بحزن كبير، فاستلهم زكريا اللحن وأمسك بمفتاحه وغاب عمن حوله في الجنازة، وكلما كلمه أحد أصدقائه لم يرد حتى عاد لمنزله وأكمله.
ملحن القرآن عربي الهوى يطور الموسيقى من داخل الشرق
كان زكريا مصرياً "ابن بلد" عروبياً إسلامياً، يصف الموسيقى الأوروبية بـ"السمن البراني" بينما الموسيقى العربية هي "السمن البلدي".
كثيراً ما عانى زكريا أحمد وخاصة من صديقته واكتشافه الأهم، أم كلثوم؛ فقد قابل زكريا الفتاة التي تغني في الموالد عام 1918، وقدمها لفرقة علي الكسار التي كان يلحن لها. تحولت الفتاة إلى أهم مطربة في العالم العربي، لكنها تنكرت له حين طالب برفع أجره وعاملته بشكل قاسٍ فقاضاها في المحاكم
يرى أن الإسلام أضاف للموسيقى وصانها، ولاعتزازه بعمله القديم كقارئ قرر وضع لحن للقرآن تسجله أم كلثوم، بلا آلات، ولكنه منضبط على المقامات المناسبة للمعاني، حسبما نشرت روز اليوسف في 19 يونيو 1950، وكان ذلك بعد سنوات من فشله في الحصول على موافقة من المفتي لتسجيله بصوته هو، لا لحرمة تلحينه ولكن لبدعة تسجيله على أسطوانات!
عروبة موسيقاه جعلته كثير السفر للبلدان العربية "لدعم الصلات بين الشعب العربي عن طريق الموسيقى"، ويجيد التحدث باللهجات العربية المختلفة، خاصة الشامية، لكثرة صداقاته من سوريا ولبنان وفلسطين.
وفي ديسمبر 1950 نشرت مجلة الإذاعة اللبنانية تصريحه:
"الألحان العربية فروع لعائلة واحدة، لا جدل أن بينها فوارق، ولكن الفنان اليقظ يلمس هذه القربى الشديدة بين الألحان، ولهذه العائلة النغمية أبناء وأقرباء بالأقطار الشرقية في فارس وتركيا وبعض البلدان البلقانية، غير أن هناك ضابطاً يجمعها وهو الوحدة الموسيقية التي يتوقف عليها ميزان اللحن".
لذلك كان زكريا متمسكاً بتطوير الموسيقى الشرقية لكن دون الاقتباس من الغرب، فتجلى تطويره في قالبي "الطقطوقة" و"الدور" المصريين، ولاسيما الطقطوقة التي يعتبر زكريا أهم مطور لها.
ومن مظاهر تطويره للطقطوقة خلطها بالمونولوج الذي يحتوي على حوار بين الفنان ونفسه، كما في "نصرة قوية"، وبإضافة الحوار الدرامي إليها كما في "قولي ولا تخبيش":
إضافة إلى تعديلات أجراها في قالبها المبني على مذهب (الافتتاح الغنائي) مستقل اللحن وأغصان (كوبليهات) متطابقة اللحن، لكسر هذه النمطية بأكثر من ابتكار، كما مثلاً في "الورد جميل"، التي تبدأ مباشرة بالغصن الأول "الورد جميل" ثم تتوالى الأغصان ولحن كل منها مختلف عن الآخر:
أما قالب الدور فأجرى تطويرات عليه، منها ما يتعلق بأداء الآهات وتوظيفها، محاولاً إعطائه نفساً جديداً للاستمرار ومقاومة عواصف التغريب التي كان يقودها محمد عبد الوهاب وغيره.
فكان زكريا آخر من استخدم قالب الدور عام 1939 مع أم كلثوم، وهو دور "ماكانش ظني في الغرام"، ثم انقرض بعد ذلك.
إلا أن هذا الاتجاه المحافظ قد يتجاوزه زكريا في تلحين المسرحيات فقط، فليس لديه مانع في الاستعانة بإيقاعات أو نغمات غربية أحياناً، ولكن بشرط أن تكون الروح العامة شرقية، حسبما صرح في حوار لمجلة الراديو نشر في مارس عام 1948.
وفي الحوار قال إنه لحّن الفرانكوأراب في مسرحيات نجيب الريحاني، واسكتشات بديعة مصابني، وكذلك لحن من إيقاع الفالس الغربي ألحاناً شرقية أصيلة مثل "طال عليّ البعد" لأحمد عبدالقادر، و"يا بشير الأنس غني"، و"الورد جميل" لأم كلثوم.
كان زكريا يراعي الفقراء، فإذا غنى في حفل عام يشترط تخفيض سعر التذاكر بحيث لا تزيد في سوريا مثلاً عن 10 قروش سورية، وقد يغني مجاناً كما فعل في قهوة "أبوشاكوش" في يافا، لمجرد أن اسم المقهى أعجبه
رغم محصوله الذي لم يصل إليه فنان عانى بسبب عزة نفسه
في المذكرة التي رُفِعت للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون في مصر لتكريمه كُتِب:
"زكريا أحمد له محصول لم يصل إليه أي فنان لوقتنا هذا، حتى بلغ محصوله الفني 1070 أغنية، جمعت شتى الألوان، فكان دائرة معارف فنية، إذ كان الملحن الوحيد الذي يصور الألحان البدوية والتونسية والمغربية، وجميع هذه الألحان كانت ناجحة إلى حد كبير، لم يسقط منها أي لحن".
نتيجة لذلك، نال وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في عيد العلم، من الرئيس جمال عبد الناصر، في 15 ديسمبر 1960 وتوفي بعدها بشهرين فقط في 14 فبراير 1961م.
ورغم قيمة زكريا إلا أنه كثيراً ما عانى وخاصة من صديقته واكتشافه الأهم، أم كلثوم؛ فقد قابل زكريا الفتاة التي تغني في الموالد عام 1918، وقدمها لفرقة علي الكسار التي كان يلحن لها، لتغني بين فصول المسرحيات.
تحولت الفتاة إلى أهم مطربة في العالم العربي، لكنها تنكرت له حين طالب برفع أجره وعاملته بشكل اعتبره قاسٍ عام 1948م، فقاضاها في المحاكم لإخلالها باتفاقات مالية سابقة، وكذلك فعل نفس الأمر مع الإذاعة المصرية.
ظل زكريا لسنوات لا يعمل بل ينفق على القضايا من مدخراته، رافضا التنازل، وانتحر ابنه يعقوب إحباطاً من الواقع الذي صار عليه أبوه كما ذكرنا في المقدمة.
ظل زكريا على كبريائه حتى قضت له المحكمة في قضية الإذاعة بتعويض أقل من حقه، فوافق ولم يستأنف التقاضي قائلاً: "الإذاعة أرضت كبريائي، تلك التي أراد لها بعضهم أن تذلني".
أما أم كلثوم فقد تمسك بمقاضاتها لأكثر من 10 سنوات، حتى أجبرها على الحضور بنفسها لقاعة المحكمة عام 1960 وأثنت عليه أمام القاضي، فتنازل أمام كلماتها التي اعتبرها رداً لكبريائه، واتفق معها على تلحين 3 أغنيات جديدة، غنت منها "هو صحيح الهوى غلاب"، وتوفي أثناء تلحينه أغنية "أنساك" التي أكمل لحنها بليغ حمدي.
لم يكن زكريا مادياً وإنما ينفر من الشعور بالكبر عليه ويعتبر المال وسيلته لكسر هذا الكبرياء؛ ففي مرة عرض عليه تلحين أغاني فيلم كان ينتجه ثري مصري، ولكن الرجل تعامل بغطرسة لم يقبلها زكريا فطلب 3 آلاف جنيه في لحن الأغنية الواحدة، وهو مبلغ ضخم جداً في هذا التوقيت، ورغم ذلك أصر زكريا عليه، عقاباً للباشا!
وفي المقابل كان زكريا يراعي الفقراء، فإذا غنى في حفل عام يشترط تخفيض سعر التذاكر بحيث لا تزيد في سوريا مثلاً عن 10 قروش سورية، وقد يغني مجاناً كما فعل في قهوة "أبوشاكوش" في يافا، لمجرد أن اسم المقهى أعجبه... باختصار كان الشيخ زكريا يتواضع أمام من يُقدره ويتعالى على من يتعالى عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...