هو ابن السلطنة والمزاجُ السَّحابي، هو ابن أبخرة الشاي ورنّات كنك القهاوي، هو ابن الحكايات والتسكّع في الحواري، هو ابن الوَنَس وأبوه... هو لحن يُشرَب على مهل، هو ابن النكتة و"الضحك الذكي"، استعارةً من الشاعر الإمام فؤاد حداد، في وصف المصريين.
زكريا أحمد يمثل المصري بكل ما فيه: هو "أبو كرامة"، ليس في الأمر مجاز، فهو اسم لإحدى بناته، كما كانت الكرامة موقفه من الحياة والناس، حتى لو كان هؤلاء الناس هم أم كلثوم، صنيعته التي تمرّدت عليه كما في أسطورة بيجماليون، هو رجل مصنوع من التعالي، لا ينكسر إلا في محراب التخت.
نعم، طالت مقدمتنا الوصفية ونحن نحاول تتبع شيخ الموسيقى، ملحّن الهوى المصري، فكم من شيخ أنجبت موسيقانا وكيف من موسيقى أنجبت شيخاً، حتى لا تكاد تعرف الفارق بين الشيخ والموسيقي، في زمن كان أهل الفن فيه لا تؤخذ بشهاداتهم في المحاكم المصرية.
ما علينا... هو كل هذه الصفات وأكثر مما لم نكتشفه بعد، هو الفطرة تضرب على عود وتغني وتنشد في أعاليها. نقف أمام صوره الفوتوغرافية النادرة لنرى كم هو لغز مُركّب... هو زكريا بن أحمد صقر مرزيان، المولود قبل بداية القرن العشرين بأربعة أعوام، والمتوفي في 14 شباط/ فبراير 1961. كان يلحن وهو يجلس بين أصدقائه، يلحن في الشوارع وشوادر الأفراح، يلحن على روحه بالمعنى الدارج، فلا تعلم أين وُلد فيه شيطان الموسيقى مرتدياً "جبّة الشيخ وقفطانه".
ذات يوم، دخل على أحد أصدقائه في مطعم جروبي، وحينما أتى الطعام تناول بعضاً منه، وقبل أن يضعه في فمه قال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وحينها قال له صديقه بنبرة استهزاء: "إنت لسه فقي يا زكريا؟!"، والفقي هو من يسترزق بقراءة القرآن على المقابر، فرد زكريا: "آه فقي، هو يعنى عشان الواحد قلع الجبة والعمة ينسى أصله؟!"، ثم فاجأ صديقه بأن جلس جلسة الفقهاء على كرسي جروبي، وبدأ يتلو القرآن وسط اندهاش من حوله... هكذا روى الصحفي صبري أبو المجد عن الشيخ في كتابه "زكريا أحمد"، الصادر عن سلسلة أعلام العرب بعد وفاة الرجل عام 1961.
نحاول تتبع شيخ الموسيقى، زكريا أحمد، ملحّن الهوى المصري، فكم من شيخ أنجبت موسيقانا وكيف من موسيقى أنجبت شيخاً، حتى لا تكاد تعرف الفارق بين الشيخ والموسيقي، في زمن كان أهل الفن فيه لا تؤخذ بشهاداتهم في المحاكم المصرية
حكاية أخرى من مذكرات زكريا، تقول إنه تلقى دعوة للاحتفال بتجديد المسجد الأقصى، وكان من برنامج الاحتفال قراءة أحد المشايخ لجزء من القرآن، وحينما رأى زكريا أن القارئ في حالة غير طبيعية، وأن صوته لا يعجبه، وأن الآيات التي يقرؤها لا تناسب المقام، اقترب منه هامساً في أذنه بأن يختم القراءة سريعاً ويخرج متعللاً بأنه مصاب بإسهال ولا يعود، فامتثل القارئ للشيخ زكريا، الذى جلس مكانه ليقرأ الآيات المناسبة للزمان والمكان، ويقول زكريا في المذكرات: "قرأت سورة الكهف وأذنت لصلاة الجمعة، وكنت فعلاً في حالة تجلٍّ، ولم أكن أحس بأن في المسجد أحد، بل كنت كمن يخاطب الله".
لا يمكنني فصل زكريا أحمد وهو يلحن عن مخاطبة إله ما، فألحانه تصعد سلماً يجرّه قطار إلى أعلى... يطير القطار ببطء... يخفُّ كأنه يمشي على بحيرات... يقف على الحرف الواحد ويقطّع الروح على أقاليمه، في حركات سلحفاة لا تلبي تسارع الزمن، بل تمسك عنق الوقت وتدخل به ثقباً تحت قبة صلبة تحمي جسمها، ولا يقف إلا عند سدرة منتهاه.
"إلا الكواكب في السما سمعاهم"
تقول حكاية مُبكية تتداولها الصحف و"سمّيعة" الست: "ذهبت أم كلثوم لتعزية الشيخ زكريا في وفاة ابنه، لكنه كان مصدوماً لدرجة أنه لم يشعر بوجودها... لا يتحدث، لا يتحرك، لم تنزل من عينيه دمعة، قلقت أم كلثوم على حاله، فاتصلت برفيق عمره، الشاعر بيرم التونسي، وكان حينها في الإسكندرية لا يعلم بما حدث، وطلبت منه الحضور، وحين وصل بيرم إلى منزل زكريا، جلس بقربه يحدثه ويواسيه، وأخبره بأنه كتب قصيدة جديدة يود معرفة رأيه فيها، لم يرد زكريا، فبدأ بيرم سرد القصيدة حتى وصل للمقطع الذي يقول:
حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحـيدي
وأقول يا عين اسعـفيني وبالدمع جودي
من يوم ما راح حبيبي وأنا بداوي جروحي
أتاري في يوم وداعه ودعـت قلبي وروحي.
وهنا انفجر الشيخ زكريا في البكاء ومعه بيرم، وعكفا يومين على القصيدة حتى خرجت للنور بصوت الست".
انتهت الحكاية، وسواء كانت صدقاً أم لا، فإنها تشير من بعيد إلى أن الأساطير تليق بزكريا، من أول فقده ابنه صاحب الاسم المركّب، محمد يعقوب، والمختلف على عام وفاته، والذي كان موته دافعاً لكتابة واحدة من أجمل أغاني أم كلثوم، "الأولة في الغرام"، انتهاء بتوديع زكريا نفسه الدنيا بعد 40 يوماً بالتمام على رحيل شقيق روحه، بيرم التونسي، كأنه لم يرد أن يكمل في هذا العالم، بما أن نصفه قد سبقه إلى عالم آخر، هناك فقط يمكنهما التواصل، هناك فقط سيسعفهما الوجود، ولا يكون جمهورهما من أهل الأرض بل من الكواكب في السماء.
وكمحاولة لتتبع أثر زكريا أحمد، ومعرفة من كان ذلك الشخص الذي وقف وراء هذه الألحان العُمدة لأم كلثوم، كيف عاش وكيف كانت صفاته وطريقته في الحياة، ننقل ما رواه الطبيب النفساني الشهير يحيى الرخاوي، عبر موقعه، من رأي للروائي الأعظم نجيب محفوظ، عن الشيخ زكريا، فقال: "كان من ألطف الشخصيات وأكثرها حضوراً وأظرفها لباقة في الحديث، وكانت له حكاية يحكيها عن فتوّة أجّروه لتأديب مجموعتين في وقت متلاحق، فكان الفتوّة يريد إنجاز المهمة الأولى بسرعة ليلحق بالثانية، فراح يتحرّش بالمجموعة الأولى ليستثير ما يبرر التأديب، ولما تأخروا في التجاوب الغاضب، صاح فيهم: مين فيكم محمد؟ فأجابوا بمنتهى الهدوء والحرص: محمد مين؟ فاعتبر الفتوة ذلك الرد العادي كافياً ليطيح فيهم وهو يصيح: محمد مين يا ولاد الـــ...، هات خد، طاخ طيخ".
تليق الأساطير بزكريا، من أول فقده ابنه صاحب الاسم المركّب، محمد يعقوب، والذي كان موته دافعاً لكتابة واحدة من أجمل أغاني أم كلثوم، "الأولة في الغرام"، انتهاء بتوديع زكريا نفسه الدنيا بعد 40 يوماً بالتمام على رحيل شقيق روحه، بيرم التونسي، كأنه لم يرد أن يكمل في هذا العالم
ويضيف محفوظ: "ينتقل زكريا من حكاية لأخرى في تسلسل عجيب وترابط مذهل، يبدأ حكايته الأولى في التاسعة مساء ثم يعود إلى نفس الحكاية في الثالثة صباحاً بلا انقطاع، كنت أسأل نفسي متى يعمل ويتم ألحانه وهو يداوم على سهراته اليومية، فاكتشفت أن بإمكانه التلحين في أي وقت. وأذكر أنه لحن أغنية (حبيبي يسعد أوقاته) وهو يجلس معنا على المقهى، وفي مرات عديدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية ويعرضها علينا لنختار الأفضل، وكان من أسباب تحملنا جميعاً لسطوته وسيطرته على القعدة، أنه يمثل الحكايات التي يحكيها بخفة دم ليس لها مثيل، والجميع لا يملك نفسه من الضحك".
كان من كبرياء زكريا، وأرى أن هذا حقه، أن اعترض على أم كلثوم بسبب أنها تعطيه أجراً مماثلاً لبقية ملحنيها، بينما هو لديه إحساس ما بالتفوق عليهم، مع لفت الانتباه إلى أن هؤلاء البقية كان بينهم محمد القصبجي ورياض السنباطي، وهذه إشارة أخرى لما كان يعتقده الرجل في نفسه من عبقرية، أثبت لها بدل البرهان عشرة، عبر ألحان تقترب من حد إنطاق المستحيل، وإخراج الموسيقى من حدود الممكن إلى سماء ثامنة، كما يبدو أنه كان متباهياً بأنه لم يدرس الموسيقى أكاديمياً، فهو من نوعية "ملحني العَنْعنة" بمعنى "أخذها عن فلان"، تماماً كفقه الشيوخ في التعلم في ذلك الزمان، وهذا في حد ذاته يقول إن زكريا لم تعلمه إلا الطبيعة والبداهة، فهو ابن للوجود الحر، لا يتكلف، لا تدخله صنعة، لم يختلط عسلُه بماء، هو ربيب الفطرة، أو كما وصفه الموسيقي اللبناني زياد رحباني، بأنه "يشبه المناقيش"، تلك العجينة والمخبوز الشامي، وكأنه أكلة ينضجها التفاعل الحي بين أفران الحطب وأصابع الأمهات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع