بدأت لوسي نيميتشكوفا، رحلتها الحقيقية التي بدّلت رتابة حياتها التشيكية اليومية، عندما غادرت منزلها ليلاً برفقة صديقتها، وهي في التاسعة عشر من عمرها. كانتا معاً قد شاركتا في الثورة المخملية التي خلّصت في النهاية تشيكيا من الحكم الشيوعي الثقيل عام 1989، والذي تجثم آثاره حتى اليوم في وجوه التشيكيين وفي أبنية المدينة وفي نظام الحياة والمؤسسات الحكومية.
في عام 2008، أطلقت لوسي نيميتشكوفا مهرجان "هلال في سماء براغ"، للمرة الأولى في العاصمة التشيكية، وهو مهرجان مختص بالثقافة العربية والفارسية.
قررت لوسي نيميتشكوفا حينذاك، أن تتحرر من قيودها قائلةً: "لماذا نبقى في السجن عندما تكون الأبواب مشرعةً أمامنا للتحليق؟ كفتاة عشرينية لم أتمكن من مقاومة الرغبة في استكشاف العالم المحيط".
من دون نقود أو خطة واضحة غادرت منزلها ليلاً لتقف في وسط الطريق وتركب أول سيارة. ولحسن الحظ كانت في السيارة عائلة فرنسية لطيفة، أقلّتها معها في رحلة حول أوروبا، ولفّت بها بلداناً كثيرةً، تعرفت خلالها لوسي على ثقافات وعادات مختلفة، وعلى أشخاص يشبهونها وأشخاص لا يفهمونها.
خلال الرحلة أدركت أن مدينة براغ الأخّاذة الجمال، لا تتسع لأحلامها، وبأنها تريد أن تنتمي إلى هذا العالم من دون حدود. تعلمت في أثناء سفرها اللغة الفرنسية، بالإضافة إلى دراستها للأدبين التشيكي والروسي في جامعة تشارلز قبل ذلك، ومن ثم درست المسرح وتخصصت كدراماتورغ، ثم تفرغت لشغفها باللغة العربية ورغبتها في استكشاف الثقافة الشرق أوسطية.
لوسي نيميتشكوفا
الانطلاقة
في عام 2008، أطلقت لوسي مهرجان "هلال في سماء براغ"، للمرة الأولى في العاصمة التشيكية، وهو مهرجان مختص بالثقافة العربية والفارسية، وقد كان ذلك بدعمٍ من أصدقائها العرب القاطنين في براغ وما حولها، ومنهم شريف بحبوح، البروفيسور السوري المولود في مدينة النبك، والذي تخرّج من جامعة تشارلز في براغ وحصل على دكتوراه فلسفة في اللغات. وبعد إنهاء دراسته، بدأ يعمل باحثاً في المعهد الشرقي التابع لأكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية في براغ، وأسس أول دار نشر عربية للكتب والوحيدة حتى اليوم في العاصمة التشيكية، وألف العديد من الكتب باللغتين التشيكية والعربية.
لوسي نيميتشكوفا: "لدى التشيكيين ثروة هائلة من الأدب والثقافة والمسرح والفنون، هم فقط لا يعرفون ذلك، ويعتقدون أن ما يملكونه ضئيل للغاية مما يستدعي الخوف عليه ووجوب حمايته من الغرباء"
قسم اللغة العربية
لفت المهرجان انتباه المساهمين والمساهمات في قسم اللغة العربية في جامعة تشارلز، الذين اقترحوا أن يشارك طلاب قسم اللغة العربية التشيكيون في أداء مسرحي باللغة العربية في المهرجان، وقد حقق ذلك نجاحاً كبيراً، فأصبح العرض المسرحي للطلاب من دارسي اللغة العربية ثابتاً وسنوياً في كل سنين المهرجان.
كما أضيفت إلى ذلك مسابقة للشعر يقدمها طلاب اللغة العربية أيضاً، وتشرف على تقييمها لجنة مصغرة من الكتاب أو الفنانين العرب، وبدأ المهرجان عاماً بعد عام بالتوسع، لاستضافة كتاب وكاتبات ومخرجين ومخرجات ومختلف الفنانين والفنانات الناطقين بالعربية. ولما كانت الجالية الإيرانية قريبةً جداً من الجالية العربية المقيمة في تشيكيا، وذلك لأسباب عديدة منها التشابه في العادات والخلفيات السياسية والاجتماعية، وحتى الثقافية، فقد جذب المهرجان الوسط الثقافي الإيراني، فقدّم في البداية صاحب مطعم إيراني، الطعام مجاناً لرواد المهرجان، ومن ثم بدأت لوسي نيميتشكوفا تستقطب أهل الفن والثقافة من المجتمع الناطق بالفارسية، والموجود في تشيكيا وما حولها، لعرض هذه الثقافة أيضاً بعيداً عن القالب السياسي والإعلامي المحدود.
ولكن كيف يستمر هذا المهرجان في بلد تسود فيه العنصرية ورهاب الإسلام ورهاب كل ما هو قادم من الشرق، حتى أن تكلم اللغة العربية في الشارع هنا بصوت مرتفع، يُعدّ أحياناً أمراً يستدعي القلق؟
تقول لوسي نيميتشكوفا: "في كل عام أعتقد أن هذه ستكون السنة الأخيرة للمهرجان. نحن نتلقى مبلغاً زهيداً من الدعم من وزارة الثقافة التشيكية، التي تناقشنا معها مطولاً في كل مرة عن أهمية هذا المهرجان! لكننا نعتمد في الدعم أيضاً على السفارات التي تساهم في تقديم مساحات اللقاء، وتقديم الدعم المادي لإنجاز المهرجان، غير أن الأمر يزداد صعوبةً كل عام".
وعند سؤالها عن سبب تصميمها على الاستمرار في هذا المهرجان الوحيد من نوعه في تشيكيا، على الرغم من كل الصعوبات، تقول لوسي نيميتشكوفا: "لدى التشيكيين ثروة هائلة من الأدب والثقافة والمسرح والفنون، هم فقط لا يعرفون ذلك، ويعتقدون أن ما يملكونه ضئيل للغاية مما يستدعي الخوف عليه ووجوب حمايته من الغرباء، إلا أنهم لا يدركون أن الانفتاح على الفنون والثقافات المغايرة سيغني هذه الثروة وينشرها أكثر. الخوف يحكم هذا المكان ويقيّده".
خسارة التنوّع
تؤكد لوسي على أن الخسارة الحقيقة التي يواجهها هذا المكان، هي خسارة التنوع الفكري واللوني والعرقي، فهناك آلاف من الفنانين والفنانات من مختلف نواحي الفنون والآداب الذين يأتون إلى تشيكيا للدراسة والعمل، لكنهم يواجهون أنواعاً عديدةً من العنصرية التي تضطرهم في النهاية إلى مغادرة هذا المكان. تقول لوسي: "حتى بعد عشر سنوات من الإقامة في براغ، يغادرها هؤلاء الأشخاص بعد فقدان الأمل. المجتمع لا يتقبلهم، والطبقة التشيكية التي تعدّ نفسها مثقفةً ومنفتحةً، تتقبل هؤلاء الفنانين والفنانات طالما أن أعمالهم لا تتقاطع مع أعمالها، ولكن عندما يتطور الأمر إلى أي نوع من التعاون، فالأجور تبدو زهيدةً بشكل مفتعل لهؤلاء الفنانين، كما أن الكثيرين لا يرغبون بتكلم اللغة الإنكليزية مع من لا يتقنون اللغة التشيكية، وهذه ليست عقبةً حقيقيةً، بل هي نوع من أنواع العنصرية المبطنة".
تؤكد مؤسِّسة المهرجان على أن الخسارة الحقيقة التي يواجهها هذا المكان (تشيكيا)، هي خسارة التنوع الفكري واللوني والعرقي.
إن المشهد الثقافي التشيكي لا يزال ضحلاً في ما يتعلق بما يُنتَجُ باللغة العربية وبالفضاءات المتاحة للفنانين والفنانات القادمين من الشرق الأوسط، لكن ذلك يعكس الواقع السياسي، ورغبات السلطة والإعلام في السيطرة على هذا المكان الذي يبدو أنه بعد ثلاثين عاماً لا زال يزيح عن كاهله آثار الحكم الشيوعي القمعي، ويحارب خوفه عن طريق شخصيات استثنائية تشبه لوسي نيميتشكوفا التي تستمر في العمل كي يسمعها الآخرون. تقول لوسي: "على التشيكيين أن يعتادوا سماع اللغة العربية، حتى وإن لم يفهموها. إنها الموسيقى التي يجهلون إيقاعها، والأفق الذي لا زالوا يرفضون التحليق في فضائه".
نبذة عن فعاليات المهرجان
تم في عام 2019، تكريم المخرج والكاتب السوري الراحل نبيل المالح، الذي عاش في العاصمة براغ فترةً ودرس فيها السينما، وقد تمت الاحتفالية حينذاك بمشاركة من ابنته سميحة المالح التشيكية، والكاتب السوري عمرو سواح، الذي عمل مع نبيل المالح في المرحلة الأخيرة من حياته وقام بالكتابة والإخراج معه.
كما استضاف المهرجان كتّاباً وكاتبات من الجزائر ولبنان ومصر وسوريا وفلسطين والمغرب والسودان وإيران وأفغانستان، وأقام حفلات للموسيقى الشرقية.
وفي نسخته لعام 2021، عرض المهرجان للمرة الأولى فيلماً سينمائياً للمخرج السوري عروة المقداد، تلاه نقاش بحضور المخرج، وقد حضر العرض عدد كبير من العرب والتشيكيين، مما شجع مُؤسِسة المهرجان لوسي نيميتشكوفا للتخطيط لتضمين عروض أفلام سينمائية أخرى في السنين القادمة للمهرجان.
إن المشهد الثقافي التشيكي لا يزال ضحلاً في ما يتعلق بما يُنتَجُ باللغة العربية وبالفضاءات المتاحة للفنانين والفنانات القادمين من الشرق الأوسط، لكن ذلك يعكس الواقع السياسي، ورغبات السلطة والإعلام في السيطرة على هذا المكان الذي يبدو أنه بعد ثلاثين عاماً لا زال يزيح عن كاهله آثار الحكم الشيوعي القمعي
كما استضاف المهرجان في العام نفسه عرضين مسرحيين للمخرجتين الإيرانيتين: أزاده محمدي، ومورفاريد رامزاني، وأقامت الشاعرة الإيرانية بيتا ملكوتي أمسيةً شعريةً باللغة الفارسية مصحوبةً بالترجمة التشيكية، وقدّم صانع الدمى والمسرحي الفلسطيني حسام العابد عرض "صانع الحرب" وعرض "نص نصيص"، كما كانت هناك قراءة مسرحية للكاتب والمسرحي الجزائري محمد القاسمي الذي حضر المهرجان أيضاً، وكان هناك عرض مسرحي من تأليف الكاتبة اللبنانية الفرنسية فاليري كاشار، والتي حضرت المهرجان عبر الإنترنت، لتعذر سفرها.
كما خصص طلاب اللغة العربية في جامعة تشارلز عرضهم المسرحي لتخليد ذكرى مرور 110 سنوات على ميلاد نجيب محفوظ، وذلك عبر تأديتهم عرضاً مسرحياً مبنياً على روايته " فضيحة في القاهرة". ولم ينسَ المهرجان البروفيسور شريف بحبوح الذي توفي في بداية العام 2021، وقد كان شريف وجهاً دائماً في المهرجان وداعماً له ومساهماً فيه بمنشوراته وكتبه، فأقيمت أمسية لإحياء ذكراه بوجود أفراد عائلته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع