شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"جاؤوا ليعيشوا تجربة بلادهم البعيدين عنها"... "شتوت-أرض" والموسيقى العربية البديلة في شتوتغارت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 12 يناير 202212:35 م

بلغة إنكليزية تشوبها لكنة واضحة، وتتخللها كلمات ألمانية بين الفينة والأخرى، يعرّفني كل من ساري وراينر بنفسيهما.

"أنا ساري لوتر، أعمل في مجال الطعام هنا في شتوتغارت، وأحب الموسيقى، وأم لطفل". 

"وأنا راينر بوكا، أملك مقهى ‘غالاو’ في ساحة ‘مارين’ جنوب المدينة، وهو من المقاهي القليلة التي تقدّم موسيقى حيةً بشكل منتظم أسبوعياً في شتوتغارت، من دون رسوم دخول محددة، وأنظّم مهرجاناتٍ موسيقية، منها مهرجان ‘مارين بلاتز’ المستمر منذ أكثر من عشرة أعوام".

لا يضع الثلاثي اليوم نصب أعينهم العمل خارج شتوتغارت، فهي بحاجة ماسة إليهم كما يقولون.

أما منال فاخوري، فتبدأ حديثها بلهجةٍ أردنية مميزة، وابتسامة عريضة: "أنا منال، مهندسة معمارية، أعيش في شتوتغارت منذ نحو عشر سنوات، وأهتم كثيراً بالموسيقى، خاصةً تلك القادمة من منطقتنا".

باجتماع هذا الثلاثي قبل قرابة خمسة أعوام، وُلدت تدريجياً فكرة منصة "شتوت-أرض Stutt-Ard"، التي تسعى إلى خلق مشهد ثقافي غير مألوف في المدينة الألمانية الشهيرة بغناها وصناعاتها، يعبّر عن مكونات مختلفة من منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، من خلال الموسيقى والكتابة والطعام وغيرها، مما يطلق عليه مؤسسو المنصة: طريقة رائعة للتبادل الثقافي، وإلغاء حدود غير مرئية تصنعها الاختلافات، وعدم الاهتمام الكافي بمعرفة الآخر.

البداية: "47 سول" في شتوتغارت

في منزل راينر، الواقع فوق مقهى "غالاو"، والذي كثيراً ما استضاف مغنّين وعازفين من أنحاء الدول العربية، التقيتُ أعضاء منصّة "شتوت-أرض". بشغف كبير تحدثنا عن "البداية، حين اجتمعنا نحن الثلاثة، لنحكي عن الموسيقى والتراث والسياسة والطعام وغيرها من الأمور"، يقولون، وتضيف ساري أنها كانت مهتمةً بأن تعرف أكثر من منال عن فلسطين، وهنا لمعت الفكرة في أذهانهم.

"أخبرتني منال عن فرقٍ موسيقية فلسطينية يمكن أن تكون مثيرةً لاهتمام الجمهور هنا، واقترحتُ عليها أن نتحدث مع راينر في هذا الشأن"، تقول ساري، وتشرح منال بأنها كانت ترغب فعلاً بقدوم فرقة "47 سول" إلى المدينة التي لا يهتم الفاعلون الثقافيون فيها كثيراً بالتحرك في اتجاهات جديدة، وغالباً ما تشهد الفعاليات الثقافية ذاتها كل سنة، كما أن الثقافة التي يمكن أن تصل إلى الجميع، لا تشكّل هاجساً أساسياً للمشتغلين في الشأن العام هناك، إذ لا يرون أهميةً كبيرةً لها، وفق ما يخبرني المتحدثون الثلاثة.

في مدينة شتوتغارت، تشجّع الثلاثي لتأسيس منصة تهتم بتقديم موسيقى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لجمهور لا يعرفها من قبل، أو يتوق إلى سماعها في هذه المقاطعة الألمانية، ومن دون الاضطرار إلى دفع رسوم دخول مرتفعة للاستماع إليها

"وهكذا كان، حضرت الفرقة إلى مهرجان مارين بلاتز عام 2018، وكانت ردود أفعال الجمهور الذي جاء من المدينة، ومن كثير من المناطق المجاورة، وحتى من مدن ألمانية بعيدة، رائعةً للغاية، سواء من يعرفون الفرقة، وتالياً كانوا سعداء بحضور حفل لها، أو أولئك الذين يسمعونها للمرة الأولى، وأثارت لديهم فضولاً ليعرفوا أكثر عن موسيقى منطقتنا"، تضيف منال.

هنا، تشجّع الثلاثي لتأسيس منصة تهتم بتقديم موسيقى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أو ما يُعرف بمصطلح منطقة "مينا MENA"، لجمهور لا يعرفها من قبل، أو يتوق إلى سماعها في هذه المقاطعة الألمانية، ومن دون الاضطرار إلى دفع رسوم دخول مرتفعة للاستماع إليها. "بالنسبة إلى الناس في شتوتغارت، ليس سهلاً الوصول إلى الموسيقى الجيدة، إما بسبب ارتفاع تكاليف الحفلات، مثل مهرجان الجاز، أو بسبب عدم وجود رعاة لهذا النوع من الفنون، خاصةً عندما نتحدث عن الفرق التي تقدّم الموسيقى البديلة، والتي لا تكون معروفةً على نطاق واسع".

ونظّمت المنصة أول مهرجاناتها صيف عام 2019، في مقهى "فيلت" وسط المدينة، لمدة ثلاثة أيام متتالية، وحضره ما يقارب 1،500 شخص، من كل أنحاء ألمانيا، رقصوا وغنّوا على أنغام جوان صفدي، وبديعة بوحريزي، ولاباس، وفولار، وهادي زيدان، وغيرهم من الفرق والمغنّين والمغنيات من مختلف البلدان العربية، كما ضم المهرجان فعاليات أخرى، كبيع الكتب والمنتجات اليدوية والطعام، وكان الدخول مجانياً، ويمكن للحاضرين أن يدفعوا ما يرغبون في دفعه على شكل تبرع.

"لم نصدّق حينها تفاعل الناس مع الحدث. في آخر يوم هطلت أمطار غزيرة، لكن الجميع استمروا بالرقص غير مكترثين. جاؤوا من كل مكان ليعيشوا تجربة بلادهم التي يقيمون اليوم بعيداً عنها، أو ليختبروا موسيقى جديدة تتيح لهم التعرّف إلى أشخاص جدد لا يمكن أن يلتقوا بهم ربما خارج هذا المهرجان. كانت فرصةً فريدةً للّقاء والحوار الثقافي. قالت لنا سيدة من الحضور: لم ألتقِ في حياتي كلها بهذا الكم الهائل من الأشخاص المختلفين والمتنوعين".

أي فرقٍ سنختار؟

مع انطلاق أول مهرجانات المنصة، كان على الثلاثي المؤسس اختيار اسم لها. تشرح منال بالتفصيل حول ذلك: "بدايةً، كنا نفكر في كلمة Heimat، التي تعني ‘وطن’ بالألمانية، لكني شعرت بأنها مكررة للغاية، ولكون شتوتغارت اسماً مركّباً من كلمتين أساساً، كما أن اللغة الألمانية تعتمد كثيراً على الكلمات المركبة، اقترحت اللعب على الفكرة ذاتها، وانبثقت هنا فكرة ‘شتوت-أرض’، والتي تحيلنا إلى معاني الانتماء، والأرض، وهي برأيي ملك للجميع، والوطن الذي يبحث كثيرون عنه اليوم، كما أن البعض يعتقدون بأن الاسم هو شتوت-آرت Stutt-Art، ما يربطنا أيضاً بالفن".

"كانت فرصةً فريدةً للّقاء والحوار الثقافي. قالت لنا سيدة من الحضور: لم ألتقِ في حياتي كلها بهذا الكم الهائل من الأشخاص المختلفين والمتنوعين".

وعدا عن اختيار الاسم، ومن ثم تسجيل شتوت-أرض، كمؤسسة رسمية في ألمانيا عام 2020، ما يسهّل عملها كثيراً على المستويين التنظيمي والمالي، كان على ساري وراينر ومنال خوض نقاشات طويلة حول فكرة المنصة، التي توفر برأيهم حواراً على مستويات عدة: بين الموسيقيين/ ات أنفسهم، إذ يلتقون ضمن فرصة فريدة تتيح لهم النقاش في مواضيع بالغة الأهمية، على الرغم من الاختلاف المحتمل للآراء، وبين أفراد الحضور المتنوعين بشكل كبير، وأيضاً بين الموسيقيين والجمهور.

"هل نركّز على الموسيقى البديلة فحسب؟ أم نهتم أيضاً بالتراثية؟ وهل نستهدف الجمهور العربي كي نقوّيه ونقوّي حضوره في بلد غريب عنه، أو الأوروبي الذي يعرف نوعاً ما الفن الذي نقدّمه، أو ذلك الذي لا فكرة لديه عنه على الإطلاق، ولن يفهم كلمات الأغاني بكل تأكيد، لكنه ربما سيتفاعل مع الموسيقى؟"؛ هذه جميعها أسئلة لا زالت مطروحةً في أذهانهم، والحوارات الناتجة عنها تغني عمل المنصة، إلى جانب تحقيق أهدافها الأساسية، المتمثلة في خلق مساحة مشتركة آمنة يجتمع فيها الناس للاستمتاع بالفن، وفي الوقت نفسه إظهار جانب مختلف من ثقافة المنطقة، على تنوعها، مما قد يساعد في تغيير صورة نمطية عن العرب والمهاجرين، كان للسنوات الأخيرة دور بجعلها سلبيةً إلى حد كبير.

"الجمهور اليوم يثق بنا"

استمرت هذه الأسئلة في المهرجان الأخير لشتوت-أرض، الذي أقيم في مسرح "مرسيدس بنز" الصيف الفائت، بعد توقف اضطراري عام 2020 بسبب جائحة كوفيد19، وحمل اسم "تعالوا كما أنتم Come as you are"، لتحفيز الناس على الشعور بالحرية والأمان والأريحية.

استضاف المهرجان فرقاً عربية، مثل "توت أرض"، وأخرى ألمانية من شتوتغارت نفسها، بهدف خلق مزيد من مستويات التواصل. وعلى الرغم من ظروف الجائحة التي منعت كثيرين من الحضور، يقول الثلاثي إنهم راضون عن نتيجة المهرجان. "بعد أكثر من عام على الإغلاق، كان الناس بحاجة إلى الحرية والرقص، وكانت هناك طاقة رهيبة شعرنا بها في أثناء الحفلات، والعشرات يرقصون ويدبكون حتى آخر لحظة"، يضيفون وهم يعرضون لي، مبتسمين، مقطع فيديو لشباب وشابات يقفزون، وهم ممسكون بأيدي بعضهم البعض على أنغام وإيقاعات عربية راقصة.

"نرى أن كلاً من الجمهور والموسيقيين، باتوا يثقون بمنصة شتوت-أرض، وبذوقنا الموسيقي، ويعلمون أن بإمكانهم القدوم إلى مهرجاناتنا وفعالياتنا بغض النظر عن الفِرق المشاركة، لأنهم يعرفون أننا نقوم بكل ذلك انطلاقاً من شغفنا، وأهدافنا بإنشاء أرضية صحيحة للحوار والتواصل، وليس بغرض تحقيق أي ربح مادي"

"نرى أن كلاً من الجمهور والموسيقيين، باتوا يثقون بمنصة شتوت-أرض، وبذوقنا الموسيقي، ويعلمون أن بإمكانهم القدوم إلى مهرجاناتنا وفعالياتنا بغض النظر عن الفِرق المشاركة، لأنهم يعرفون أننا نقوم بكل ذلك انطلاقاً من شغفنا، وأهدافنا بإنشاء أرضية صحيحة للحوار والتواصل، وليس بغرض تحقيق أي ربح مادي"، ويضيف راينر ضاحكاً، متذكراً كل المرات التي استضاف فيها داخل شقته موسيقيين/ ات ومغنّين ومغنيات مشاركين/ ات في مهرجانات شتوت-أرض، لتدور بينهم حوارات ساخنة، لكنها قيّمة للغاية. "ذات مرة خفت فعلاً من اختلاف حاد في الآراء في أثناء أحد النقاشات، لكن الجميع في اليوم التالي كانوا متهيئين للعزف والأداء بطريقة مذهلة، وبكل انسجام".

لا يضع الثلاثي اليوم نصب أعينهم العمل خارج شتوتغارت، فهي بحاجة ماسة إليهم كما يقولون. يخططون لتوسيع أنشطتهم داخلها، سواء عن طريق المهرجانات، أو الاتفاق مع أندية ليلية لإقامة فعاليات دورية تتيح لهم الوصول إلى جمهور أكبر، واستقدام فرق وموسيقى جديدة كل مرة. يضيفون في ختام لقائنا: "نعتقد بأننا راضون عما حققناه حتى اليوم، ولا حدود لما نريد تقديمه في السنوات القادمة، فالشغف والطاقة يدفعاننا إلى أن نستمر في أن نكون صلة وصل ثقافية فريدة من نوعها في هذه المدينة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image