"لا تزعجيها بأي سؤال! فيروز أعطت لبنان وكل العالم العربي الكثير الكثير. يا ريت فينا نردّ لها ولو قسطاً بسيطاً ممّا قدّمته لنا!" كلمات لفظها أبي بصعوبة قبل أن أنطلق إلى منزل فيروز في الرابية، وكان قد أصيب بجلطة قبل وصولي بأيام قليلة إلى بيروت قادمة من لندن، لإجراء مقابلة مع فيروز.
لم أستغرب اهتمام والدي بفيروز. فقد كان مديراً للإذاعة اللبنانية يوم اقتحم حليم الرومي مكتبه وهو يصيح فرحاً: "وجدتها! وجدت فيروزة لبنان!" فرافق تدرّجها الفني من شابة تُنشد في كورس الإذاعة الى فنانة واعدة تولّى تدريبها وصقل طاقتها الصوتية عاصي الرحباني، الذي كان يومها يعمل في الإذاعة.
قابلتُ فيروز في بداية التسعينات حين كان الوصول إليها شبه مستحيل. كان الأمر محسوماً: فيروز في خلوتها، لا تريد مقابلة الصحافيين! ولا أعرف حتى الآن كيف أقنعَتها رسالتي التي أوصلها اليها الشاعر الصديق والمقرّب منها جوزيف حرب، فحدّدت لي موعداً للقائها في الرابية.
ما زال هذا اللقاء وما تبعه من لقاءات في منزلَيها في الرابية ومنطقة الروشة، يسري في ذاكرتي كأنه حدث البارحة، وقد مضى عليه ما يقارب ثلاثة عقود. فالوقت "زئبقي"، كالزئبق يتسلل من الذي كان إلى ما هو الأن كأنّما يُلغي تقسيم الرزنامة الزمنية إلى ماض وحاضر ومستقبل.
ربّما هكذا هي علاقة فيروز بالوقت. إذ يسكن حاضرها حنين دائم إلى طقس الزمن الماضي حين كانت البساطة أسلوب حياة والمحبة والفرح بين الناس أكثر تداولاً، والصدق والبراءة أكثر انتشاراً. يلوّن هذا الطقس سرد ذكرياتها الأولى مع الأخوين الرحباني عندما تروي خلال لقاء في منزلها البيروتي، كيف كانت هي وعاصي ومنصور عند انتهاء حفلة أو مسرحية غنائية ينطلقون بالسيارة، منصور وراء المقود وهي بينهما، يفترشون الليل حتى أولى ساعات الفجر بالضحك والابتهاج.
خلال اللقاءات الثلاثة كان عاصي الغائب الحاضر. من اسمه على جرس باب المنزل في الرابية، إلى صورة لوجهه بالأبيض والأسود تتصدر الصالون، يطل منها بعينَين تحدّقان بالزائرين وفي الوقت نفسه تنظران إلى عالم آخر وأبعد، إلى ذكره مراراً وتكراراً في مواضيع كثيرة تطرقنا اليها. تتحدّث عنه كقبطان السفينة الرحبانية. بغيابه غابت النضارة عن مسرح الأخوين الرحباني وافتقد الكثير من إبداعاته. فقد كان عاصي الموسيقى ومنسّق كلمات منصور ومنظّمها كأنّما يُعيد توزيعها موسيقياً؛ ومدرّبها ابتداءاً من الصوت وكافة التدابير الوقائية للمحافظة على نضارته، كالنوم الطويل والصوم عن الأكل قبل مهرجانات بعلبك، إلى الوقفة على المسرح وكيفيّة التصرّف. فتذكر هنا أنّه لم يكن يُحبّذ عودتها مرة ثانية إلى المسرح لتُلقي التحية على الجمهور في حال أصرّ بالتصفيق الحاد والمتواصل على عودتها. ثم تذكر علاقته الوثيقة بمنصور وإصراره على أن يلازمه الأخير باستمرار، لتنتقل إلى الحديث عن تعلّقه بابنته ليال التي كتب لها أغنية "شايف البحر شو كبير، كِبر البحر بحبك".
قابَلَت فيروز في بداية التسعينات حين كان الوصول إليها شبه مستحيل... ما الذي تقوله عنها؟
لغة فيروز لا تتشكل من كلمات بل من أحاسيس، من "ذبذبات" خفيّة تختبئ وراء الكلام...تلك القامة النحيلة، المُنمنَمة والمُتّشحة بالسواد التي أطلّت عليّ في صالون الرابية كشخصية درامية في مسرح إغريقي لم تخفّف من رهبة اللقاء بسفيرتنا إلى النجوم ورمز لبنان! لكنّها منذ البدء استلمت إدارة الجلسة وسرعان ما تبدّل أو "تأَنسَنَ" الجو. فالإحساس المرهف لتلك السيّدة بوصلتها في التعامل مع الآخر. إذ أنّ لغة فيروز لا تتشكل من كلمات بل من أحاسيس، وإذا استخدمنا لغة زياد الرحباني، من تلك "الذبذبات" الخفيّة المُختبئة وراء الكلام. هكذا وفي كل اللقاءات اللاحقة، أصبحت بحضرة إنسانة تمتلك مفاتيح تجربتها وتتحلّى بروح الفكاهة والنكتة الساخرة. ولما وضعتُ عدّة الصحافية جانباً بعد مطالبتها بعدم استخدام آلة التسجيل، ولا حتى التدوين بالقلم، صارت الجلسة أكثر شفافية وبساطة. استمعتُ إليها وكلّي إصغاء لصوت يحمل كل مشاعر تلك المرأة - السيّدة وحصاد سنوات عمرها. وعُمر فيروز سفرة عابرة لأزمنة مُتحوِّلة مُتناقضة. فمن بيت متواضع في حيّ زقاق البلاط لم تتوفّر فيه المياه الساخنة، كانت نهاد (فيروز) تغني لابنة الجيران مقابل أن تستحمّ بنعمة المياه الدافئة. وغالباً ما كانت تسترقي السمع إلى راديو الجيران مردِّدةً أغاني أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، لأنّ الراديو كان من الكماليات ولا قدرة مادية للعائلة على اقتنائه؛ إلى كَورس الإذاعة اللبنانية حيث تبنّاها حليم الرومي مسحوراً بصوتها، إلى مَدارات عاصي ومنصور وإبحارها في السفينة الرحبانية مع الأخوين إلى قارات المعمورة، ومع زياد الرحباني إلى آفاق أبعد. أذكرها في أحد اللقاءات تشبّه مسارها الفنيّ بمسار عمّال المناجم الذين لا يملكون إلّا الضوء على خوذاتهم، يجتهدون ويكدّون ليُخرجوا كنوزاً يَجنيها أصحاب المنجم! "يحملني صوتي ولا أحمله. وأينما غنّيت فأنا أغنّي في وطني" في قَولها هذا، رأيت المرآة التي تعكس روحها الفنية ومسارها. فكما الريح في القصب، مرّ صوتها عبر الأجيال والحدود. حمل الوطن وشجونه، والحب وأشجانه. أيًّا يكن الزمن، أكنّا نسمع فيروز زمن الأخوين الرحباني أو فيروز زمن زياد الرحباني، يؤسر صوتها مسامعنا وأحاسيسنا ويوقظ أوتار الوجد والحنين والحلم والضمير والحرية وكلّ ما هو جميل فينا. صباح ومسا يصلنا صوتها من الراديو أو في خلفية مسلسل تلفزيوني أو سهرة أصحاب أو مدوّياً في مناسبة وطنية. هي دائمة في آنِنا لأنّ فيروز لا تُقاس زمنياً ولا عُمرياً، وصوتها لا يُشبهه صوت على الرغم من جهود عدد كبير من الفنانات لـ"تقمّص" صوتها، كأنمّا انطلاقة كل فنانة جديدة يجب أن تمرّ باختبار الصوت الفيروزي. لكنّ صوت فيروز يبقى منفرداً ومتفرّداً! فالقصة، كل القصة تكمن في صوتها. "كلو موجود" فيه كما تجيب زياد أثناء تسجيل أغنية "كيفك إنتَ" في الاستديو. صحيح، في صوت فيروز كل التنويعات الغنائية، الموّال والميجانا والموشّح والميلودي والطرب والأغنية الرقيقة الجازية، كل ألوان الأحاسيس وكل الأسرار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...