تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.
يستمر نضال مجتمع الميم-عين لانتزاع حقوقه ووقف الانتهاكات التي يتعرّض لها، خطوات هامة وكبيرة حققتها الحركات التحررية في العالم بما يخص الجنس والجنسانية على مدى عقود حتى الآن، كان آخرها إقرار قوانين تجرّم القيام بممارسات تصب تحت خانة "محاولات تغيير التوجه الجنسي والهوية الجندرية" في عدد من الدول، منها كندا، فرنسا، ألمانيا وفنلندا.
ممارسات مهينة
ما كان يُعرف في السابق بـ"العلاج التحويلي"، باتت تسميه بعض المؤسسات المعنية بالصحة النفسية "جهود تغيير التوجه الجنسي والهوية الجندرية".
ففي الدراسة التي نشرتها المجلة الأميركية للصحة العامة، اقترحت وضع حدّ لاستخدام مصطلحات العلاج "التحويلي" أو "الإصلاحي" لوصف هذه الممارسات، وتؤكد أن استخدام هذه اللغة تضفي الشرعية على هذه الممارسات اللاأخلاقية بوصفها كـ"علاج"، وتعزز وصمة العار.
كما ذكرت الأكاديمية الأميركية للطب النفسي للأطفال والمراهقين في دراسة لها، أنَّه لا يوجد أي دليل يدعم تطبيق أي "تدخّل علاجي" يستند على إمكانية تغيير أي من التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية أو التعبير الجنسي الرضائي، كما تؤكد الأكاديمية أن مثل هذه "العلاجات التحويلية" تفتقر إلى المصداقية العلمية والمنفعة السريرية.
وفي سوريا، حيث يعيش الكثير من المثليين/ات وثنائيي/ات التوجّه الجنسي والعابرين/ات تحت سلطة المجتمع الأبوي، وحيث الأدوار الجندرية مرسومة للطفل منذ الولادة، تبدأ المعاناة لحظة اكتشاف العائلة التقليدية و/أو المتدينة أن التوجه الجنسي لابنهم أو لابنتهم مختلف عما يريدون.
لا يوجد أي دليل يدعم تطبيق أي "تدخّل علاجي" يستند على إمكانية تغيير أي من التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية أو التعبير الجنسي الرضائي
وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية، قامت بإزالة المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية منذ العام 1990، كما أزالت مؤخراً عبور النوع الاجتماعي من قائمة الأمراض العقلية، إلا أنَّ الكثير من الأطباء النفسيين في سوريا لا زالوا يعتبرونها كذلك، على غرار أستاذ مادة الطب النفسي في جامعة دمشق، الدكتور ثائر حيدر، الذي يتحدث في محاضرة الاضطرابات الجنسية عن المثلية الجنسية كـ"نوع من الاضطرابات"، معتبراً أنها أكثر شيوعاً في السجون وعند "المتخلفين عقلياً".
وبحسب حيدر، فإن المثلية الجنسية بين النساء تعتبر أكثر شيوعاً عند النساء "المثقفات والمحبات للسيطرة"، زاعماً أنه يجب على الأب أن يكون رمز القوة والأم رمز الحنان.
تُعطى هذه المحاضرة لمئات طلاب الطب في كل عام، وهي مثال عن وجهة نظر العديد من أخصائيين الطب النفسي في سوريا، والذين يقومون بممارسات محاولات "تغيير" التوجه الجنسي والهوية الجندرية في عياداتهم الخاصة.
رداً على ذلك، يرى الخبير المستقل المعني بالحماية من العنف والتمييز القائمين على أساس الميل الجنسي والهوية الجندرية، فيكتور مادريجال بورلوز، في تقريره المقدم لمجلس حقوق الإنسان، "أنَّ الممارسات الرامية إلى إخضاع المثليات/ين ومزدوجي الميل الجنسي والعابرين/ات والمتنوعين/ات جنسياً لممارسات العلاج التحويلي هي بطبيعتها أعمال مهينة ولا إنسانية وقاسية وتولد خطراً كبيراً بالتعرض للتعذيب".
مبدأ التنفير
ميار إبراهيم، إخصائي في الطب النفسي، يتحدث لرصيف22 عن الوسائل الأكثر شيوعاً والمتبعة في محاولات "تغيير التوجه الجنسي": "تعتمد محاولات تغيير التوجه الجنسي على مبدأ التنفير الذي يعتمد على الإثارة الناجمة عن مشاهدة أو التفكير بالجنس المماثل، مترافق مع منبّه مؤلم أو منفّر"، وأضاف: "مع الزمن تصبح هذه الإثارة مترافقة مع شعور بالألم أو النفور، وبالتالي تثبط الرغبة الجنسية، بالإضافة إلى وصف أدوية تخفف الرغبة الجنسية كتأثير جانبي، وإضافة الضغط الناجم عن العوامل الدينية والاجتماعية بالحوار".
أمّا عن الانعكاسات والآثار السلبية الناتجة عن تلك الممارسات، قال الدكتور ميار: "تشمل النتائج السلبية لتلك المحاولات زيادة أعراض القلق والاكتئاب عند الشخص غالباً بسبب الفشل بتغيير التوجه الجنسي، إضافة للإحباط الناجم عن تراجع الرغبة الجنسية كتأثير جانبي لتلك المحاولات".
"الممارسات الرامية إلى إخضاع المثليات/ين ومزدوجي الميل الجنسي والعابرين/ات والمتنوعين/ات جنسياً لممارسات العلاج التحويلي هي بطبيعتها أعمال مهينة ولا إنسانية وقاسية وتولد خطراً كبيراً بالتعرض للتعذيب"
وعن الأسباب التي تدفع العديد من الأخصائيين النفسيين للقيام بتلك الممارسات غير الأخلاقية، قال الطبيب: "هذه الوسائل مستخدمة في سوريا وبنسب مختلفة، بسبب القناعات الدينية والاجتماعية التي تجعل الطبيب مقتنعاً أنَّ هذا التوجه الجنسي هو انحراف وبحاجة لعلاج، وعدم اعتراف البعض منهم بإزالة المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، سببه القناعة أن ذلك تمَّ تحت ضغط اجتماعي وليس نتيجة دراسات علمية وطبية حقيقية وموثوقة".
وكشف ميار أن الشخص المعني هو الذي يبادر في العادة بطرح عدم قناعته بتوجهه الجنسي والسؤال عن الحلول المتاحة، في حين أنه يتوجب على الطبيب شرح الحالة كما وردت في المراجع العلمية الموثوقة والدراسات، التي تؤكد أن تغيير التوجه الجنسي هو شيء غير قابل للتطبيق، وأن مخاوف الفرد وقلقه ناجمان عن عوامل اجتماعية معينة.
في هذا السياق، تحدث حسام (اسم مستعار)، وهو أحد الناجين من ممارسات محاولات تغيير التوجه الجنسي والهوية الجنسية عن تجربته مع العلاج: "قضيت سنيناً عديدة وأنا أعتبر نفسي مريضاً نفسياً وبحاجة للعلاج، زرت عدداً من الأطباء، منهم من قام بوصف مضادات اكتئاب وكأن المثلية اكتئاب عابر، ومنهم من وبخني وعنفني وشتمني، وآخرهم من عرض عليّ ما يُدعى ب(العلاج التحويلي) قائلاً: أنا بقدر خليك تصير straight".
وكشف الطالب الجامعي لرصيف22، عمّا مر به من معاناة خلال تلك الفترة: "طُلب مني مشاهدة أفلام جنسية مثلية، وكلما وصلت للنشوة يجب عليّ الاستفراغ، لكي أكره وأشمئز مما أفعل، ثم أحاول إثارة نفسي وأنا أشاهد أفلاماً لفتيات عاريات يمارسن العادة السرية".
وتابع بالقول: "كانت جلسات متعددة، شعرت فيها بالخوف والعار والرهبة. النتائج كانت سيئة، شعرت بالاكتئاب وتدني نظرتي لنفسي والشفقة على نفسي، لم أستطع مقاومة رغباتي الجنسية المثلية، وكلما قمت بمشاهدة أفلام جنسية مثلية كنت أبكي وأجلد نفسي، وكأن إرادتي ضعيفة وأني أعاني من مشكلة".
الترويج للممارسات الخاطئة
يلعب الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً بالترويج لهذه الممارسات، فدائماً ما تلقى الفيديوهات التي تتحدث حول المثلية رواجاً وكثيراً من تعليقات الكراهية والتمييز تجاه مجتمع الميم-عين، كما يلجأ بعض رجال الدين في المواد المصورة التي ينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تكفير وترهيب الأفراد ذوي التوجهات الجنسية المثلية.
وحسب تقرير الخبير المستقل بقضايا التوجه الجنسي والهوية الجنسية، فيكتور مادريجال بورلوز، فإن التداخلات الدينية في هذا النهج تقترن في بعض الأحيان بطرد الأرواح الشريرة.
"أعيش الآن حياة مزدوجة، وأتعالج من الاكتئاب، أظلم نفسي وزوجتي في كل لحظة، ليس ذنبها ولا ذنبي أنَّ شخصاً ما رمانا في هذا العذاب الدنيوي ظناً منه أنّه فتح باب الجنة لنا"
تعرض "جميل" لممارسات محاولات تغيير الميل الجنسي والهوية الجندرية، وعن هذه التجربة قال لرصيف22: "أنتمي لعائلة ومجتمع متدينين، عندما علمت عائلتي بتوجهي الجنسي، تغيرت حياتي وزادت معاناتي التي كنت أعيشها بتأنيب الضمير، طلب أهلي من الشيخ الذي يخطب في المسجد القريب أن يعيد لابنهم (رجولته)، كان الحل برأيه هو تزويجي من فتاة، فاقتنع أهلي، وعندما رفضت، حبسوني في المنزل وجردوني من هاتفي، كان قرارهم إما أن أتزوج أو أن أبقى في المنزل كيلا أجلب لهم العار".
سنة كاملة حُرم فيها هذا الشاب الثلاثيني من إكمال تعليمه ومن حياته الاجتماعية، لكنه في نهاية المطاف خضع لأوامر أهله لكي يستطيع النجاة: "أعيش الآن حياة مزدوجة، وأتعالج من الاكتئاب، أظلم نفسي وزوجتي في كل لحظة، ليس ذنبها ولا ذنبي أنَّ شخصاً ما رمانا في هذا العذاب الدنيوي ظناً منه أنّه فتح باب الجنة لنا".
وكانت 28 منظمة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد أعربت في بيان مشترك عن قلقها الشديد تجاه تفشي "العلاج التحويلي" في المنطقة، وأكدت أن جميع محاولات محو وإفساد هوية أفراد مجتمع الميم-عين له عواقب وخيمة على سلامتهم الجنسية والنفسية، وقد أشار البيان إلى تقرير الرابطة الأوروبية للصحة النفسية التي أوصت الممارسين "بتوخي الحذر عند مواجهتم العملاء/المرضى الذين يطلبون العلاج التحويلي، حيث أن مثل تلك الرغبات غالباً ما تخفي ضغطاً أو مشاكل أخرى".
هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...