في غوغل ستريت، تلتقط كاميرات الغرباء أجزاءً مما نحنُّ إلى رؤيته، وتجمعها، لتصير أشبه ببانوراما الذاكرة: صوراً ضبابيةً، صوراً بألوان مفبركة بزهو مبتذل، صوراً ترى الحزن في جمالها، وصوراً تبعث الحزن من كثرة ابتذالها.
الصور... بوابة الروح إلى الذاكرة، باعت اليوم مفاتيحها لأبولو، إله الأقمار الصناعية. صارت سريعة الحركة، ترعد مثل الطائرات، وتُفتّتُ بانتقام الحداثة مِن صانعها، كل صورة بَهتتْ ألوانُها.
لكن لأننا أبناء المدن البعيدة، نرضى بشرّ كلّ صورة تحملنا آلاف الكيلومترات إلى بيوتنا.
لكن لأننا أبناء المدن البعيدة، نرضى بشرّ كلّ صورة تحملنا آلاف الكيلومترات إلى بيوتنا. ولأننا أبناء المدن البعيدة بات اهتمامنا بخرائط غوغل يقتصر على استعارة العلم مجازاً في إطلاق المشاعر!
في مسافة صوفية بيننا وبين مدننا البعيدة، نتتبّع الطرق في خرائط تتقلص فيها الأرض إلى كرة من رخام أزرق أمام أعيننا. في خرائط غوغل نحاول أن نصدّق وصولنا إلى أي مكان. نتتبّع الخطوط الرقمية، ونسير خلفها، وتتقطع الطرق بنا أحياناً، فنضيء شاشات هواتفنا ليلاً تحت اللحاف، باحثين عن طريق آخرَ ينتظرنا خلف الجدار كي نمشيه.
للأماكن فوق الخرائط الرقمية أشواق الغائبين التي لا تتلاشى بمجرّد محو مربّع البحث، بل تتغير بما يرضي أشواقنا. لكن هل يمكن إرضاء الشوق بخرائط من بيانات رقمية؟ هل يمكن إرضاء الشوق بخرائط نستعير بها معنى لمكان لا زمان له في مكاننا الحاضر؟
لا! لا يمكن إرضاء الشوق بخرائط من بيانات رقمية! فما يقدّم نفسه كصورة مسطحة محايدة تعطينا حرية إعادة بناء علاقتنا مع المدن التي خذلتنا وقتلتنا آلافاً لتطردنا إلى الشمال وتحيينا فُرادى، سرعان ما يتكشف عن نفسه كخليط من الخوارزميات المتشابكة، حسب رؤية من رآها، وحسب زاوية التقاطه صورتها، وحسب الإفراط في فبركة ألوانها وجمالياتها.
للأماكن فوق الخرائط الرقمية أشواق الغائبين التي لا تتلاشى بمجرّد محو مربّع البحث، بل تتغير بما يرضي أشواقنا. لكن هل يمكن إرضاء الشوق بخرائط من بيانات رقمية؟ هل يمكن إرضاء الشوق بخرائط نستعير بها معنى لمكان لا زمان له في مكاننا الحاضر؟
نستطيع اليوم أن نرى العالم بأسره من شاشة هواتفنا، بينما ندير أمكنته بأصابعنا، مثل آلهة ملّت ذهاباً وإياباً في فضاء مليء بالنجوم وبضحكات من رحلوا، وفي سماء لا تعكّر زرقتها الرقمية طائرات المسافرين أو القتلة!
شعورنا بتملّك عين الآلهة هذه، سرعان ما ينسينا أن خرائط غوغل ما هي إلا نتاج تاريخ طويل من دفع أوروبا الاستعمارية إلى خطوط العرض دوماً. منذ أول أطلس حديث للعالم في القرن السادس عشر، وحتى محاولات مسح العالم إلى ما لا نهاية.
ولعل أول صورة للأرض، تلك التي جعلتها تبدو منفصلةً، وجعلتها أكثر عرضةً للسّطو، وجعلت منها كائناً تمكن مراقبة تحركاته، مِن أولئك الذين يستطيعون نشر رؤيتهم الخاصة للعالم، أو أولئك الذين يريدون إلقاء نظرة على العالم، لأن لديهم ما يكفي من المال والسلطة. فأفلتوا الأقمار الصناعية فوقنا وأطلقوا عليها اسم أبولو، فصارت أسطورة الإله حقيقةً، وصار قادراً على النظر إلى الأرض من الأعلى. لكن أبولو الذي يرمز إلى النور والحقيقة -وهما مبدآن أساسيان من مبادئ التنوير- يرمز كذلك إلى عجرفة الإنسان وحبه للتّسلط والتّملك، وتحديداً عجرفة الإنسان الأبيض، الذي أخذ التنوير كمحرك للاستعمار وغزو العالم.
نستطيع اليوم أن نرى العالم بأسره من شاشة هواتفنا، بينما ندير أمكنته بأصابعنا، مثل آلهة ملّت ذهاباً وإياباً في فضاء مليء بالنجوم وبضحكات من رحلوا، وفي سماء لا تعكّر زرقتها الرقمية طائرات المسافرين أو القتلة!
مع انتقال شبق الغزاة من الأرض فالسماء ثم الفضاء، حيث عينه التي لا تشبع من إنشاء البيانات الحسابية لمراقبة الأرض ومسحها وترسيمها وغزوها، باتت للاستعمار عينه الأشرس، أو بتعبير دونا هاراواي: إنها العين التي تريد أن تضاجع العالم!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين