حالة خاصة جداً.
وجدت نفسها في مقتبل مشوارها الفني بين الإمبراطورات، فاتن حمامة وسعاد حسني وشادية وغيرهم/نّ من أيقونات الفن في هوليوود الشرق، فكانت التحديات التي تواجهها بالغة الصعوبة، لكن ذكاء الفتاة القادمة من حي عابدين في وسط القاهرة، جعلها ترسم وسمها وتصيغ شخصيتها الرقيقة بطريقة كفلت لها أرضية واسعة في ساحة الفن السابع، وفتح الطريق لها لدخول البيت المصري من الباب الكبير.
بولا محمد مصطفى شفيق، الشهيرة بنادية لطفي، والتي ودعناها في مثل هذه الأيام من شباط/ فبراير عام 2020، بعد أن زرعت محبتها داخل عيوننا وقلوبنا.
نستعيد اليوم 4 حكايات/ أسرار تسلط الضوء على ملامح بولا/ نادية لطفي النفسية والاجتماعية، القابعة خلف خفة دم و"شقاوة" فتاة الحب والأحلام.
الحكاية الأولى: الاسم
ولدت بولا في 3 كانون الثاني/ يناير 1937، وبدأت مشوارها بالدراسة في المدرسة الألمانية بالقاهرة حتى حصلت على درجة الدبلوم عام 1955.
"لم يخف الزوج من جيرانه المسلمين".
يصف السيناريست مدحت العدل تركيبة المجتمع المصري المنفتحة منذ عقود، عندما وُلدت نادية لطفي، في كلمته على غلاف مذكرات "اسمي بولا": "عندما تكون مسلماً واسمك محمد، ثم تلد زوجتك طفلة جميلة، فتعطيها اسماً مسيحياً هو (بولا)، على اسم الراهبة التي وقفت بجوار الزوجة في معاناتها بالمستشفى القبطي، لم يخف الزوج من جيرانه المسلمين، ولا من وعيد وتهديد إمام المسجد بتكفيره، أو على الأقل الحط من شأنه، هذا ليس دليلاً فقط على عقل الأب المُتنور، ولكنه عقل المجتمع المحترم الذي أوجده... هذا المجتمع المصري الليبرالي الذي لم يكن فقط يقبل الاختلاف في الدين واللون والرأي، بل يحتويهم أيضاً بمنطق الدين لله والوطن للجميع".
اكتشف بولا المنتج المصري الكبير، رمسيس نجيب، رأى فيها صورة مغايرة للملامح المعتادة لنجمات السينما، واختار لها اسمها الفني "نادية لطفي" تيمناً بالشخصية التي قدمتها سيدة الشاشة العربية، فاتن حمامة، في رائعة الأديب إحسان عبد القدوس "لا أنام".
الحكاية الثانية: الديكور
تحكي نادية لطفي في حديث تلفزيوني نادر مع الإعلامي وجدي قنديل في التلفزيون المصري، أنها تتلقى أكثر من مائة خطاب يومياً من معجبيها، تقوم بالرد عليهم/نّ بنفسها.
تحدث لنا الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، مَن قام بتوثيق سيرة نادية لطفي الذاتية، في كتاب "اسمي بولا"، الصادر عن دار نهضة مصر للنشر بالقاهرة، والذي كشف لنا بعضاً مما خفي من حياة نادية لطفي، التي عرفها منها عن قرب.
يقول أيمن الحكيم إن شخصية نادية لطفي كانت استثنائية، شديدة التعلق بكل ما تحبه، اعتزت كثيراً بخطابات شادي عبد السلام إليها، وعلقتها في براويز فخمة بصالون بيتها، الذي كانت تفخر أن ديكوراته من تصميم شادي، ومع مرور الزمن بدأت خطابات شادي تبهت، وتضيع معالمها وحروفها، فاقترحتُ عليها الاستعانة بخبرات مكتبة الإسكندرية لترميمها، وإعادة بريقها.
جاء إلي بيتها صديق لي، يضيف أيمن الحكيم، من مسؤولي المكتبة في أيار/ مايو 2014، وشددت آنذاك في حديثه معه بشأن الحفاظ على الخطابات، وراحت تحكي لي عن علاقتها الطويلة بشادي، وذكرياتها مع فيلم "المومياء".
في اليوم التالي، جاء خبراء في الترميم من المكتبة، سلمت لهم (البراويز) وكأنها تعطيهم قطعة من قلبها، وطوال أسابيع كانت تتابع يومياً خطوات الترميم، وتطمئن على الخطابات، وتلح في سرعة إعادتها، ولم تهدأ إلا بعد أن استقرت خطابات شادي على حائط صالون بيتها من جديد.
الحكاية الثالثة: "الخطايا"
بعد انطلاقة نادية لطفي مع المنتج رمسيس نجيب، شقت طريقها السينمائي وتألقت في العديد من الأفلام، فخطفت الأنظار بجوار السندريلا سعاد حسني في فيلم "السبع بنات"، وتألقت مع الفنان صلاح ذو الفقار في "رجال بلا ملامح"، ليصل عدد أعمالها السينمائية لما يقرب من 75 فيلماً، بالإضافة لمسلسل تلفزيوني واحد هو "ناس ولاد ناس"، ومسرحية واحدة هي "بمبة كشر".
قليلة هي الأزمات التي صاحبت نادية لطفي لتمتعها بالذكاء الذي يجعلها تتجنب المشكلات، لكن عام 1962 شهد احتدام علاقتها مع النجمة سعاد حسني، وجاء ذلك بسبب فيلم "الخطايا".
"عندما تكون مسلماً واسمك محمد، ثم تلد زوجتك طفلة جميلة، فتعطيها اسماً مسيحياً هو (بولا)...." كتب مدحت العدل عن نادية لطفي
كانت نادية لطفي وسعاد حسني، المرشحتان الرئيسيتان للعب دور البطولة أمام العندليب عبد الحليم حافظ، وحسمت جهات الإنتاج الأمر في البداية باختيار سعاد حسني للقيام بالدور، لكن حدثت مفاجأة لم يتوقعها أحد، وهي تصاعد الشائعات في ذلك الوقت عن وجود علاقة غرامية بين العندليب وسعاد حسني، وهو الأمر الذي لم يعجب عبد الحليم حافظ، فقرر إعطاء دور البطولة لنادية لطفي بدلاً من السندريلا.
ترددت نادية لطفي في البداية قبل أن تقرر قبول الدور، مما تسبب في تدهور علاقتها مع السندريلا في ذلك الوقت، لكن علاقة المودة بين الصديقتين انتصرت في النهاية، ومرت تلك الأزمة بينهما في سلام.
الحكاية الرابعة: الموساد
كتب الصحفي فوميل لبيب في مجلة "السينما والمسرح"، عدد شهر إبريل/ نيسان عام 1976، عن نادية لطفي، وقال إن بصمات رحمتها كانت واضحة مع أسر الشهداء عام النكسة 1967، ومع الجنود في الخنادق في سنوات الاستنزاف، ومع أبطال المعارك في نصر "6 أكتوبر"، ثم مع البائسين من أهل الفن، وهي تجمع لصندوق الفنانين ما تستطيع.
كما عملت ضمن فريق المتطوعات في أعمال التمريض بمستشفى المعادي العسكري بعد حرب أكتوبر، إذ أقامت في قصر العيني، وأسعفت الجرحى.
وتكشف مذكرات نادية لطفي "اسمي بولا" العديد من أسرارها الشخصية، ومن أبرز تلك الأسرار ما حكته لأيمن الحكيم عن صراعها ضد جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، على خلفية دورها الوطني في الحرب.
يقول أيمن الحكيم في حديثه لنا إنه فوجئ باستدعاء عاجل من نادية لطفي في شباط الأول/ فبراير 2000، لتخبره فور لقائهما بأنها اختارته ليكون ضمن "أركان حربها" في معركتها القادمة ضد "الموساد".
اسمها، ديكور بيتها، وخطابات صديقها شادي عبد السلام، ومعركتها بخصوص فيلم "الخطايا"... حكايات تكشف شخصية نادية لطفي الكامنة خلف ملامحها "الشقية" وخفة دمها
سحبت نادية من ملف أمامها ورقة، وطلبت مني، الحكيم، أن أقرأها بعناية، كانت قصاصة من جريدة حزبية شهيرة تتضمن تقريراً، نقلاً عن برنامج "صراحة في صراحة" في التلفزيون الإسرائيلي، يؤكد أن جهاز الموساد (المخابرات الإسرائيلية) سرب وثائق جديدة، تثبت أنه قام بتجنيد عدداً من أشهر نجمات السينما المصرية، اشتغلن لحسابه خلال سنوات ماضية، وأنهن زودنه بمعلومات في غاية الأهمية.
"كان أشرف لي لو اتهموني في شبكة دعارة مش شبكة للموساد".
قرأت نادية، واندهشت، وعلقت غير مصدقة: "إيه الكلام الفارغ ده ؟"، لكنها لم تكن مستعدة للتراجع: "ده مش كلام فارغ.. دي خطة مقصودة ومدبرة لتشويه تاريخي، الموساد عارف مين نادية لطفي، وتاريخها، ومواقفها، عاوزين يعاقبوني، الموضوع كبير، ويا أهلاً بالمعارك، كان أشرف لي لو اتهموني في شبكة دعارة مش شبكة للموساد".
ويضيف الحكيم، اتفقنا على تنظيم مؤتمر صحفي بحضور كل النجمات اللاتي سرب الموساد أنهن كن عملاء له (هند رستم، ومريم فخر الدين، وبرلنتي عبد الحميد)، وكلفتني بالاتصال بهن، ولما كلمت هند رستم، وكنت على صلة وطيدة بها، انفجرت ضاحكة، ودخلت في وصلة سخرية، وسيناريوهات متخيلة عن الطريقة التي تم بها تجنيدها كعميلة للموساد، ورفضت أن تعطى الأمر أكبر من حجمه، ورأت أن أفضل طريقة للرد هي التجاهل، ولم يكن رأى بقية "المتهمات" ببعيد عما قررته هند رستم .
يضيف أيمن الحكيم: "كلفت نادية لطفي بعد ذلك محاميها جمال الصاوي بإقامة الدعوى القضائية، التي حملت رقم 4402 لسنة 2000 جنح بولاق، وكانت عريضة الدعوى بمثابة سجل لوطنية نادية لطفي ومواقفها".
ويشير الحكيم في ختام حديثه إلى أن نادية لطفي كانت شخصية عظيمة، مؤمنة بدورها الاجتماعي، ويكفي أنها الفنانة الوحيدة التي غامرت بحياتها، ودخلت بيروت تحت الحصار، لتشد من أزر المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...