بدأت أوطاننا العربية تشهدُ تمدداً كبيراً لما بات يُعرفُ بـ"الرقية الشرعية". لا يخرج المغرب عن هذه الظاهرة التي تحولت إلى مهنة اقتصادية دارّة للدخل. في هذه المادة نستعرض أهم الخلاصات من بحث أنثروبولوجي قام به الباحث المغربي والأستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط، يونس الوكيلي، وعنوانه "أنثربولوجيا الشفاء: الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين".
ظاهرة سلفيّة وهابية
يصعبُ إيجاد تعريفٍ وافٍ لها، إلا عبر كتب السلفية الوهابية؛ إذ إن الكتابة في الرقية الشرعية تخصّص قائم بذاته في الأدبيات الوهابية، وهنا تجدرُ الإشارة إلى أن الرقية يُضافُ إليها نعت "الشرعية"، وفي هذا الصدد يعرّف الشيخ راشد بن حسين، الرقية نقلاً عن لقصير مصطفى في كتابه "مفاهيم الرقية والجن والرقاة"، بكونها "القراءة على المريض مع النفث أو المسح على موضع الألم"، وهي حسب وصفه "مشروعة ونافعة إذا كانت من القرآن والأدعية الصحيحة الخالية من الشرك والاستغاثة بغير الله"، ومن خلال هذا التعريف المقتضب تظهرُ بعض ملامح الهيمنة السلفية لما بات يُعرف بـ"الرقية الشرعية" التي تحولت ليس إلى ممارسة سلفية فحسب، بل إلى اقتصادٍ وهّابي دارٍّ للدخل، فكيف تحولت الرقية الشرعية إلى اقتصادٍ قائمٍ بذاته؟
على الرغم من عدم قانونية "مراكز العلاج بالرقية الشرعية"، إلا أنها منتشرة بشكلٍ كبير، في مختلف المدن المغربية، خاصةً في الدار البيضاء التي قام يونس الوكيلي بدراسة ميدانية فيها، وهنا يوردُ الدكتور الوكيلي لرصيف22، أن "الدولة لا تمنح أي رخص للرقاة الممارسين، الذين يعملون في أماكن يطلقون عليها المراكز/ المعشبات، وهي منتشرة اجتماعياً بجوار المساجد، خاصةً داخل الأحياء الشعبية للمدن المغربية، وخصوصاً تلك التي اتخذت شكل مراكز والتي بدأت تظهر داخل النسيج المجتمعي المغربي"، والتي تتميزُ بمجموعة من السمات التي تعطيها الطابع الاحترافي.
الرقية من البيوت إلى المراكز
يرى الوكيلي أن "بداية ممارسة الرقية الشرعية كانت في البيوت، حيث كان الرقاة يعالجون أحد الأقرباء، أو ينتقلون لعلاج "المسحور" أو "الممسوس" في المنزل، لكن كثرة الطلب على العلاج حتّمت على الراقي أن يخصص أكبر قدر من الوقت للأمر، فكان لا بد من تغيير جوهري في الممارسة؛ إذ لم يعد الراقي يذهب إلى المريض في فضائه "الخاص"، أي المنزل، وأصبح المريض يأتي إلى الراقي في فضائه "العام"؛ وهو ما يحققه المركز"، وهنا يكون الانتقال من البيوت إلى المراكز كفضاءات مكانية يوازيه انتقال من حركة الراقي في اتجاه "المريض"، إلى حركة "المريض" في اتجاه الراقي"؛ وهي حسب الوكيلي "المسار الطبيعي الذي عبْرهُ يتحولُ نشاط ما إلى مهنة".
وكعادة المنهج السلفي الوهابي في تأصيل التصرفات الاجتماعية اعتماداً على نصوص القرآن والحديث، لم يكن افتتاح المراكز العلاجية ليُتقبل بكل سهولة، فقد رافق افتتاحها جدل فقهي حول جوازها الشرعي؛ إذ لم يُعرف عن السلف تخصصهم في علاج أمراض السحر والعين والمسّ وتخصيص أمكنة خاصة بذلك، غير أنه بعد انتشار ظاهرة العلاج بالقرآن الكريم في الآونة الأخيرة، أصبح هذا يثير قلق علماء السلفية من جعلهِ غير مؤطرٍ بالطرح السلفي، ما دفع إلى طلب فتاوى منهم أجازت الأمر.
يعملون في أماكن يطلقون عليها المراكز/ المعشبات، وهي منتشرة اجتماعياً بجوار المساجد، خاصةً داخل الأحياء الشعبية للمدن المغربية. الرقية الشرعية ظاهرة منتشرة في المغرب
وهنا يعلّقُ الوكليلي قائلاً: "من الواضح أن الأثر النبوي الذي أوردته الفتاوى لا يدل إلا على أخذ الأجر، في حين كان سؤال المستفتي يتضمن حيثيات كثيرةً، لكن يبدو من الفتوى أن مشروعية المقابل المالي استتبعت الترخيص في افتتاح محل متخصص على الرغم من أن الحديث لا يتحمل هذا الاستتباع، كما أن المبررات الاجتماعية التي ساقها المستفتي (التدين، المرض، كثرة الطلب على الرقية، ضيق مساحة المنزل)، جعلت الفتوى تجيز فتح المحل/ المركز"، ثم يضيف: "وهنا نلاحظ خروجاً عن المنهجية النصية الحرفية، فالفتوى إذا بُنيت على المصلحة المرسلة، إذا شئنا استعمال مصطلحات الأصوليين".
المبررات الواقعية لافتتاح محل للرقية الشرعية والحجامة التي يقدّمها علماء الوهابية، لا تختلف عن المبررات والشروط التي ساقها الرقاة في مدينة الدار البيضاء، خلال البحث الميداني الذي قام به الوكيلي، والتي تؤكدُ ضرورة المقابل المالي لسد الحاجات اليومية في الحياة، وعدم ملائمة البيت للرقية بسبب التضييق على مصالح أفراد أسرة الراقي، وضرورة التفرغ والتخصص في الرقية الشرعية لقطع الطريق على المشعوذين، وكل هذه المبررات تُعدّ عناصر رئيسةً وسداً لتبرير افتتاح مراكز متخصصة للعلاج بالرقية الشرعية في تصور الرقاة.
الرقية الشرعية... ومبررات الأجرة
سبق أن رأينا أن افتتاح محل خاص بالرقية الشرعية، يقتضي بالضرورة تخصص الراقي وتفرغه، نتيجة ما يتطلبه المحل من نفقات؛ رسوم الإيجار والمصاريف، كما أن هناك رقاةً افتتحوا محال داخل بيوتهم، من خلال تخصيص غرفة خاصة لاستقبال المرضى وعلاجهم؛ من هنا بات تحديد الأجر أمراً ضرورياً، ومبررات ذلك حسب الوكيلي "واقعية ترتبط بالرغبة في تحقيق الأمن المهني"، إلا أن حديث الرقاة عن الأجر لم يعد موضع جدل، وذلك لسببين أساسين حسب ما أدلى به الوكيلي: الأمر الأول يتمحورُ حول نظرة الراقي إلى خطورة العمل الذي يقوم به، لذا فإن العائد المالي الذي يتقاضاه، يراهُ ضرورياً، فالراقي يرى نفسهُ "يخوض معركةً ضاريةً مع الجن الذين تسلطوا على المريض، فنكّدوا عليه حياته، وأفسدوا عليه دينه، ونغّصوا عليه عيشه"، حسب تعبير أحد الرقاة، لذا فإن التعويض المالي ضروري. أما الأمر الثاني، فضرورة تلبية الراقي لحاجاته اليومية، على الرغم من أن التمثل السائد هو أن قراءة القرآن لا ينبغي أن يقابلها أجر مالي، وذلك على ضوء الآية "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً".
ثمن قليل... سعر باهظ
دار حديث حاد في أثناء لقاء يونس الوكيلي مع شخص يلجأ إلى الرقاة، بالبعض منهم، واستغرب هذا الأخير المبالغ التي يطلبونها، ويورد الباحث الحديث في دراسته مشيراً إلى أن أحد الرقاة برر لجوء "زميل" له إلى المبالغ المرتفع قائلاً: "كان يجري الرقية في البداية، بمبلغ 1،500 درهم (150 دولاراً)، تشملُ الرقية وبعض الأعشاب، وبعد ذلك أصبح يحدد المبلغ بـ3،500 درهم (360 دولاراً)، فيها حجامة وأعشاب وعلاج، وأصبحت ثلاث جلسات فقط، إذا خرج الجن، أما إذا لم يخرج فلا يهم، فالله هو الذي يشفي".
وفقاً لهذا الحوار الذي خصّ به الأنثروبولوجي يونس الوكيلي رصيف22، من عمله الميداني، يظهرُ جلياً كيف أن سوق الرقية بات باهظاً، ولكن هل حالة الراقي مقياسٌ لثمنِ الرقية في المغرب؟ إذ إن هذه المبالغ لا تقوى عليها الطبقتان المتوسطة والفقيرة في المغرب، وهو ما يظهرُ لنا تمدد الرقية عند الطبقات الغنية التي لطالما اتسمت بكونها ليبراليةً، ولكنها أفرادها باتوا زبائن أوفياء لهذه المراكز "الوهابية".
ولكن إن كانت حالة الراقي استثنائيةً، وتخص طبقة الأثرياء من مرتادي الرقية، فما الذي خصصه الرقاة للمغاربة الفقراء؟
الرقية الجماعية بضاعة الفقراء
في الحقيقة إن حالة الراقي المذكور استثنائية، فأجرة الرقية في المتوسط في المغرب أقل. وفقاً للوكيلي فإن الراقي أبو محمد مثلاً، يحّدد ثمن الحصة الواحدة الفردية بمئة درهم (11 دولاراً)، وخمسة دولارات إضافية لشراء الأعشاب والزيوت، أما الرقية الشرعية الجماعية فتُحدد بخمسين درهماً (ستة دولارات) للفرد، وعشرين درهماً (ثلاثة دولارات)، من أجل الحصول على "ماء القرآن" الذي يصفهُ الراقي للمريض، ويرى الوكيلي أن رقاةً، يبلغُ دخلهم الشهري من الرقية، نحو 20 ألف درهم (2،060 دولاراً)، وفق أقل تقدير، فكل يوم يؤدي كل مريض مبلغ 50 درهماً (ستة دولارات)، كما يستقبل كل أسبوع نحو 15 شخصاً من دون احتساب اقتناء الماء المرقي (ماء القرآن)، للاغتسال في البيت وكذا البخور، وكل منهما يبلغ ثمنهُ 30 درهماً (أربعة دولارات)، والماء والبخور لا يأخذهما كل المرضى، لذلك قدّر الوكيلي المبلغ الشهري المحصَّل بألفي دولار كحد أدنى.
"كان يجري الرقية في البداية، بمبلغ 150 دولاراً، تشملُ الرقية وبعض الأعشاب، وبعد ذلك أصبح يحدد المبلغ بـ360 دولارا". السوق المزدهرة للرقية الشرعية في المغرب
إن الرقية الشرعية الجماعية لها نصيب كبير من الجانب المالي، إذ يورد الراقي نجيب، لرصيف22، أن "الراقي يمكنه أن يقرأ على 40 مريضاً دفعةً واحدةً، في مدة زمنية لا تتجاوز الثلاثين دقيقةً، بنحو 50 درهماً للشخص (خمسة دولارات)، أي أنه سيحصل على دخلٍ يُقدّر بألفي درهم (200 دولار)"، ثم يضيف نجيب أنه "لو قرأ على كل شخص 20 دقيقةً بمفرده، فإن ذلك المبلغ سيحصّله في نهاية اليوم".
إلا أن هناك حالةً تفصيليةً أوردها لنا الدكتور الوكيلي، وهي حالة راقٍ يضعُ جدولاً ينظّمُ فيه المقابل المالي حسب كل حالة "مرضية"، فهو يقول إن هناك "حالاتٍ تستغرق مدةً طويلةً للعلاج، تصل إلى ألفي درهم (200 دولار)، وإلى خمسة آلاف درهم (500 دولار)، وهذه يكون فيها الانتقال إلى بيت المريض ومتابعته. أما الرقية التي تكون في مركز الراقي لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة، فثمنها يبلغُ 50 درهماً (خمسة دولارات)، أو 30 درهماً (ثلاثة دولارات)، بالإضافة إلى اقتناء قنينة زيت الزيتون أو الحبة السوداء، وأحياناً الماء أو البخور، في بعض الحالات، وترتفع كلفة الرقية الشرعية عندما يتعلق الأمر بـ"السحر المدفون"؛ إذ يتطلب الأمر الانتقال إلى عين المكان من أجل استخراجه/ إبطال السحر، ولكن في الغالب فإن الراقي يقوم فقط بدلّهم على المكان"، ومن هنا تظهرُ لنا الفروق الكبيرة بين سلع الرقاة وخدماتهم لزبائنهم الأغنياء، وسلع زبائنهم الفقراء وخدماتهم، والمحرك للأمرين الربح من الطرفين.
سوق مزدهرة
هذه الوفرة في العرض، المرفقة بارتفاع السعر، ووجود سلع جانبية مثل البخور وماء القرآن وكذا الأعشاب وغيرها من الأمور، جعلت من الرقية سوقاً مزدهرةً دارّةً لدخلٍ كبير على أصحابها، وهو ما ساهم في تكاثرهم وتنظيم أماكن عملهم، وهو ما رصده الوكيلي حينما تحدث عن التنظيم الهيكلي للمراكز داخلياً، باعتماد الرقاة المساعدين وأيضاً سكرتارية تنظّم المكان والمواعيد، ومساعدٍ يُعنى بمواقع التواصل الاجتماعي والتسويق لمحتوى الراقي، وإيصال أفكار أسطورية عنه مرتبطة بقدرته على شفاء المرضى، وهو ما يجعلنا نشهدُ تحولاً من ارتياد المغاربة للزوايا طلباً للبركة والشفاء، إلى ارتيادهم لمراكز الرقية للغاية نفسها، مع كل ما يحمله هذا الانتقال من الخطاب الصوفي نحو الخطاب الوهابي السلفي الذي يتمدد في المغرب بفعل أمور عديدة، إحداها هذه المراكز التي تنتشرُ بشكلٍ كبير في أمكنة محددة بالقرب من المساجد وفي الأحياء الشعبية، تنشرُ الخرافة وتديّناً جديداً بين المغاربة، بشكلٍ فعّال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 21 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت