شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
فنّ وعبادة... أسرار عالم الهيمنة الجنسية

فنّ وعبادة... أسرار عالم الهيمنة الجنسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 22 فبراير 202204:04 م

مضى عام ونيّف على تأسيس انتصار توفيق (اسم مستعار) لإمبراطوريته المصغّرة في مجال الجنس الهاتفي، حيث تسلّق السلّم الوظيفي من عاملٍ عادي إلى "باترونا". يدير انتصار إلى جانب دراساته وعمله الأساسي ككاتب قسم الرجال في موقع عالمي يقدّم خدمة الجنس الهاتفي. وبما أن هذا الموقع غير متوفّر لأرقام الهاتف والمصارف العربية، يقوم الأخير بتأمين أرقام من أجل تلقي الاتصالات، كما أنه المسؤول عن إدارة الموارد البشرية وتوزيع الأموال- من خلال التبادلات الرقمية- وعن تنظيم ورشات عمل وتدريبات للعمال الجدد.

فنّ الفيندوم

بالرغم من أن لا مانع لديه بتسمية ما يمارسه بـ"الدعارة"، يشير انتصار إلى ضرورة التمييز بين الدعارة وبين ما يسمى بالـ financial domination(فيندوم)، تخون الترجمة العربية المعنى إن افترضنا أنه "السيطرة الماليّة"، لكننا أمام نوع من الفيتيش الذي يستمدّ صاحبه اللذة الجنسية من الخضوع مادياً وإنفاق المال على الشريك الجنسي.

 يفضل انتصار، الحائز على أكثر من شهادة جامعية، وصف ما يفعله بالفنّ، كونه يتطلّب جهداً إبداعياً وتخيلياً عظيماً من أجل خلق وتأدية "بيرسونا-دور" يناقض شخصيته الحقيقية.

يحمل تقبيل القدمين بالنسبة لانتصار، معانٍ وأبعاداً تتخطى الجنس والمال. إذ لم يكن سبب ممارسته للهيمنة الجنسية منذ حوالي 8 سنواتٍ هو تحقيق غايات اقتصادية، بل كان الأمر في البداية مجانياً، لأن الهيمنة كانت تشعره بالثقة والقوة

التقينا في رصيف22 مع انتصار، الذي يؤكد أنه، قبل كل شيء، كاتب، وخلق البرسونا واحد من أسس الكتابة الإبداعية، ويستطرد زاعماً "لديّ قدرة على الارتجال، وأعرف ما يجب أن أقوله وبأي نبرة، نبرة كفيله بجعل زبائني يركعون أمامي ويتوسلون لي لتقبيل قدميّ".

يحمل تقبيل القدمين بالنسبة لانتصار، معانٍ وأبعاداً تتخطى الجنس والمال. إذ لم يكن سبب ممارسته للهيمنة الجنسية منذ حوالي 8 سنواتٍ هو تحقيق غايات اقتصادية، بل كان الأمر في البداية مجانياً، لأن الهيمنة كانت تشعره بالثقة والقوة.

ويشرح انتصار واصفاً نفسه: "أنا انسان لطيف يعي ضعفه وهشاشته، لكنني في هذه الشخصية المهيمنة أدّعي السلطة والجبروت كنوع من' فشة الخلق 'وتفريغ كل ما كان مكبوتاً داخلي خلال سنوات ركودي الجنسي. أشعر اليوم أنني أنتقم عن سنوات تهميشي. أنتقم عن جدارة وليس عن خبث".

لطالما شعر انتصار، خلال نشأته ونظراً إلى طبقته الاجتماعية وهويته الجندرية غير الممتثلة للقواعد وللأعراف الثقافية، بأنه أسفل الدرك الاجتماعي. لكن بمجرد وأن بدأ بممارسة الهيمنة  "أصبح فوق فوق"، على حدّ تعبيره، ويتابع قائلاً: "من كان ينظر لي بدونية من قبل صار يركع أمامي ويقبّل قدميّ. أتحدث عن ناس وسيمين ولديهم الكثير من المال. إنه شعور رائع. أنصح الجميع أن يختبروه ولو مرة في حياتهم".

خلافاً لكثير من زملائه الذين دخلوا عالم الجنس الهاتفي، بدأ انتصار مسيرته في العمل الجنسي التقليدي. والإشكاليّ في تجربته أن تعرّفه على الجنس جاء متأخراً، بعمر الاثنين وعشرين عاماً، وكان من خلال هذه الشخصية المهيمنة، فأضحى حبيس هذه الشخصية لفترة ليست بالوجيزة، ويعقب قائلاً: "ظننت أني لا أستطيع ممارسة الجنس إلا من خلال هذه الشخصية، وقد عرقل ذلك حياتي الرومانسية بعض الشيء".

الهيمنة الجنسية... صلاة وعبادة

على السطح، قد تبدو الإثارة الجنسية الغاية الأساسية، وربّما الوحيدة، من الهيمنة الجنسية، لكن إثر تأمّل ثقافة "الفيندوم"، يمكن للمرء تلمس التجليات السياسية والدينية والثقافية للرغبة، التي تفضح الكثير عن البشر وعن حاجاتهم النفسية التي يتم التعبير عنها عبر فيتيشات مرتبطة بالعرق واللغة وديناميات القوة... الخ، إلى جانب قدرات البعض التي تجعلهم يبرعون في هذا العمل، إذ يستفيد انتصار أيضاً من أثنيته وهويته العربية المرغوبة كنوعٍ من الفيتيش، لا سيما في البلد الذي يتواجد فيه.

يتحدث انتصار عن زبونٍ له يحبّ أن يُذَل باللغة العربية حصراً، رغم أنه لا يفقه منها شيئاً، لكنها تشعره بالسلطة والقوة الممارسة عليه. ويذهب بعض الزبائن أبعد من ذلك في خيالهم السياسي الجامح، فيحكي انتصار عن زبونٍ يوناني يحلو له تخيّل أنه "سجادة عند العرب، وأنني طاغية عربية تغزو بلاد اليونان وتستعبد نساءها".

بداية الأمر، كان انتصار يصحب معه دفتراً إلى جلسات الهيمنة الجنسية ويطلب من شريكه الجنسي أن يدوّن ما شعر به خلال الفعل الجنسي: "أردت أن أعرف ما الذي يشعر به الشخص الخاضع جنسياً وأن أستخدمه في كتاباتي".

وبعد تجربة طويلة في هذا المجال، يستنتج انتصار أن الميل إلى الخضوع مردّه إلى حاجة البشر للعبادة والاستسلام لشيء أكبر منهم، فزبائنه يلقبونه بـ"الإله"، هم لا يعبدونه شخصياً، بل يعبدون ما يمثّله، أي "الرجولة والقوة،" يوضّح قائلاً: "الأمر أشبه بالصلاة، لكن المتعة معي أكثر فورية، ونحن في عصر السرعة والناس يريدون نتيجة فورية لصلاتهم".

يشير انتصار أيضاً إلى أن بعض زبائنه، وفور انتهاءهم من الجلسة، يقومون بتغيّر صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي ووضع آية قرآنية أو صورة لمريم العذراء على سبيل المثال. ويرى "أنهم يشعرون بالذنب طبعاً، لكن الأمر مرتبط أيضاً بسعيهم خلف تجارب روحية تشعرهم بالقدسية".

أما عن زبائنه اللبنانيين، فيقول بشيء من المزاح: "هؤلاء تحديداً يحبون الذلّ أكثر من غيرهم، ربما لأنهم اعتادوا على الذل بصورته السياسية".

"السيكستنغ في زمن الحرب السورية"

بالرغم من أن دخول انتصار عالم "الفيندوم" لم يكن بهدف المال، لكن "الفنان، مهما فرِح بعمله، عليه أن يعتاش منه في نهاية المطاف"، على حدّ تعبيره،  هذا ما دفعه في أوقات الشدة الاقتصادية إلى طلب المال لقاء الخدمة التي يقدّمها، والتي أمّنت له "حياة كريمة" عند انتقاله للدراسة في كوريا الجنوبية.

وعند بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان وتردي الأوضاع المعيشية، لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أفقد كثراً مسكنهم، أراد انتصار مساعدة أصدقائه الذين يعانون من العنف الاقتصادي، إضافةً للعنف المجتمعي الممارس ضدّ أفراد مجتمع الميم-عين من قبل أسرهم.

 يرى انتصار أنه "مع اشتداد الأزمات على أنواعها في لبنان وشعور الناس بالعجز أمام الظلم الممارس بحقهم، أراد الكثيرون إيجاد  كبش محرقة ومكان يصبون فيه غضبهم وإحباطهم. هذه الحلقة الأضعف هي عادةً المثليين/ات، رغم أن لا يد لهم/نّ بما يحصل. أما الجمعيات غير الحكومية فهي غير قادرة على استيعاب الاحتياجات المتزايدة، ثم أن مجتمع الميم-عين لديه ما يكفي من الكفاءات ولسنا بحاجة للتسوّل من الاتحاد الأوروبي".

من هنا، شكّل عرض العمل الذي قدّمه انتصار لهؤلاء سترة نجاة، وخلال عام تعاظمت إمبراطوريته وتوسع نطاقها لتضم أناساً من بلدان عربية مختلفة، من بينهم "أمهات وآباء وموظفي دولة وقطاع خاص... الخ". إلا أنه يرفض توظيف لبنانيين منتمين إلى الأحزاب السياسية التي يرى أنها أودت البلد إلى الانهيار، قائلاً: "فليشحذ هؤلاء من زعمائهم. لا عمل لديهم عندي".

كحال أي مجال مهني آخر، يواجه عامل/ة الجنس الهاتفي أسئلة أخلاقية تضعه أمام صراعٍ بين تلبية مصلحته الشخصية المتمثّلة بكسب المال، والحرص على مصلحة الزبون والإحجام عن استغلاله. إحدى مظاهر الهيمنة الجنسية أن يقوم الشخص الخاضع بتبذير الأموال لإرضاء "السيّد" الجنسي، وقد يصل الأمر بالبعض إلى تبديد كل ما يملكونه، خصوصاً إذا كانوا يشعرون باليأس أو يمرّون بحالةٍ نفسية صعبة تدفعهم إلى التعويض بهذه الطريقة. هنا يجد انتصار نفسه مجبراً على التدخّل لمنع الزبون من اقتراف خطأ كهذا.

لكنه، وبالرغم من ذلك، يؤكد على رفضه الانصياع للسلطات الأخلاقية التي لا يمكن فصلها عن السياسة. "الأخلاق بالنسبة لمن؟"، يتساءل. "أميركا أم الصين أم أي من القوى التي تحكم عالمنا؟". أما في منطقتنا، فقد كان جيلنا شاهداً على السقوط الأخلاقي المدوّي لمجتمعات رازحة تحت حكم الديكتاتور والمستعمر. فهل يحقّ لمن يبيح الحرب والعنف والاستغلال أن يضع شروط الجنس الأخلاقي؟

يهزأ انتصار من إقحام الأخلاق في ميدان الجنسانية، قائلاً: "أصلاً عن أي أخلاق نتحدث؟ إنه السيكتينغ في زمن الحرب السورية".

الخضوع كوسيلة للتحرّر

في المقلب الآخر، هناك كميل، الذي ينجذب للذكور والإناث ويبدّل بين الوضعية السلطوية والخاضعة. في مقابلةٍ مع رصيف22، يشرح كميل أن اندماجه في الدورين- الإيجابي والسلبي- قد ساعده على فهم ديناميات القوة التي تنطوي عليها العلاقات الجنسية. "ثمة هيمنة في الخضوع، وخضوع في الهيمنة. الأمر برمّته قائم على التناقض"، وفق كميل.

باستغنائه عن سلطته بإرادته، يشعر كميل أنه في موقع السيطرة بشكل أو بآخر. ويقول: "حين أتخذ وضعية الخاضع، أختبر متعة التخلي عن السيطرة التي يلزمنا بها المجتمع كرجالٍ، ما يمنحني شعوراً بالتحرر. ثم أن الفعل كلّه بمثابة أداء، ليس فقط بالنسبة للشخص المهيمن، بل بالنسبة للخاضع أيضاً. فالشخص يكون خاضعاً فقط في ادعائه هذا الخضوع".

ليست خدمات الجنس المدفوع وسيلة كميل المفضلة للحصول على اللذة، كونها تتمّ ضمن أطر رأسمالية لا يحبّذها. الا أنه يلتمسها بين الحين والآخر، ويبرّر ذلك بالقول: "الفيندوم يضفي بعض الواقعية على فانتازيا الخضوع، خصوصاً حين يتمّ الأمر عبر الهاتف أو الإنترنت، فيمتزج الخيال بالواقع. إنه جنس ميتافيزيقي إن صح القول، لكن المال يعطيه بعداً مادياً".

يتحدث انتصار عن زبونٍ له يحبّ أن يُذَل باللغة العربية حصراً، رغم أنه لا يفقه منها شيئاً، لكنها تشعره بالسلطة والقوة الممارسة عليه. ويذهب بعض الزبائن أبعد من ذلك في خيالهم السياسي الجامح، فيحكي انتصار عن زبونٍ يوناني يحلو له تخيّل أنه "سجادة عند العرب، وأنني طاغية عربية تغزو بلاد اليونان وتستعبد نساءها"

أحياناً لا تكون هذه الرغبة جنسية فحسب، فالأمر مرتبط بحاجة الشخص الخاضع لإرضاء الآخرين، لا سيما الشريك/ة الجنسي/ة، كما هو حال تامر. يحكي لنا تامر عن تجربته في عالم الفيندوم مستذكراً: "في البداية، لم أكن أفهم رغبتي جيداً، كنت أحبّ إنفاق المال على الآخرين وشراء الهدايا لهم من أجل إرضائهم، وإن لم أكن أحصل على الجنس في المقابل. لا يزال الأمر كذلك اليوم، لكن في إطار الفيندوم. أنفق الكثير من المال، وأحصل أحياناً على الجنس لكن ليس دائماً. إلا أن ذلك كافٍ بالنسبة لي، فمتعتي الحقيقية هي في دفع النقود".

يقوم تامر مرات بإعطاء شريكته الجنسية كلمات المرور لحساباته المصرفية كنوع من الخضوع الكلي. فالرجال، بحسب رأيه، يرغبون عادةً بامتلاك جسد المرأة، "أما أنا فأرغب بتحقيق رغباتها،" يقول تامر، ثم يضيف مصوباً: "رغباتها المادية على وجه التحديد". لكن في الأمر مخاطرة طبعاً، ولذلك يحاول تامر عدم التهور والانجرار خلف الرغبة القهرية بإعطاء وتبديد كل ما يملك، فيحاول بناء أرضية من الثقة والتفاهم قبل أن يقدم على تسليم نفسه وحساباته المصرفية بالكامل للشريكة الجنسية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image