تندرج هذه المادة في "ملف عيد الحب".
ليست الرأسمالية ضد الحب، وإنما تؤيده وتحرض عليه، بل وتخلقه أيضاً عبر تهيئة كل الظروف والأجواء التي تحيط به. لكنها إذ تفعل ذلك، لا يعنيها الروحي والعاطفي في ذاته، وإنما استغلال هذا الروحي والعاطفي لتنمو وتزدهر، شيء يشبه اختراع الصين لفوانيس رمضان للدول المسلمة، فالاختراع بحد ذاته بلا معنى، ولو أراد الزبون بدل الفانوس زجاجة ماء بورود صناعية ليحتفل برمضان لصنعت له الصين هذه الزجاجة.
بالمنطق ذاته، تخترع الرأسمالية الدباديب، جوابات الحب، أعياد الميلاد وأعياد الحب، الأغنيات والموسيقى التي تؤجج المشاعر، تنتج الأفلام والمسلسلات، تنشر كتاب "أفضل مئة خطاب حب على مر التاريخ"، وتدعم كتب التنمية البشرية أو الكوتشينغ، كل ذلك بدأ أولاً من قلوب محبة وقصص عشق صادقة، تلقفتها ماكينة البيزنس لتطوّرها وتغلفها وتزينها وتقدمها لنا في علب هدايا.
من ساحر القرية إلى الكوتش
لجأ المحب القديم للقوى الغيبية لاستمالة قلب محبوبه، توجّه إلى السحرة والمشعوذين، واحتفظ بأحجبة المحبة، علّقها في ثوبه الداخلي أو وضعها تحت المخدة. لم يتردد في رشّ السحر سائلاً على باب بيت الحبيب، ليخطو فوقه فيقع في الغرام، أو دسه في طعامه ليسير في جسده ويطرق قلبه من الداخل. اخترع السحرة كل الحيل الممكنة لإخضاع الحواس، واستهدفوا الجسد كمنفذ للروح لاستمالتها بالتمائم والتعاويذ، مقابل بضعة دراهم أو جنيهات.
بوكس "طقس جلب الحب" يباع على Etsy
ما بين بداية الحب والفراق، بيزنس كامل من الأفلام والأغاني والكتب والشعراء والنجوم والدباديب الكيوت التي تحضن قلوباً حمراء
وما بين بداية الحب والفراق (الذي يتفاقم فيه الحب وأحياناً يولد بعده عند أحد الطرفين)، بيزنس كامل من الأفلام والأغاني والكتب والشعراء والنجوم والدباديب الكيوت التي تحضن قلوباً حمراء. ولا ننسى أيضاً الأطباء النفسيين وتلك النسخة الرديئة منهم، المتجسدة في شخصية الكوتش وأخصائي التنمية البشرية الذي يصول ويجول في مواقع التواصل الاجتماعي دون شهادة علمية في أي مجال.
الكوتشينغ كابن حزم الألفية الجديدة
يشير ابن حزم في "طوق الحمامة"، في باب السلو، إلى حالات المحبين بعد الفراق، ويقسّم السلو إلى "طبيعي"، وهو المسمى بالنسيان وكأن الإنسان لم يحب، والتطبعي وهو التصبّر، وفيه يتجرع المحب مرارات الصبر. في السلو الطبيعي لا حاجة للمحب إلى شيء، إذ إنه "صاحب دعوى زائفة، طالب لذة، مبادر شهوة"، أما التطبعي فهو الذي من أجله تهيأت الدنيا لإنقاذه، وفكّر الجميع فيه، وصار المستهدف من بيزنس الفراق.
وراء مشاعر الألم والهزيمة جيش من المستفيدين، هي طبيعة الحياة، لكنها أيضاً سوق لا ترحم، تتغذى على تجربة الإخفاق والألم... بيزنس الفراق
هنا يأتي دور الطبيب النفسي، اليد الممتدة لإخراج المحب من بئر سوداء. يمنح الطبيب للمحب رؤية أعمق وأبرح لفهم حياته، بما فيها العلاقة الخارج منها حديثاً، لكن الأهم قدرته على الاستماع، ما يمنح "المريض" الفرصة للفضفضة دون خوف من الأحكام، وثمة أيضاً الدواء الكيميائي لعلاج نوبات القلق والاكتئاب وتجنب التفكير في الانتحار. بذلك يعمل الطبيب النفسي على جانبين: مستوى الأفكار لمنح زاوية رؤية جديدة تمكّن المعتلّ من استيعاب الصدمة، والدواء لتحمل ما لا طاقة له على تحمّله.
ربما تراجعت صورة المعالج النفسي مؤخراً، وانحصرت في الحالات المستعصية، ليحل محلها الكوتش الكوول، مدرب التنمية البشرية الذي يمنح الثقة في النفس ويقدّم الحلول في كبسولات سهلة ووصفات فضفاضة تصلح للجميع، أو المتخصص في العلاقات الأسرية الذي يلجأ إليه الشريكان أثناء تأزم العلاقة أو تحطّمها، ورغم إدراكهما للنهاية الوشيكة إلا أنهما لا يرغبان في الخلاص، أو لا يرغب أحدهما في ذلك. ويعمل المتخصص هنا كمترجم لسوء الفهم وللغة صارت مجهولة ومبهمة بين الطرفين، كي يبني من الذكريات والأطلال علاقة جديدة.
وراء مشاعر الألم والهزيمة جيش من المستفيدين، هي طبيعة الحياة، لكنها أيضاً سوق لا ترحم، تتغذى على تجربة الإخفاق والألم. لا أحد ينكر أهمية الطبيب النفسي ولا أخصائي العلاقات، ولا الساحر ولا قارئة التاروت، فكل ما يمكن أن يخرج الإنسان من مستنقع الاكتئاب مُرحب به، لكن ما المنطلق الأساسي وراء هذا الإنقاذ، وإلى أي مدى كان المحب على مر التاريخ وتنوع الثقافات فريسة لهذه اليد "البيضاء" التي حاولت انتشاله من الظلام مقابل المال؟
في طوكيو عام 2016، تأسس فندق من أجل البكاء، مرتادوه من أصحاب القلوب المكسورة الذين، لتعقيد حياتهم، لا يجدون مكاناً يبكون فيه. غرفة البكاء غرفة فندقية عادية لكنها مزودة بـ 12 فيلماً مسيلاً للدموع، وبمجموعة من الكتب المنتقاة بعناية لتسهيل التخلص من الألم المكتوم
غرفة فندقية للسيلف كير
في طوكيو عام 2016، تأسس فندق من أجل البكاء، مرتادوه من أصحاب القلوب المكسورة الذين، لتعقيد حياتهم، لا يجدون مكاناً يبكون فيه. غرفة البكاء غرفة فندقية عادية لكنها مزودة بـ 12 فيلماً مسيلاً للدموع، وبمجموعة من الكتب المنتقاة بعناية لتسهيل التخلص من الألم المكتوم. الاختيارات تتوقف عادة على مجموعة أسئلة سهلة مُعدة سلفاً، وقائمة بالكتب والأفلام المناسبة لكل حالة، ربما تخص أسباب الفراق أو حالات الألم.
لا أحد ينكر أهمية الطبيب النفسي ولا الساحر ولا قارئة التاروت، فكل ما يمكن أن يخرج الإنسان من مستنقع الاكتئاب مُرحب به، لكن ما المنطلق الأساسي وراء هذا الإنقاذ، وإلى أي مدى كان المحب على مر التاريخ وتنوع الثقافات فريسة لهذه اليد "البيضاء" التي حاولت انتشاله من الظلام مقابل المال؟
متحف العلاقات المحطمة
العناية بالمحبين المهجورين دفعت إلى تأسيس "متحف القلوب المكسورة" من أجل التخلص من الذكرى، هذا التخفف من الألم عبر محو ما يجسّد الحب، وفي نفس الوقت الشعور بمشاركة آخرين للألم نفسه. يقول المتحف بلوس أنجلوس: "أحياناً تنتهي العلاقة مع أزواج، عشاق، أشخاص أعزاء، مع أحلام أو مع مدن. إن كنت تريد التخلص من هذا العبء العاطفي، وإلقاء كل ما يذكرك به في القمامة، فلا تفعل. هبه لنا".
وفي شهور قليلة، جمع المتحف آلاف الهدايا من الولايات المتحدة، آيرلندا، إسبانيا، المكسيك. وتنوعت بين فساتين زفاف وورود وأوراق يانصيب. يمكن أن تعكس هدايا المحبين كل ثقافة، كما تعكس شخص المحب كذلك، لكن ما يهم هنا هو التخلص من أجل النسيان.
فكرة المتحف بدأت بالأساس في كرواتيا، قبل أن ينقلها الأمريكي جون كين إلى الولايات المتحدة، لتحظى الفكرة باهتمام أكبر. المتحف الكرواتي ضم آثار الحب والحرب، حين قرر خطيبان وضع حد لعلاقتهما واصطدما بالسؤال: ماذا سنفعل بهذه الأشياء الحميمة التي وهبناها لبعضنا حين كنا معاً، وأين تُوارى جثة الماضي؟
من بين تعاليم المارديني في مخطوطته الطبية المسماة "الرسالة الشهابية" للتخلص من مرض العشق: الوصال إذا أمكن طبعاً، وإشغال النفس ببعض العلوم العقلية، ثم استفراغ بعض السوداء وكثرة الاغتسال بالماء البارد وأكل البارد من الأطعمة أيضاً، وشرب الرايب الحامض والنوم تحت الندى والنظر إلى القمر عند امتلائه. وبين تعليمات الأمس وتلك المتعلقة اليوم بالسيلف كير والماسكات الكوريّة والغرق في حلقات نتفليكس، مسافة شاسعة يسلكها العاشق بحثاً عن يقين ما، يخلّصه من الاحتقان والجنون، كيلا يتحمل وحيداً عبء الحداد على العلاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع