"فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً، فالصمت في حرم الجمالِ جمالُ/ كلماتنا في الحب تقتل حبنا. إن الحروف تموتُ حين تقال". بهذه الأبيات التي كتبها نزار قباني أخبرنا أن الصمت أبلغ من الكلام، خاصة إن عجزت الكلمات عن التعبير عن إحساسنا بالجمال.
تحضرني تلك الأبيات دائما فور قراءتي لنورا ناجي، لذلك تجدني أهاتفها في التليفون بعد انتهاء كل رواية، والحماس يتقافز مني، وأتحدث معها في التفاصيل التي لا تحتويها كتابتي عنها، فأؤثر الصمت.
بعد انتهائي من قراءة مجموعتها القصصية "مثل الأفلام الساذجة"، تلبستني حالة من الحيرة، لسببين الأول: كيف سأكتب عن تلك المجموعة، الثاني إنني مقصرة في حق نورا، فكتابتي عنها لليوم لا تضاهي شعوري بها، وبصدق كتابتها وبتأثيرها الشديد عليّ وفيّ، فعادت لي أبيات نزار في أذني: "الصمت في حرم الجمال جمال".
تقع المجموعة في اثنتين وعشرين قصة. تطل علينا نورا ناجي بمزيد من الرهافة كعادتها، لكن ماذا عن تكثيف الإحساس والرهافة والشفافية في سطور بسيطة لتغزل قصة قصيرة خاصة بعد أربع روايات، وكتاب تتبعت فيه حياة عشر كاتبات؟
في كل قصص نورا ناجي هناك تفصيلة صغيرة جداً، يقوم عليها كل شيء، تشبه الحجر الملقى في الماء الراكد
انتقال من الخاص إلى العام بحرفية عالية
تتميز قصص نورا أنها تخرج من الذاتية الشديدة -الناتجة عن إحساسها العميق بالعالم وبملاحظتها لأدق التفاصيل فيه- إلى العموم.
بمعنى أنها تخرج من الخاص إلى العام، فتتفاجأ أن القصص تمسّ حياتك، تمسّك أنت، رغم أنها تخرج من منطقة شديدة الخصوصية، لأن كتابة نورا خاصة جداً، تستطيع التعرف عليها وسط ملايين الكتب حتى لو انتزعت غلافها. الأجمل من ذلك، أنك تشعر أنها تجلس داخلك، تشعر بمشاعرك، تفكر بتفكيرك، تجيد تحليل أفكارك ومشاعرك ووصفهما بعمق، وتحكي لك عنك. لي صديقة لا تحب القراءة رشحت لها كتب نورا، فقالت: "صاحبتك تحكي عنا، عن تفاصيل حياتنا"، فابتسمت، وشعرت أن نورا حصلت على جائزة تضاف إلى جوائزها.
البحث عن المساحة الحرة للتحليق
في قصة "ثقب ضيق باتساع العالم"، لا تشعر البطلة بمعنى للحياة سوى بالهروب من الصخب، الازدحام، العالم، الناس، الشوارع، هروب من حالة عدم الجدوى التي تتلبسها في الشقة الواسعة المليئة بصخب العائلة، لأنها تضيق على روحها، وترغب في الانتقال إلى شقة صغيرة تشعر فيها بالانعزال. المساحة الخاصة حتى لو كانت ضيقة، فهي تتسع لروح البطلة الحرة التي تحلق فيها كعصفور. هو ذاته الشعور الذي أحست به وهي طفلة، ولم تقدر على ترجمته عندما كانت تهرب إلى الغرفة الضيقة في المدرسة، غرفة لم يدخلها أحد، بل لم ينتبهوا لوجودها من الأساس، لكن بالنسبة للبطلة هي العالم الذي تحلق فيه كعصفور.
الحياة كلها بالنسبة لنورا ناجي تبدو مثل فيلم قديم ساذج يعاد كل يوم مع الجميع، والغريب أننا نندهش يومياً من تكرار ذات السيناريوهات
نورا ناجي
تماه وتضفير ولا أروع
وفي قصة "ثقب صغير باتساع العالم" أيضاً تماهٍ رائع بين قصة البطلة وقصة بنت الدادة شادية، تتشابه تفاصيل حياتهما، انعزالهما، بعدهما عن الصخب، مرضهما بثقب في القلب، وقدرة نورا على وصف التفاصيل مدهشة. أعجبني تضفير مشاهد الفتاتين ببعضهما البعض، مشهد هنا وآخر هناك، كأنها تحكي حكايتين في حكاية، فتتورط أنت فيهما دون أن تشعر، وهذا من مميزات الانتقال للقصة بعد الرواية -الذي هو أصعب ما يكون بالمناسبة- لكن القدرة على الانتقال من مشهد لآخر رائعة.
يقين الإدراك يشبه لحظة التنوير
أما في قصة "يقين"، حقّر الزوج من فكرة البطلة بإنشاء راديو صغير أون لاين، بعدما شرحت فكرتها بحماس، فوصفها بالتافهة. هنا، تفصيلة صغيرة، جعلتها ترى الدائرة بينهما تتسع وتشعر بالاختلاف الجذري، وترغب في الانفصال، لا بمعناه الورقي، بل بالمعنى الشعوري، لأنها أحست أنه منفصل بالفعل عنها بالشعور والفكر. تقول نورا: "استطالت الطاولة الخضراء فجأة حتى إنها لم تعد تراه بوضوح على الناحية المقابلة، وحل صمت شديد الثقل على أذنيها لدرجة أن صوت بكاء طفلتها آلمها، في هذه اللحظة قررت أنها لن تتوقف أبدا حتى تتمكن من تنفيذ ما تريده".
هذا الاختلاف هو ما دفعها للتمسك بأحلامها في بناء ذات جديدة بكيان مستقل بعيد عنه تماماً، لتعيد خلق حياتها وتصبح امرأة مسؤولة، تجلس في قارة أخرى، تعمل وتدرس وترعى طفلة. ولكن بذات أقوى، وتجلس بتأمل قائلة: "الحياة غريبة جداً، يبدو أنها تدفع كل شخص إلى مسار محدد، لا يحيد عنه رغم اعتقاده عكس ذلك".
ماذا لو قابلت نسخة قديمة منك؟ بماذا ستشعر؟ ماذا ستقول لها؟ والسؤال الأهم هل ستحبها أم ستكرهها، هل ستفهم دوافعها فيما فعلت سابقاً أم ستنتقم منها؟ هل نحن متصالحون مع ذواتنا خاصة بنسخها القديمة أم لا؟
أن يكون زهدك في الحياة درع حمايتك
في قصة "خوف" تتناول خوفها من تشبث جدها بالحياة، رغم أنه لم يعد قادراً على العيش بسبب مرضه، وتقول: "أرعبني تشبثه بحياة لم يعد قادراً حتى على الإحساس بها"، ثم تستطرد في فقرة أخرى: "بدا لى إنني أرى ذرات روحه، تحاول الخروج من مسام جسمه كلها، تمنيت لو تخرج روحي أيضاً من يدي القابعة بين يديه، فيكون موتاً ثنائياً لا وحدة فيه... شعرت أن يدي هي ما تمنع بقية ذرات روحه من التحرر، فأفلتته وهربت من الغرفة".
تلك القصة مستني بشكل شخصي، أرعبني ذات الإحساس لأن جدي مريض تلك الأيام وعمره يتجاوز الثمانين أيضاً، فأدهشتني الفكرة التي تقوم عليها القصة: كيفية حماية زهد البطلة لها من التشبث وقت الرحيل.
ماذا لو قابلت نسختين مكررتين منك؟
في قصة "انعكاس" حكاية مدهشة ونهاية أكثر إدهاشاً، تطرح فيها سؤالاً مهماً: ماذا لو قابلت نسخة قديمة منك، هل ستكرهها أم ستقع في غرامها؟ ذكرتني بتمرين قمت به مع أطفال ورشة الكتابة، كانت فكرته ماذا لو قابلت نسخة قديمة منك؟ بماذا ستشعر؟ ماذا ستقول لها؟ والسؤال الأهم هل ستحبها أم ستكرهها، هل ستفهم دوافعها فيما فعلت سابقاً أم ستنتقم منها؟ هل نحن متصالحون مع ذواتنا خاصة بنسخها القديمة أم لا؟
حياة خالية تشبه غرفة فارغة
وفي قصة "غرفة فارغة" تشبه حياة خالية، خلت على بطلها من كل شيء. انتهى زمن ارتداء الخوذة للدراجة النارية، والقيام بالرحلات على سطح البواخر، والقفز من الطائرات بعد وفاة الزوجة وسفر الابن للخارج، حياة خالية من روائح البشر وطيفهم كما ورد في القصة: "كل مرة يغادرون فيها الغرفة كان يفتح الباب بمفتاحه الاحتياطي يدخل ليجلس على السرير الدافئ غير المرتب يتأمل الهدوم الملقاة على الأرض يشم رائحة البشر ويشعر بطيفهم، لا يمس شيئاً يخرج ويغلق الغرفة ويختفي". ماذا ستفعل إن فرغت حياتك من كل شيء، البطل هنا قرر أن يملأ حياته بالبشر، فهل تساعده الكاميرا في متابعة حياة جديدة تدور جواره؟
"أنت تعيش الحياة من على السطح، أما أنا فأعيش تحت جلدها، وأشعر بكل شيء بشكل مضاعف، أحزن وأفرح وأندم بشكل مضاعف"
تفاصيل صغيرة تشبه إلقاء حجر في ماء راكد
في قصة "صمت"، حاولت البطلة التأقلم مع وحدتها والصمت الذي يغلفها، خاصة بعد وفاة والديها وانشغال إخوتها عنها، وتقلص حلمها من فنانة إلى مدرسة، ونسيانها للعزف على العود مع الوقت، موهبتها منذ الصغر، وبمجرد ما ألح عليها الجميع أن تغني وتعزف على العود تحكي نورا: "عندما انتهت كانت الدموع تسيل على خديها بهدوء، حل الصمت على الجميع إلا هي، كانت تنظر إلى الأرض وهي تحتضن عودها بقوة... عاد الصخب إلى البيت، وعادت الموسيقى للتردد داخل عقلها بنعومة، وشعرت أنها استعادت إحساسها بالحياة؛ تتنفس بشكل أفضل، ترى أوضح وتسمع كل شيء".
يتجلى هنا فكرة أساسية تجمع كل قصص نورا، أن تبدأ القصة بحال "الصمت وانعدام الشعور بالحياة"، وتنتهي إلى حال آخر "الصخب اللذيذ المتمثل في شعور البطلة بالحياة مجدداً"، طبقاً لحدوث تفصيلة قد يراها البعض عادية جداً، عندما أمسكت عودها من جديد وبدأت في الغناء"، لكن بالنسبة لعين دقيقة وقلب مرهف وروح شفيفة لا تمر مرور الكرام على الكاتبة.
وتحكي أيضاً في قصة "تفاصيل صغيرة": "تقوم الحياة كلها على تفصيل صغير، بصغر كلمة قالتها أمي يوم اختلفت مع أم مصطفى على اختيار شكل غرفة السفرة. كان خلافاً تافهاً يمكن تحجيمه، لكن أحداً لم يفعل. تصاعد الموقف في غفلة من الجميع. تبادلتا الاتهامات لتبدأ الحرب الباردة والمناوشات الهاتفية ثم الكلمات القاسية بيني وبينه، والاتفاق على انهاء كل شيء".
في كل قصص نورا هناك تفصيلة صغيرة جداً، يقوم عليها كل شيء، تشبه الحجر الملقى في الماء الراكد، الذي يتبع رميه حركات دائرية في البحيرة، تبدأ كلها من تلك الرمية وتنتهي عند نقطة البداية. هذا يعود لمحبتها للحبكات الدائرية التي تبدأ بالنهاية كما فعلت في رواياتها "أطياف كاميليا" و"بنات الباشا" و"الجدار" أيضاً، فالحدث الأساسي الذي يتغير عنده البطل ربما لا يكون كبيراً، بل ربما يكون كلمة أو صورة أو وربما ارتعاشة يد أو نظرة عين، تفصيلة تبدأ من عندها لحظة ندم، أو ربما لحظة غضب أو إدراك أو تنوير. تفصيلة تتصاعد عندها الأحداث وتبدأ التحليق في الهواء رويداً رويداً حتى تعود فتهبط بجناحيها من جديد بسلام إلى الأرض.
سر الكتابة البديعة
أما في قصة "مثل الأفلام الساذجة": "أنت تعيش الحياة من على السطح، أما أنا فأعيش تحت جلدها، وأشعر بكل شيء بشكل مضاعف، أحزن وأفرح وأندم بشكل مضاعف"، في تلك الفقرة إلى آخرها تخبرنا نورا سر كتابتها البديعة، إنها تشعر بكل شيء بشكل مضاعف، الفرح، الحزن، الندم... إلخ. ومن ثم جاءت كل قصص المجموعة مؤثرة، تحمل مشاعر إنسانية، شديدة التشابك لكن تجيد نورا تفكيكها جيداً، تفاصيل صغيرة تصنع منها عالماً مدهشاً من الحكي الرهيف شديد العذوبة، وشديد الخصوصية في آن واحد.
حياة مكررة تشبه الأفلام الساذجة
اختارت نورا اسماً يعبر تعبيراً مذهلاً عن المجموعة كلها، فالحياة كلها تبدو مثل فيلم قديم ساذج يعاد كل يوم مع الجميع، والغريب أننا نندهش يومياً من تكرار ذات السيناريوهات، ولكن بين الموت والحياة والندم والغضب والحب والكره، توجد آلاف المشاعر المتشابكة التي تحتاج إلى إنسان حساس، ليفككها ويعيد خلقها من جديد، وهذا ما تجيده نورا ببراعة. وتحكي في قصة "مثل الأفلام الساذجة" أيضاً: "وكأن العالم اختفى ولم يبق سواك، أنا وأنت وصباح هادئ ونسمات لطيفة تطير شعري وصوت زقزقات العصافير منغم وجميل". في تلك الحكاية قصة حب ساذجة بين حبيبين، اكتشفا في لحظة وداعهما أن الوداع لم يكن أفضل نهاية لقصتهما، لكن تلك الحياة المكررة السخيفة تماماً مثل فيلم سينمائي ساذج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...