فتحت تصريحات الأمين العام لاتحاد الشغل التونسي، نور الدين الطبوبي، الباب على مصراعيه أمام التساؤلات بشأن إمكانية أن يقدّم طرفا الأزمة، رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وخصومه من المعارضة، تنازلات، خاصةً الرئيس الذي يُعدّ في موقع قوة بعد أن باتت كل الصلاحيات بين يديه، ومباشرته مسار ما يسميه بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
جاء ذلك في حديث للطبوبي إلى جريدة "الشارع المغاربي"، منتصف كانون الأول/يناير حاول خلاله التطرق إلى ما ناقشه مع الرئيس سعيّد خلال لقاء جاء بعد قطيعة دامت نحو ستة أشهر، وتزامن مع تطورات سياسية وقضائية داخلية بعد إطلاق سراح النائبين عن ائتلاف الكرامة المحافظ والمقرب من حركة النهضة الإسلامية المعارضة، نضال السعودي وسيف الدين مخلوف، مساء الإثنين الماضي.
مطالب بالاعتذار
عقدت مجموعة من النقابات والمنظمات، من بينها نقابة الصحافيين التونسيين ندوةً صحافيةً في العاصمة، تم التطرق فيها إلى ما شهدته الاحتجاجات التي عرفتها البلاد في 14 كانون الثاني/ يناير الماضي، وما وصفته بانتهاكات للشرطة.
وطالب هؤلاء الرئيس سعيّد باعتذار رسمي. وقال نقيب الصحافيين ياسين الجلاصي، إن "ما حدث هو قرار سياسي واضح لحرمان المتظاهرين من حقهم في التعبير".
وقالت العضوة في المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين، ريم سوودي، إن "حجم الاعتداءات التي سُجّلت في 14 كانون الثاني/ يناير الماضي، وطبيعتها التي طالت صحافيين وناشطين في المجتمع المدني وفي الحركات الاحتجاجية، تستوجب على الأقل في اعتقادي اعتذاراً رسمياً من قبل رئيس الجمهورية كونه رئيس السلطة التنفيذية وهو المسؤول عن القمع البوليسي الذي حدث".
وأضافت سوودي في تصريح لرصيف22: "نعرف أنه من دون تعليمات لا تقوم (الشرطة) بذلك. حجم الانتهاكات كان كبيراً، تم استعمال مفرط للعنف، وكان هناك تعمُّدٌ في الاعتداء على المحتجين والصحافيين".
بعد إشارات من النقابات التونسية، هل يعمل الرئيس قيس سعيّد على مد اليد لمعارضيه لامتصاص الغضب الشعبي؟
وشدّدت المتحدثة على أن الاعتذار "لا يُعدّ تنازلاً من قبل الرئيس سعيّد (...) أن يطبّق رئيس الجمهورية تعهّداته أو يكون في حجمها بأنه حامي الحقوق والحريات، فهذا لا يعني أنه يأتي في إطار تنازلات أو الحط من قيمته. النقابات المدافعة عن الحقوق والحريات ما زالت على الموقف نفسه، وهو الدفاع عن مكتسبات التونسيين، والدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية والحق في الصحة وفي التعليم والتنمية، وكل الحقوق. أن يضمن الرئيس هذه الحقوق لا يعني أنه تنازل".
وشهد يوم 14 كانون الثاني/ يناير الماضي، الذي دعت فيه العديد من الجهات الفاعلة في المشهد التونسي على غرار أحزاب مثل حزب العمال (يسار) وحركة النهضة الإسلامية ومبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، إلى التظاهر للاحتفال بعيد الثورة -وهو عيد ألغاه الرئيس سعيّد وعوّضه بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر الذي رأى فيه "عيد الثورة الحقيقي"- والضغط على ما أسموه "سلطة الانقلاب"، وتجمهر المئات في العاصمة قبل أن تفرّقهم قوات الأمن بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع.
وقالت وزارة الداخلية دفاعاً عن تدبيرها للتدخل الأمني خلال هذه المظاهرة، إن "عدد المحتجين بلغ 1،200 شخص ضمن مجموعات حاولت تجاوز الحواجز الأمنية والاعتداء على رجال الأمن"، وإن "القوات الأمنية مارست أقصى درجات ضبط النفس".
ورأى المنسق العام للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أن هناك مفارقةً يجب التوقف عندها، فالمنظمات التي عقدت ندوةً صحافيةً هي نفسها المكونات التي عقدت ندوةً العام الماضي، في ذروة احتجاجات تم قمعها وقتها بتحريض من قبل أطراف تجد نفسها اليوم ضحيةً للقمع، مثل حركة النهضة الإسلامية.
وأوضح بن عمر في حديث إلى رصيف22، أن "النهضة مثلاً، وفّرت وقتها غطاءً سياسياً مثل أطراف سياسية أخرى وصلت إلى حد المطالبة بسن تشريعات تصادر حق الاحتجاج، وما وجودنا اليوم إلا للتأكيد على ثبات الموقف الحقوقي وفي العام الماضي طالبنا بالاعتذار واليوم أيضاً نطالب رئيس الجمهورية بالاعتذار".
وأردف أنه "بالنسبة لنا نعتقد أن الممارسات تنسف بعض الوعود التي قدّمها رئيس الجمهورية منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، من بينها الحقوق والحريات مثلما حدث في احتجاجات عقارب، وشارع الحبيب بورقيبة. رئيس الجمهورية ممسك بجهاز السلطة التنفيذية ونطالبه بتحمل المسؤولية".
إمكانية التنازل
أدّى حديث الطبوبي عن ضرورة تراجع "كلا الطرفين"، أي المعارضة ورئيس الجمهورية، إلى التساؤل عما إذا كان هؤلاء بالفعل على استعداد لذلك.
وقال الطبوبي في تصريح لصحيفة "الشارع المغاربي" المحلية، إنه "لا بد أن تكون لرئيس الجمهورية قوة إنصات، ويجب أن يؤمن بأنّ العالم مفتوح، وأنّه لا بدّ من صياغة تشاركية لأنّ مصير البلاد يهم الجميع. اليوم، الناس ما زالوا شادّين في مواقفهم (مصرّين على مواقفهم)، على أنّ ما حصل انقلاب، ويجب أن يقوموا بخطوة إلى الأمام. على الجميع أن يقوموا بخطوات إلى الأمام، والكل بحاجة إلى الإصلاح، لكن طبيعة المرحلة تتطلب ذلك (...) فوّتنا فرصةً بعد الثورة من غير الممكن أن نفوّتها، وما يحدث في العالم وفي أعتى الديمقراطيات وأعتى الاقتصادات وحتى في أمريكا، أن كل واحد لاهٍ (منشغل) بروحه (بنفسه)، إحنا ما أنجمو نفكرو كان في كيفاش نبنيو (لا يمكننا سوى التفكير في كيفية بناء) البلاد مع بعضنا، بعيداً عن الفعل وردة الفعل وبعيداً عن التشنجات".
في الأسابيع الأخيرة ظهرت إشارات على رغبة من الرئيس قيس سعيّد في تذويب الجليد مع أحزاب وهيئات عمالية للبحث عن مصالحة ضرورية تحتاجها البلاد. فهل يقدم تنازلات؟
لكن عضو المكتب التنفيذي للاتحاد محمد علي البوغديري، يقول إن "الرئيس سعيّد لن يتراجع ولن يتنازل لأحد، ونحن في المركزية النقابية لا نريده أن يتنازل، على العكس عليه أن يصمد على مواقفه، وأن يحترم الاتحاد ويتواصل معه وهو ما أكده في لقائه مع الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي".
وأضاف البوغديري في حديث إلى رصيف22: "نريد من الرئيس سعيّد أن يواصل في مسار التصحيح الذي انطلق يوم 25 تموز/ يوليو الماضي، وأن يقود البلاد نحو شاطئ النجاة، وهو ما أكده خلال لقائه مع الطبوبي. تواصلنا معه لم ينقطع يوماً، وهو يعرف تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل".
وعن عملية إطلاق سراح الناشطَين السياسيَين سعودي ومخلوف، قال البوغديري إن هذا يشكل صفعةً لمن يشكك في استقلالية القضاء التونسي في الوقت الراهن، مؤكداً أن "القضاء ليس تحت وصاية السلطة، وهذا يبرأ الرئيس وبقية هياكل الدولة من الاتهامات من المعارضة بأن السلطة تسيطر عليه".
وكان اتحاد الشغل قد قدّم مبادرةً في وقت سابق، تدعو إلى حوار وطني شرط أن يقوده الرئيس سعيّد الذي وافق على المبدأ، لكنه لم يعلن عن بدء الحوار، حتى أعلن في الـ25 من تموز/ يوليو الماضي عن الإجراءات الاستثنائية التي مثّلت زلزالاً سياسياً أطاح بالبرلمان الذي أفرزته انتخابات 2019 السابقة لأوانها، وبالحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي.
وقال البوغديري إن "الرئيس سعيّد كان دائماً يعبّر عن استعداده للحوار مع الصادقين والمخلصين للوطن، ويرفض الحوار مع اللصوص والفاسدين، مثلما نرفض نحن في الاتحاد ذلك. نحن نرفض الحوار مع الفاسدين والمرتبطين بأجندات غير وطنية".
في المقابل، يرى محللون سياسيون وخبراء أنه قد تلجأ أطراف الأزمة التونسية إلى التنازل، خاصةً في ظل ما يتردد عن ضغوط خارجية على البلاد.
وقال المحلل السياسي، محمد صالح العبيدي، إنه "غير مستبعد أن نشهد ذلك، تونس تعيش أسوأ أزمة اقتصادية وتواجه صعوبات في الولوج إلى المانحين الدوليين بسبب المؤشرات السلبية، وذلك قد يدفع الرئيس سعيّد للتراجع خطوة، لكن العودة إلى مشهد ما قبل 25 تموز/ يوليو تبقى صعبةً جداً".
وتابع العبيدي في تصريح لرصيف22: "المعارضة أيضاً قد تتراجع، خاصةً حركة النهضة الإسلامية، فهي فشلت في حشد الشارع لصالحها، وهو ما قد يجعلها تتراجع خاصةً إذا تم إيقاف تتبع قياداتها قضائياً".
ويستدرك المحلل السياسي التونسي بأن "هذه تبقى مجرد تخمينات وفرضيات، لأن على أرض الواقع لا شيء ينبئ بتراجع كلا الطرفين. التراشق بالتهم مستمر، وحتى افتراضياً عشرات الصفحات التي تشتغل على التشويه والمزيد من شحن الأوضاع مستمرة، لكن لعلّ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لعب تاريخياً أدواراً وطنيةً يقرّب وجهات النظر مع تطبيق القانون على الجميع، وهذا هو الأهم".
من جهته، لا يستبعد رمضان بن عمر، أن يتراجع الرئيس سعيّد، قائلاً: "في البداية نتمنى أن يكون التفاعل في الإطار الداخلي، خاصةً مع أطراف المجتمع المدني التي لها مقاربة نقدية (...) هناك ضغوط خارجية اليوم على تونس، وهناك بيانات دولية وأممية منددة بما يحدث وهذا مؤسف، ومؤسف أيضاً أن الرئيس لم يصغِ للأصوات الداخلية التي في جزء منها ترفض أولاً وقبل كل شيء تكريس عقدة الخارج (...) ما يهمنا هو التقييم المدني والحقوقي، رئيس الجمهورية أثبت أنه كلما يكثر الضغط الخارجي عليه، يقوم بالتراجع أو يعدّل بعض مواقفه. هناك ضغوط دولية لكننا ننبّه إلى أن الأهم هو الوضع الداخلي الذي يجب أن يستجيب له عوض الاستجابة لضغوط خارجية".
وبالموازاة، تطلق أطراف اجتماعية فاعلة عدة، تحذيرات من نذر هزات اجتماعية في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعرفه تونس، ما يحتم وفق تلك الأطراف مزيداً من الانفتاح بين مختلف أطياف المشهد لكي يتم تجاوز الوضع الراهن.
وقال بن عمر: "قد تشهد البلاد تطوراتٍ اجتماعيةً في شكل احتجاجات شعبية، ونخشى أن يتم اللجوء إلى القمع كما حدث العام الماضي عندما لجأت حكومة المشيشي إليه. دائماً ما يتحدث رئيس الجمهورية عن تواطؤ القضاء مع أطراف سياسية، لكن في المقابل يتغاضى هو عن استفادة بعض القيادات البارزة في المؤسسات الأمنية من القمع والإفلات من العقاب".
وثمَّن المنسق العام للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لقاء سعيّد بالطبوبي قائلاً إنها "خطوة إيجابية قام بها رئيس الجمهورية بلقاء الأمين العام لاتحاد الشغل بعد مسار خطأ قام به منذ 28 تموز/ يوليو الماضي، ويجب أن تستمر اللقاءات وتتوسع وتشمل كل المسارات وليس السياسية والحقوقية فحسب. لا بد أن تشمل المسار الاقتصادي والاجتماعي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...