قرّر الرئيس التونسي قيس سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء، بعد أسابيع من شدّ وجذب بين المؤسستين القضائية والرئاسية، تميزت بإلغاء مجموعة من الامتيازات لأعضاء المجلس قبل الإعلان الذي يعارضه قضاة تونس، ويرونه غير قانوني، مؤكدين استمرارهم في عملهم على الرغم من إغلاق مقر المجلس من طرف الأمن، كما هدّد قضاة بأن يعارضوه بكل الطرق، ومن ضمنها الإضراب المفتوح.
"حلّ" المجلس الأعلى للقضاء
بعد قراره وقف منح المجلس الأعلى للقضاء، وامتيازاته، أكد قيس سعيّد خلال خطابه في مقر وزارة الداخلية، أن المجلس الأعلى للقضاء صار مجلساً تباع فيه المناصب، ويتم فيه تسيير الحركة القضائية بناءً على الولاءات، وأنه سيتم العمل على وضع حد لما وصفه بالوضع المزري، وأعلن أنه سيصدر مرسوماً مؤقتاً للمجلس الأعلى للقضاء، قائلاً: "فليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي من هذه اللحظة".
ورأى متابعون للشأن السياسي في تونس، أن توجيه اتهامات إلى السلطة القضائية من مقر وزارة الداخلية، له العديد من الدلالات والرسائل أهمها توظيف وزارة الداخلية للسيطرة على القضاء، فيما عدّها البعض الآخر خطوةً مهمة نحو تطهير القضاء.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها، أُغلق مقر المجلس الأعلى للقضاء، ومُنع أعضاؤه وموظفوه من الدخول إليه، ومباشرة عملهم.
وقد أكد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، يوسف بوزاخر، أنه قد أغلق مقر المجلس بالسلاسل الحديدية من طرف وزارة الداخلية، قائلاً: "لا نعرف سبب الإغلاق ومن هو مصدر التعليمات التي أُعطيت للأمن في هذا الخصوص، ونعدّها محاولةً لفرض الأمر الواقع ومحاولة لتفكيك المجلس. لم نعد نتحدث الآن عن حل المجلس أو إصلاحه، بل عن تفكيكه بقوة الدولة".
ووصف بوزاخر في حديثه إلى رصيف22، هذه الحادثة بالخطيرة، محملاً وزارة الداخلية المسؤولية، ومشيراً إلى أنه سيتم استعمال جميع الوسائل القانونية المتاحة، حفاظاً على المجلس وعلى السلطة القضائية، وأن المجلس سيواصل عمله حتى وإن أُغلق المقر.
رئيس المجلس الأعلى للقضاء التونسي لرصيف22: "سيتم استعمال جميع الوسائل القانونية المتاحة، حفاظاً على المجلس وعلى السلطة القضائية، والمجلس سيواصل عمله حتى وإن أُغلق المقر"
كما رأى أن الحل لهذه الأزمة هو عدم المساس بالبناء الدستوري للمجلس الأعلى للقضاء، والتقاء السلطتين التنفيذية والقضائية، وتحديد مداخل واضحة للإصلاح، وتحقيق الإصلاح الحقيقي، وليس تموقع السلطة التنفيذية داخل المجلس الأعلى للقضاء.
من جانبه، أكد رئيس الجمعية التونسية للقضاة الشبان، مراد المسعودي، أن المجلس كان قد قرر عقد جلسة عامة خارقة للعادة (استثنائية)، يوم السبت، لكن رئيس الجمهورية كان أسرع في اتخاذ قرار إغلاق المجلس بالسلاسل وبطريقة مهينة.
وقال في تصريحه لموقع رصيف22: "بالنسبة لنا، هو يغلق مقر المجلس ونحن نغلق المحاكم. سيكون التصعيد بحجم قرار إغلاق المجلس. لن نتوخى الاحتجاجات الرمزية. التحرك سيكون على طريقة الند للند. بما أنه يرى أن القضاة فاسدون، فليحكم هو إذاً".
كما بيّن أنه سيتم الاجتماع مع بقية الهياكل القضائية على غرار اتحاد القضاة الإداريين، واتحاد دائرة المحاسبات، وجمعية القاضيات، وسيكون القرار في هذا الاتجاه.
بدوره ندد اتحاد القضاة الإدارييين في تونس بالقرار قائلا إنه يستهجن "محاولات رئيس الجمهورية المتكررة، التحريض على القضاة، قصد التأثير على الرأي العام ومغالطته وإيهامه بأن حل المجلس الأعلى للقضاء هو مطلب شعبي وذلك بغاية وضع يده على السلطة القضائية، وبما من شأنه تعريض القضاة إلى شتى أنواع الاعتداءات". وأكد بيان الاتحاد أن "مشاكل القضاء تتجاوز المجلس الأعلى للقضاء وأن الوضع الذي آلت إليه السلطة القضائية اليوم هو نتاج منظومة سياسية رافضة لإصلاح القضاء (...) وبأن قرارات المجلس لا علاقة ل بمسألة الفصل في القضايا كما يروج ذلك رئيس الجمهورية لتعلقها بالمسار المهني للقضاة وتأديبهم".
القضاة غاضبون
وفي بيان شديد اللهجة، أعلن المجلس الأعلى للقضاء مواصلة تعهده بمهامه، ورفضه حل المجلس "في غياب كل آلية دستورية وقانونية تجيز ذلك، ويتمسك برفضه المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية، والإهدار المفاجئ والمسقط لكافة ضمانات استقلالية القضاء".
كما دعا إلى الكف عن مغالطة الرأي العام بأن المجلس هو المكلَّف بالفصل في القضايا، والمسؤول عن مآلها، ودعا القضاة إلى التمسك بمجلسهم كونه الضمانة الوحيدة التي تقيهم خطر المساس باستقلاليتهم في أداء واجبهم، وخطر تعرضهم للضغط والتيقظ للدفاع عن وضعهم الدستوري معرباً عن رفضه اتهام المجلس بالتقصير، وما وصفه بالهرسلة (التسلّط)، المتواصلة لرئيس المجلس وأعضائه، والقضاة، وما صاحبها من تجييش وتأليب وتحريض ضدهم، محمّلاً رئيس الجمهورية والسلطات الأمنية المسؤولية عن إيقاف ذلك فوراً.
ورأت الجمعية التونسية للقضاة الشبان أن "حل المجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية، لا علاقة له بإصلاح القضاء، وإنما هو محاولة لإضعاف القضاء واستعماله والضغط على القضاة لتصفية خصومه السياسيين، وكل من يقف أمامه من قضاة وإعلام وجمعيات وأحزاب".
وأعلنت الجمعية في بيان لها، اعتزامها تحرير شكولا تنتهي إلى المقرر الخاص باستقلال القضاة والمحامين، تتضمن تشخيصاً دقيقاً لما آل إليه القضاء بعد 25 تموز/ يوليو، مع رصد كافة التجاوزات والانتهاكات المرتكبة منذ ذلك التاريخ إلى الآن، على غرار منع القضاة من السفر، وكيل التهم لهم من دون إثبات، وتشويه صورتهم، والضغط عليهم.
بدورها، عبّرت جمعية القضاة التونسيين عن "رفضها الشديد لكل محاولات المساس بالسلطة القضائية وبالمجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية والتجييش والتهديد والدعوات للعنف ضدّ القضاة وضدّ المجلس وأعضائه".
كما رأت في بيان لها، أن ما أعلن عنه رئيس الجمهورية يشكّل تراجعاً خطيراً وغير مسبوق عن المكتسبات الدستورية، وسعياً إلى إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية في ظلّ نظام يجمع فيه رئيس الجمهورية بيده كل السلطات، معلنةً عن "توجهها القريب إلى عموم القضاة لاتخاذ كلّ الخطوات النضالية اللازمة لحماية استقلال القضاء والمؤسسات القضائية".
ردود أفعال رافضة
تعليقاً على تصريحات رئيس الجمهورية، أعربت رئاسة مجلس نواب الشعب المجمدة أشغاله، عن تضامنها المطلق مع السلطة القضائية ودفاعها عن استقلاليتها رافضةً المس الأحادي بالمجلس الأعلى للقضاء، كما رأت أن "أي إصلاح لهذا المرفق له أسسه الدستورية وشروطه القانونية".
ودعت رئاسة البرلمان في بيان لها النواب إلى الوقوف صفاً واحداً إلى جانب السلطة القضائية، ودعمها في الحفاظ على استقلاليتها، كما دعت المنظمات الوطنية والأحزاب كافة والمجتمع المدني وعموم الشعب التونسي إلى الوقوف إلى جانب السلطة القضائية من أجل الدفاع عن دولة القانون والمؤسسات.
وأعربت الأحزاب الديمقراطية "التكتل" و"الجمهوري" و"التيار الديمقراطي" عن رفضها لإعلان قيس سعيّد عزمه حل المجلس الأعلى للقضاء، داعيةً "سائر القضاة والأحزاب الديمقراطية والمنظمات المدنية للتصدي لهذه المحاولة المفضوحة لإخضاع القضاء لسلطة الانقلاب"، مذكرةً "بغياب أي آلية دستورية أو قانونية تجيز لقيس سعيّد حل المجلس كما يتوعد ويدّعي".
"حل المجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية، لا علاقة له بإصلاح القضاء، وإنما هو محاولة لإضعاف القضاء واستعماله والضغط على القضاة لتصفية خصومه السياسيين، وكل من يقف أمامه من قضاة وإعلام وجمعيات وأحزاب"
وأكدت في بيان لها "على أن استقلال السلطة القضائية يبقى شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة وضمان الديمقراطية وطمأنة المستثمرين ودعم جهود تمويل ميزانية الدولة، وعلى أن الإصلاح الحقيقي للقضاء الذي لا زالت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية تطالب به، يكون بتحريره من مختلف الضغوط والولاءات، لا بإخضاعه لسلطة الشخص الواحد".
وكتب جوهر بن مبارك، عن مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، في تدوينة له: "تحت جنح الظلام، وفي وقت متأخر من الليل، ومن مقر وزارة الداخلية، قيس سعيّد يكذّب وزارة الداخلية، ويلغي بيانها الصادر عشية اليوم نفسه، ويقسّم المواطنين على أساس حقوق متفاوتة بين مناشد بحقوق كاملة يسدي أوامره العليّة بحمايته ومقاوم بحقوق منقوصة أسدى تعليماته برشّهم بالغازات وبالمياه المسمومة، ثم ينتهي بالتلويح بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وسعيه للسطو العلني على السلطة الفضائية".
من جانبه، تساءل القاضي أحمد الرحموني، في تدوينة له حول ما إن كانت هذه القرارات حرباً على القضاة، أم استهدافاً لما تبقى من سلطات الدولة ومؤسساتها، مضيفاً: "ما يدعو إلى الحيرة، هو الموقف المتشدد لقيس سعيّد حيال أعضاء المجلس الحالي، وتهديده الصريح لهم بما يشبه الانتقام، فهو بالإضافة إلى عزلهم في خطاب مسجل في وزارة الداخلية (فليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي منذ هذه اللحظة!)، ووضع حدّ في وقت سابق للمنح والامتيازات المخولة لهم، نراه الآن يهددهم بصواريخه (نبّهتهم وحذّرتهم وقلت لهم إن صواريخنا على منصات إطلاقها، تكفي إشارة واحدة منا حتى تصيب هؤلاء في أعماق أعماقهم!)، ويرى أن مكانهم ليس المكان الذي يجلسون فيه، ولكن المكان الذي يقف فيه المتهمون! فهل يمكن للقضاء وللقضاة أن يتوقعوا في قادم الأيام أكثر من هذا!؟".
سياق محتدم
في الذكرى التاسعة لاغتيال المعارض اليساري، شكري بلعيد، نظّمت مجموعة من الأحزاب والمنظمات يوم الأحد 6 شباط/ فبراير الجاري، مسيرةً للمطالبة بالكشف عن المتورطين في عملية الاغتيال ومحاسبتهم.
ورفع المحتجون شعارات من بينها "من أجل حل ملف الأجهزة السرية لحركة النهضة"، و"الكشف عن حقيقة الاغتيالات ومحاسبة الجناة"، و"الشعب يريد تطهير القضاء"، و"الشهيد خلّى وصية لا تنازل عن القضية".
ووسط تعزيزات أمنية مشددة، نفّذ أنصار"حراك 25 تموز/ يوليو"، الموالون للإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية، وقفةً احتجاجيةً أمام المجلس الأعلى للقضاء مطالبين بتطهير سلك القضاء وحل المجلس. احتجاجات كان قد باركها الرئيس قيس سعيّد خلال زيارته لوزارة الداخلية ولقائه عدداً من مسؤوليها، ورأى أنه من حق التونسيين التظاهر والمطالبة بحل المجلس الأعلى للقضاء، "لأن القضية بقيت في رفوف المحاكم لسنوات، وتم التلاعب بها من قبل عدد من القضاة الذين لا مكان لهم في قصور العدالة إلا كمتهمين".
وعلى الرغم من دعوة وزارة الداخلية المواطنين إلى الالتزام بالإجراءات المتعلقة بالوقاية من انتشار فيروس كورونا، خاصةً منع المظاهرات، فقد دعا رئيس الجمهورية من مقر الوزارة المساندين له إلى التظاهر: "تظاهروا بكل حرية ولا تحاولوا الالتحام مع من يريد التسلل إليكم ومع رجال الأمن... من حقكم التظاهر ومعرفة الحقيقة وأن يكون لكم قضاء عادل".
دعوة للتظاهر أثارت جدلاً واسعاً، خاصةً أنه تم قمع التظاهرات التي دعت لها الجبهات المعارضة لرئيس الجمهورية يوم 14 كانون الثاني/ يناير الماضي، وعُدّت بمثابة تقسيم للتونسيين، وتمييز بينهم على أساس مواقفهم السياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...