شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
السير بخطى

السير بخطى "الباليه" من موسكو إلى القاهرة... في لقاء يحيى عبد التواب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 7 فبراير 202206:48 م

بدأ فنُّ الباليه في إيطاليا مع بدايات عصر النهضة، وأخد في التطور في فرنسا ثم ازدهر في روسيا القيصرية، وازداد ألقاً مع قيام الثورة البلشفية التي لم تدخر وسعاً، فاحتضنته كما فعلت مع سائر الفنون، فخلقت أجيالاً من المبدعين، وتركت وقعاً في النفس لا يزال أثره باقياً. كان الدكتور يحيى عبد التواب شاهداً على هذا العصر، كأحد الآباء المؤسسين لفن الباليه، في رحلة استمرت لقرابة الستة عقود ما بين القاهرة وموسكو، مساهماً مع زملائه في النهوض بهذا الفن. فأثرى مكتبتنا بمؤلفات باللغة العربية والروسية، وتجارب متفردة في الكتابة والإخراج للمسرح في مصر وروسيا والكويت.

عن كلمة السرّ التي دفعت به إلى هذا العالم الساحر المتلألئ بالأضواء والمفعم بالحركة والمنتشي بالموسيقى الكلاسيكية، يقول لنا الدكتور يحيى: "حينما أنهيت دراستي الابتدائية كنت الأول على دفعتي، فتم اختياري للدراسة بمدرسة المتفوقين الإعدادية الموسيقية بحلوان، جنوبي القاهرة، والتي تحتضن الموهوبين في الموسيقى، كان ذلك في عام 1960".

بعد ذلك تخصص يحيى في عزف البيانو، ثم تم استدعاء خبير روسي بالمدرسة، أسوة بمدرسة باليه القاهرة التي افتُتحت عام 1958، وكانت تحت إشراف وزارة الثقافة. وبعد اختبارات، تم اختياره ضمن فصل الباليه الجديد بمدرسة حلوان. وبعد عام ألحق الفصل بمدرسة باليه القاهرة.

في حياة كل منا لحظات فارقة، ربما لا تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبلها، فمتى شعرت بهكذا لحظة وأنت تتلمس طريق النجاح على مسارح القاهرة؟ يجيب يحيى عن سؤالنا هذا: "هناك حدثان إيجابيان، أحدهما صغير، والآخر مهم جداً. في العام التالي لالتحاقي بمدرسة الباليه في القاهرة قدمتُ فقرة باليه العمياء مع الزميلة ماجدة صالح، وكنت لم أتخطّ عتبة الرابعة عشرة. كنت في الفصل الثالث، فقرر الخبراء الروس نقلي إلى الفصل السادس. وتخرجت من مدرسة الباليه مع أول دفعة عام 1967".

"لالتحاقي بمدرسة الباليه في القاهرة قدمتُ فقرة باليه العمياء مع الزميلة ماجدة صالح، وكنت لم أتخطّ عتبة الرابعة عشرة. كنت في الفصل الثالث، فقرر الخبراء الروس نقلي إلى الفصل السادس"

الحدث الأهم، كان مع أول عرض في تاريخ مصر؛ عام 1966 قدّم يحيى "نافورة باختشي سراي" عن قصيد للشاعر الروسي العظيم بوشكين، وكتب لها الليبريتو (سيناريو الباليه) الكاتب الروسي فولكوف، ووضع موسيقاه الموسيقار الروسي أسافييف، ووضع الكوريوغرافيا (مجمل الحركات التي يؤديها فنانو الباليه في العرض) زاخاروف وهو أول من أنشأ قسماً لإخراج الباليه عالم 1946، وهو الذي أشرف لاحقاً على بحث الدكتوراه الخاص بيحيى لمدة خمس سنوات (1975-1979) عندما سافر إلى موسكو لإكمال دراسته. وكذلك أشرف على بحثه كلٌّ من ماجدة عزّ وعبد المنعم كامل.

"كنت أقوم بدور جيراي (خان التتار)، وهو الشخصية المحورية بالعمل، وذلك بالتبادل مع زميلي رضا العشماوي. وبعد حضور رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر العرض منح الخبراء وأصحاب الأدوار الرئيسية أوسمة وأنواطاً وكان من نصيبي نوط الاستحقاق من الطبقة الأولى".

نتساءل أنه رغم اهتمام الكبير للدولة بالفن، ووجود خبراء من روسيا ومسارح تفتح أبوابها للموهوبين، فلماذا لم ينل فن الباليه في مصر حظاً بعد هذه البدايات المبشرة؟ فيجيب يحيى: "عدة عوامل أدت إلى هذا التراجع، بعد تخرج الدفعة الأولى من مدرسة الباليه في 27 أيار/مايو عام 1967، حدثت الهزيمة بعدها بأسبوع في 5 حزيران/يونيو 1967، وهو الأمر الذي أثر سلباً على الحياة الروحية والثقافية، برغم النضال البطولي الذي قام به الجميع للصمود. وفي 21 تشرين الأول/أكتوبر عام 1971 احترقت دار الأوبرا، الأمر الذي أثر سلباً أيضاً على فنون الأوبرا والباليه. وعام 1980 تم الاستغناء عن الخبراء الروس في مدرسة الباليه وفرقة الباليه في الفترة التي لم يكن قد تم إعداد الكوادر البديلة التي يمكن أن تحل محلهم. فكان لهذه الأحداث أثر سلبي على الصحوة الثقافية التي كانت مزدهرة في فترة الستينيات من القرن الماضي".

عام 1967، لم تتوقف العروض بسبب النكسة، فتمّ تقديم عرض"جيزيل" عام 1968، ثم "كسارة البندق" عام 1969، ثم "دون جوان" و"دافنيس وخلويه" عام 1970، و"دونكيشوت" عام 1971، وكان يحيى وزملاؤه يعملون عمل ليل نهار ليقاوموا الصعوبات وفق ما شرح لنا.

"وأذكر أنه في عام 1969 كانت مصر تتهيأ لموسم احتفالي بمناسبة مرور 1000 سنة على إنشاء مدينة القاهرة، وقررت وزارة الثقافة إقامة احتفالات ضخمة كان من ضمنها عرض لفرقة باليه (كيروف) التي تُعدّ أعظم فرقة باليه في العالم بعد فرقة البولشوي في الاتحاد السوفياتي،. ووقع الاختيار على أربعة مصريين ليشاركوا في عروض الفرقة الروسية، وكنت واحداً منهم مع ماجدة صالح ومايا سليم وعبد المنعم كامل. وهذه أول مشاركة دولية مصرية في فن الباليه على المستوى الاحترافي. وكان اشتراكنا معهم إنجازاً تاريخياً لفن الباليه في مصر".


الدكتور يحيى عبد التواب

ويذكر يحيى قصة تحوله من بطل فوق خشبة المسرح إلى مخرج: "كان من المخطط تقديم عرض أوبريت (حياة فنان) عن حياة الموسيقار ريتشارد شتراوس. وتم دعوة شخصين متخصصين من النمسا، بلد شتراوس، يقومان بالتحضير للعمل بدار الأوبرا، لتقديمه في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1970. وكان أحدهما مخرجاً للعرض والآخر كوريوغرافي. وتم تكليف الأستاذ أحمد عبد الحليم مساعداً للمخرج وتكليفي مساعداً للكوريوغرافي، لكن وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر أدت إلى إعلان الحداد لمدة 40 يوماً، مما أدى إلى توقف كل شيء، وتأجيل العروض المسرحية إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر، فسافر الفنانان النمساويان وتوليت المهمة مع المخرج أحمد عبد الحليم، وحقق العرض نجاحاً كبيراً. وربما كان هذا هو العرض الأخير الكبير قبل احتراق دار الأوبرا بعد ذلك في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1971".

كان لحادث حريق الأوبرا في العام 1971 وقع مروع على المثقفين في مصر، فهي الأولى في أفريقيا والشرق والأوسط،... "وأدت صدمة الهزيمة إلى ردة ثقافية وجد فيها الظلاميون فرصة تاريخية للتغلغل في وجدان الناس"

كان لحادث حريق الأوبرا في العام 1971 وقع مروع على المثقفين في مصر، فهي الأولى في أفريقيا والشرق والأوسط، "ظلت الحرائق تترصدنا وتطاردنا أينما ذهبنا، من مسرح الجمهورية إلى مسرح جامعة القاهرة إلى مسرح البالون. وأدت صدمة الهزيمة إلى ردة ثقافية وجد فيها الظلاميون فرصة تاريخية للتغلغل في وجدان الناس والسعي لهدم كل القيم التنويرية. ورأيت وقتها أنه من الأفضل في هذه الفترة أن استكمل دراستي في موسكو استعداداً للمرحلة التالية".

وعن حياته في موسكو يقول لنا يحيى: "لم أجد صعوبة في الحديث مع الناس، فقد تتلمذت على يد خبراء الروس، وكنت أجيد التحدث بالروسية، ولكنني بعد أن درست اللغة العلمية والأدبية صار بإمكاني أن اترجم عدداً من لنصوص المتنوعة. وكذلك شاركت المترجم السوري موفق الدليمي في ترجمة رواية (مطلوب حياً) للكاتب الروسي فلاديمير كاربوف، ونشرتها في طشقند عام 1983".

الدراسة في موسكو كانت منحة، ولم تكن هناك مشكلة في تكاليف السكن أو تناول الطعام، أو حتى في إجراء العمليات الجراحية حسب قول يحيى. كل ما كان يحتاجه الدارسون كان يوجد بسهولة، بالإضافة إلى أن النظام الاشتراكي آنذاك لم يكن يسمح للأجانب بالعمل إلا في مجالين: الترجمة والإذاعة في اللغات الأجنبية. وقد استخدم يحيى هذه الإمكانية في مرحلة ما بعد دكتوراه الفلسفة.


ووسط تساقط الثلوج في موسكو، لا بدّ من الحبّ، "فلا حياة بلا حب" كما يقول يحيى؛ "التقيت بفنانة تشكيلية ساعدتني في ديكورات المسرحيات التي قدمتها في موسكو، وتوطدت العلاقة بيننا في ذلك الجو الإبداعي. تزوجنا وأنجبنا ولدين رائعين. ولكنها كانت على موعد مع القدر في سن مبكرة. ولا زلنا نفتقدها أنا وولدانا".

كتب الدكتور يحيى عبد التواب في الموسوعة السوفياتية للباليه، وشرح لنا المشوار: "طلب مني أحد المسؤولين بالموسوعة إعداد مقال بحثي عن فن الباليه في مصر لنشره في أول موسوعة سوفياتية عن الباليه. فقمت بإعداده، وفي نفس الوقت تم تكليف زميلي عادل عفيفي بنفس المهمة، وتقرر جمع المقالين في مقال واحد لتكاملهما لينشر في الموسوعة باسميْنا. ونُشرت الموسوعة في موسكو عام 1981".

عاد يحيى إلى القاهرة عام 1982، واستلم العمل في المعهد العالي للباليه في أكاديمية الفنون، وعمل مع زملائه لمدة ثلاث سنوات في مناخ ثقافي متراجع، "فالموجات التي لحقت بالانفتاح الاقتصادي غيرت المفاهيم، وساد تيار يعادي الفن الرفيع ويسفه من شأنه، فتراجعت الفنون الجادة إلى التسلية، تلبيةً لأذواق مستجدة، لم يكن لها هذا الوجود والتأثير في الستينيات".

يعتقد يحيى أن الفنّ له انتماء وطني، على خلاف العِلم الذي لا ينحصر في الأوطان، ولذلك آثر البقاء في مصر، لأن اهتمامه أثناء الدراسة في موسكو كان ينصب على خدمة المجتمع المصري وليس المجتمع الروسي كما قال لنا. "وقد دُعيت للعمل في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت وقضيت هناك فترة إعارة لأربع سنوات". 

وسط تساقط الثلوج في موسكو، لا بدّ من الحبّ، "فلا حياة بلا حب" كما يقول يحيى؛ "التقيتُ بفنانة تشكيلية ساعدتني في ديكورات المسرحيات التي قدمتها في موسكو، وتوطدت العلاقة بيننا... تزوجنا وأنجبنا ولدين رائعين. ولكنها كانت على موعد مع القدر في سن مبكرة..."

هل نستطيع القول إن "بين القصرين" و"حسين وعزيزة" هما باكورة ليبرتو مصري خالص مئة بالمئة من تأليف يحيى عبد التواب؟ يقول يحيى: "في البداية يجب أن نوضح أن (ليبرتو) مصطلح يعني السيناريو المعد لعروض الباليه، حيث إن البنية الدرامية، سواء في الأدب أو المسرح، تتسم بحبكة تنتظم الأحداث وتطور الشخصيات. ونظراً إلى أن فن الباليه الكلاسيكي اعتمد في أغلب تاريخه على الأعمال الأدبية أو المسرحية، وهو ما وفر لها الحياة الطويلة، فقد اهتممت بهذا البعد المفتقد لدينا وكتبت هذين العملين، وإن لم يحظيا بالتجسيد على خشبة مسرح الباليه لعدة أسباب، من أهمها وجود فرقة باليه واحدة."

وفي سبيل تطور فنّ الباليه، وبما أن يحيى مهتم بدرامية العرض، حسب قوله، فقد قرر العمل على تطوير مهارات ممثلي الدراما في الأداء الحركي والوصول بهم إلى درجة تعبيرية أعلى؛ "فهذا هو الطريق المتاح نحو خلق عروض كوريوغرافية تبرز درامية الحركة بوضوح أكثر. وقد دعاني دكتور محمد مبارك بلال، عميد المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت للعودة للتدريس في عام 1994. وقمت بتدريس مواد حركة الممثل لطلبة قسم التمثيل والإخراج. وكتبت أكثر من ليبريتو لعروض كوريوغرافية، وقام بتجسيدها طلبة وخريجو القسم؛ فقد وضعت برامج لإعداد طلبة التمثيل لكي يكونوا قادرين على أداء الحركة التعبيرية الموسيقية، مع التخفيف تقنيات الأداء التي لا يجيد أداءها سوى فناني الباليه".

وعن مستقبل فن الباليه ومدى رضاه يشرح لنا أنه قام بتجارب عبر سنوات، تجسدت في عروض كوريوغرافية صغيرة، ثم أخذَت الطابع المتكامل في عروض كبيرة مثل "شبح الأوبرا" في مسرح الدسمة بالكويت، والمسرح القومي في القاهرة 1998، و"الملك لير" في مسرح الميدان بالكويت 1999، وتم تطويره في افتتاح المسرح الكويتي العاشر بمسرح الدسمة 2008، و"ماكبث" في افتتاح مهرجان المسرح الخليجي العاشر 2009، و"البؤساء" في عمل التخرج لدفعة بمسرح حمد الرجيب 2018.

"في رأيي، تتصف هذه العروض بطابع تعبيري درامي موسيقي واضح، تفتقده بعض عروض الباليه. وكل هذا في إطار اهتمامي بدرامية العروض الكوريوغرافية، وليس التركيز على استعراض المهارات الأدائية. ولعل هذا الجهد، يجد تجسيداً له في عروض باليه تقدمها فرق عدة، فوجود فرقة واحدة غير كاف للحياة الثقافية المصرية أو العربية، خاصة مع تشييد المسارح الجديدة. فبعد حرمان فن الباليه وجمهوره من دار للأوبرا لمدة 17 عاماً، تم إنشاء دار جديدة عام 1988، وهناك الآن أكثر من دار للأوبرا في مصر والعالم العربي، مما يزيد الأمل في إنشاء فرق أكثر، خاصة وأن مدرسة الباليه تقوم سنوياً بتخريج دفعات لا تجد عملاً، فيهاجر البعض إلى الخارج، أو يمتهن مهن أخرى".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard