شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كرة القدم في مصر... الطريق نحو توجيه الرياضة واحتكار أرباحها

كرة القدم في مصر... الطريق نحو توجيه الرياضة واحتكار أرباحها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 10 فبراير 202210:13 ص

تخلّصت المجتمعات الأوروبية من أشكال كثيرة من التعصّب، لكنها لم تتخلص من التعصب الرياضي، وبالذات في لعبة كرة القدم. فالملاعب الأوروبية تشهد بين فترة وأخرى حوادث عنف متبادل بين الجماهير تُزهَق من جرّائها أرواح بريئة كثيرة.

وكالعادة، نجحت الرأسمالية في استغلال هذا التعصب وتحويله إلى أرباح طائلة بالمليارات تدخل جيوب المستثمرين والسماسرة والمراهنين، كما نجحت، بالاشتراك مع رموز اللعبة، في أن تنشئ لها "حكومة عالمية" لا تستطيع الحكومات المحلية أن تسير ضد توجهاتها وإلا تعرّضت اللعبة لديها للتوقف والعقوبات، وهو ما يجعل هذه الحكومات تتعرّض لغضب الجماهير المتعصبة التي تشجع بحماس يفوق أي تصور، إضافة إلى تكبدها خسائر بمليارات الدولارات.

لعبة المليارات

أصبحت كرة القدم في الدول الحديثة استثماراً عالميّاً ضخماً، تراقبه الحكومات من بعيد وتحصل منه على حصصها القانونية من الضرائب، وتضطر أجهزتها الأمنية للتدخّل من حين إلى حين لإيقاف العنف ومحاسبة المتورطين فيه، لتضبط هذا القطاع القَلِق.

وفي الدول العربية، دخلت جهات كثيرة لتستغل اللعبة وعائداتها وجماهيريتها:

ـ القنوات التلفزيونية وبرامج يوتيوب التي تبحث عن الإثارة لزيادة نسبة المشاهدات وجذب المعلنين، حتى لو كان ذلك على حساب تأجيج مشاعر الكراهية بين جماهير الأندية الكبرى، الأمر الذي يجعل الجميع يقفون على شفا حفرة. يأتي ذلك بجانب احتكار بث المباريات بما تجلبه من إعلانات ضخمة قبل وأثناء وبعد المباريات.

ـ الجماعات الدينية التي تريد استغلال الحشد الجماهيري لتوجيهه نحو تنفيذ مصالحها، أو على الأقل توجيه سلوك الناس للضغط في الاتجاه الذي تريده، وهذه الجماعات لا تكتفي بالبرامج الرياضية دينية الصبغة التي أصبحت منتشرة على موقع يوتيوب، ويقدّمها إعلاميون راسخون، بل تجتهد لتقديم نماذج "لاعبين متديّنين" تقدّمهم لجماهيرها كقدوة.

ـ وطبعاً، هناك السلطات الديكتاتورية في الدول القمعية، وهي حاضرة في كل الملفات الكروية، وتحاول الحصول على حصة الأسد في كل منها: في ملف الضرائب الباهظة التي تفرضها على عمليات انتقالات اللاعبين، وما يرتبط بها من عمولات ضخمة للسماسرة تصل رسمياً إلى 10% من قيمة كل صفقة السمسرة، وفي الدعاية والإعلان وتوجيه الجماهير بالإشادة المتكررة بالزعماء الملهمين وإنجازاتهم التاريخية وفضلهم على الدول والشعوب، أو، وهو المهم، في إحباط عمليات توجيه الجماهير من قِبَل المنظمات والجماعات المعارضة.

يَمنع الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA تدخّل الدول والحكومات في أمور اللعبة، لذلك أقام لإدارتها مجموعة مؤسسات دولية يتم الاحتكام إليها، بحيث لا تلجأ الأندية إلى المحاكم المحلية نهائيّاً. ولكي تحيَّد اللعبة وأموالها وقوانينها ورجالها، منع الفيفا بحسم إدخال الأمور السياسية والدينية في المنافسات، حتى لا تغضب الدول ذات التوجهات المختلفة والمؤمنين بالأديان حول العالم.

مع ذلك، فالأمر لا يسلم، ونجد خروقات للقواعد من حين إلى آخر، مثلما فعل اللاعب المصري محمد أبو تريكة في إحدى المباريات، حين رفع قميصه ليظهر تحته قميص آخر مكتوب عليه "تضامناً مع غزة"، وهو ما عرَّضه لعقوبات، أو مثلما فعل لاعب النادي الأهلي السابق أحمد عبد الظاهر، الذي رفع "شعار رابعة" بعد عملية فض اعتصام ميدان رابعة العدوية عام 2013، وكلّفه ذلك الخروج من النادي الأهلي وانحسار الضوء عنه.

نوادي الأرستقراطيين

مع نمو الطبقة الأرستقراطية في مصر، من رجال الصناعة والزراعة، عقب انتخاب أول برلمان مصري وإنشاء الأحزاب السياسية القديمة في نهاية القرن التاسع عشر (حين فشلت "هوجة" أحمد عرابي واحتل الإنكليز مصر)، بدأ إنشاء النوادي الرياضية بداية القرن العشرين، لتكون أماكن تجمُّع للعائلات الصاعدة مع الجاليات الأجنبية التي تعيش وتعمل في مصر، ترفّه فيها عن نفسها وتمارس الرياضات المختلفة. وبالفعل أنشئت فرق لممارسة الألعاب الرياضية، ومنها كرة القدم، تنافست بشكل ودّي في البداية، ثم أنشئت مسابقة كأس مصر عام 1920، ثم أنشئ الاتحاد المصري لكرة القدم عام 1921، ومسابقة الدوري العام عام 1948.

"كان شائعاً في فترات حكم جمال عبد ناصر وأنور السادات وحسني مبارك أن الدولة تستخدم منافسات كرة القدم لإلهاء الجماهير عن القضايا الرئيسية: الداخلية المرتبطة برفع الأسعار، أو الخارجية التي تخص علاقات مصر بالدول المحيطة والدول الكبرى"

تناوب وجهاء الطبقة الأرستقراطية على رئاسة الأندية الكبرى، فالنادي الأهلي الذي أنشئ عام 1907 كان أول رؤسائه ميشيل إنس لمدة عام واحد، وهو إنكليزي كان يعمل مستشاراً لوزارة المالية المصرية، ثم تلاه عزيز عزت باشا، وعبد الخالق ثروت باشا الذي تولى رئاسة وزراء مصر مرتين في عهد الملك فؤاد الأول، ثم جعفر والي باشا وأحمد حسنين باشا وأحمد عبود باشا.

أما نادي الزمالك الذي أنشئ عام 1911، فقد رأسه أجنبيان في البداية لمدة سبع سنوات: جورج مرزباخ بيك، ثم بيانخى، وهما بلجيكيان، ثم جاء الرؤساء المصريون: محمد بدر ومحمد حيدر باشا، ومحمد شوقي، وعبد الحميد الشواربي، وعبد اللطيف أبو رجيلة وعلوي الجزار.

مع جلاء الإنكليز عن مصر، ومعظم أفراد الجاليات الأجنبية من يونانيين وإيطاليين وغيرهم، وبصدور قانون تحديد الملكية الزراعية، ثم قوانين التمصير والتأميم، وقوانين يوليو الاشتراكية عام 1961، حوصرت هذه الطبقة الصاعدة وتحجّم نفوذها، خصوصاً بعد إلغاء الأحزاب وعزل كثيرين من رموزها سياسيّاً، وبدأ صعود طبقة جديدة من ضباط الجيش، تتألف من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي قاد (حركة) يوليو 1952، والضباط المنضمين إليهم، وطبقة جديدة من السياسيين المؤمنين بالاشتراكية -أو المتمسحين بها- للحصول على الامتيازات التي كانت تقدّمها الدولة لأنصارها.

أثَّر ذلك بالطبع على الأندية الرياضية، الكبرى منها بالذات. فقد تولى حسن عامر رئاسة نادي الزمالك من 1962 إلى 1967، وهو شقيق المشير عبد الحكيم عامر، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، والرجل الثاني في حكم مصر.

وفي النادي الأهلي، جاء الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجي رئيساً عام 1967، عقب هزيمة يونيو، وهو قائد عسكري مصري قريب من النظام وقتها، تولى قيادة الجيش في حرب اليمن 1964 وقيادة جبهة سيناء في حرب 1967، وهو العسكري الوحيد للقوات البرية بالقوات المسلحة المصرية، إذ ألغيت تلك القيادة رسميّاً بعد حرب 1967.

صعود الرجلين لقيادة أكبر ناديين رياضيين في مصر كان إعلاناً واضحاً لاستيلاء الدولة على قطاع الرياضة وتوجيهه حسب إرادتها، وهو ما سوف يستمر حتى اليوم.

المتعة الموجَّهة

كان شائعاً في فترات حكم جمال عبد ناصر وأنور السادات وحسني مبارك أن الدولة تستخدم منافسات كرة القدم لإلهاء الجماهير عن القضايا الرئيسية: الداخلية المرتبطة برفع أسعار السلع الرئيسية وتحريك سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، أو الخارجية التي تخص علاقات مصر بالدول المحيطة، ومنها إسرائيل، أو علاقاتها الدولية بالدول الكبرى.

ليس ذلك فقط، بل إن جماهير الكرة تعاير بعضها بعضاً بأن الدولة بأجهزتها السيادية تتدخل للتحكّم في نتائج المباريات، بالذات مباريات الأهلي والزمالك، صاحبي الشعبية الكاسحة، بغرض امتصاص غصب الجماهير وتفادي أي ردود أفعال عنيفة، خاصة أن التاريخ القريب شهد عدة حوادث لتكسير المدرجات وإتلاف منشآت إستاد القاهرة –أكبر استاد رياضي في الشرق الأوسط حتى وقت قريب- نتيجة قرار تحكيمي باحتساب ضربة جزاء.

"جماهير كرة القدم في مصر تعاير بعضها بعضاً بأن الدولة بأجهزتها السيادية تتدخل للتحكّم في نتائج المباريات، بالذات مباريات الأهلي والزمالك، صاحبي الشعبية الكاسحة، بغرض امتصاص غصب الجماهير وتفادي أي ردود أفعال عنيفة"

لكن أعلى مشاهد العنف حدثت بعد ثورة يناير 2011، بالضبط يوم الأول من شباط/ فبراير 2012، حين تم الاعتداء بشكل ممنهج على جماهير النادي الأهلي في استاد بورسعيد، بعد مباراة جمعت الأهلي والنادي المصري. راح ضحية الاعتداء 72 مشجعاً في مجزرة مروعة غير مبررة، لأن فريق المصري البورسعيدي صاحب الأرض كان فائزاً في المباراة.

الأرقام تنحاز –تاريخيّاً- لمصلحة النادي الأهلي، فقد فاز ببطولة الدوري العام 42 مرة من مجموع 62 بطولة، وهو أكثر نادٍ فاز ببطولات متتالية، وأكبر عدد مباريات متتالية دون هزيمة، وحاصل على لقب نادي القرن العشرين من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، إلخ.

لكن المزاج الشعبي لا يستبعد شبهة توجيه المباريات تلك، لأن النظم المركزية لا تترك فرصة إلا وتستغلها كي تحقق أهدافها، ومسألة "اللعب النظيف" والخسارة أو الفوز في مباراة كرة قدم ليست أمراً مهمّاً، فالجماهير المتعصبة تغضب قليلاً ثم تنسى، وتنشغل بالمباراة القادمة، وبلعبة الأرقام التي تتغير من أسبوع لأسبوع، وتغيّر معها طموحات الفرق الرياضية وأحلامها.

هواجس الأمن

ظهور روابط الجماهير المنظَّمة التابعة للفرق الرياضية أشعل المدرجات وبث الحماسة في اللاعبين، وجعل اللعبة أكثر سخونة وتشويقاً وإثارة، لكنه من الجهة الأخرى شكَّل هاجساً مقلقاً بالنسبة إلى أجهزة الأمن التي عليها أن تمنع التجاوزات التي يمكن أن تحدث بين لحظة وأخرى، سواء التي تحدث داخل الملاعب نفسها، أو التي تخرج من الأسوار وتشكِّل عبئاً على أنظمة الحكم بتهديد الاستقرار وقطع طرق المواصلات وإتلاف المنشآت العامة، إلخ.

والخطر الأكبر يكون حين تتفاعل هذه الجماهير مع حدث سياسي خارج الكرة، وهو ما حدث بالفعل حين تجاوبت الجماهير مع ثورة يناير 2011، وخرجت بشكل منظم إلى الميادين فشكلت ثقلاً كبيراً لشباب الثورة، خاصة أنها جماهير موجهة، تسير خلف قائدها وتردد ما يقوله، وأنها من الشباب الصغار "قليلي الحكمة"، والذين يمتلكون قوة بدنية ترهق قوات الأمن التي تكون أقل عدداً بشكل مختل، ولا تريد استخدام قوة مفرطة مع ذلك إلا في حالات نادرة، كي تحافظ على صورة الدولة أمام العالم.

بعد ثورة يناير مباشرة، حدثت اضطرابات جماهيرية في المدرجات، أكثرها عنفاً ما حدث في إستاد بورسعيد عام 2012، لهذا منعت سلطات الدولة في مصر حضور الجماهير لمباريات الكرة نهائيّاً.

حوالي 10 سنوات، تُلعب المنافسات دون جمهور، فتفقد اللعبة قوة دفعها الطبيعية، والسبب الرئيسي لسخونة المباريات، كما تفقد الأندية الكبيرة مصدراً مهمّاً من مصادر دخلها: تذاكر المباريات.

عشر سنوات مدة طويلة نسبيّاً كبّدت القطاع الرياضي خسائر جسيمة، وجعلت أندية كثيرة تقف على حافة الإفلاس. لهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة، بدأت الدولة في إحداث انفراجة صغيرة في ما يتعلق بحضور الجماهير، لكن بعد أن كادت تؤمم اللعبة كلها لمصلحتها... لكن هذا حديث آخر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image