شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الحارة" لباسل غندور... أزقة عمّان الشرقية وتناقضاتها، بين الطيبة والإجرام والحبّ والكره

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 5 فبراير 202211:39 ص

في أسلوب الترسيخ لمفاهيم تتعلق بالكلمة والصورة والأزمنة والأمكنة في السينما، يصبح الخروج عنها مجازفةً، وتقبّلها أيضاً يحتاج إلى وقت. يحدث هذا كثيراً في ما يتعلق بالصناعة السينمائية، وحتى الدرامية العربية، والاتهام بالتقليد يكون سيد الموقف. لكن هذا ليس صحيحاً دائماً، فمثلاً "الحارة" بمفهومها البصري والمعلوماتي، ارتبطت بروايات نجيب محفوظ، وباتت تتشكّل من كلمات عبر صور في مخيلة القارئ، قبل أن يتم تحويلها إلى عمل فني. أصبحت "الحارة المصرية" هي الصورة الراسخة في ذهن المتلقي العربي، لذا يصعب الحديث عن حارات في أقطار عربية أخرى، وإن حدث، يكون حضورها ثانوياً، وليس الحكاية الرئيسية، فالمقارنة ستحدث بلا شك، وسيعود المتلقي ليحاكيها بشكل "الحارة" الراسخ الذي شاهده وقرأ عنه تحديداً في أدب الراحل محفوظ، وتماهى معه.

قرر المخرج الأردني، باسل غندور، في فيلمه الروائي الطويل الأول "الحارة"، وهو من كتابته أيضاً، أن يحكي عن "الحارة" في الأردن، وتحديداً في عمّان الشرقية، بتشويق وإثارة. غندور الذي عرفه المتلقي العربي كمنتج وكاتب للفيلم المميز "ذيب"، للمخرج ناجي أبو نوار، والذي وصل إلى التنافس على أفضل فيلم أجنبي في الأوسكار، يؤكد في جديده "الحارة"، أنه على قدرٍ عالٍ من تطبيق ما تعلّمه وشاهده من أفلام عالمية وحتى عربية، وكأنه ذاكر درسه جيداً، وساعٍ إلى العلامة العليا، فهو جمع في طريق إدارته للعمل وعناصره، الأسلوبين الغربي والعربي، وهذا بحد ذاته تميّز لمخرج أردني أراد التفرد وتقديم المختلف، وإعلان أسلوب لم تعتده السينما الأردنية تحديداً في طريقة صناعتها، لذلك موضوع الترسيخ كان لا بد من الحديث عنه في البداية، لأن الخروج عنه يحتاج إلى ثقة، وهذا ما سيتميز به غندور على ما يبدو.

في أسلوب الترسيخ لمفاهيم تتعلق بالكلمة والصورة والأزمنة والأمكنة في السينما، يصبح الخروج عنها مجازفةً، وتقبّلها أيضاً يحتاج إلى وقت. يحدث هذا كثيراً في ما يتعلق بالصناعة السينمائية، وحتى الدرامية العربية، والاتهام بالتقليد يكون سيد الموقف. لكن هذا ليس صحيحاً دائماً

في فيلم "الحارة"، الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي العام الفائت، ثمة مفهوم اجتماعي يتداوله الناس في ما بينهم في عبارة شهيرة: "حتى الشرطة ما بتسترجي تدخل هناك"، وهنا لو كانت المبالغة حاضرةً في الطرح، إلا أن أبعادها في وصف "الحارة" تقترب من مفهوم دولة داخل دولة، لديها قوانينها الخاصة، في الخير وفي الشر على حد سواء، و"ما يحدث في الحارة يبقى في الحارة"، وهذا بدقّته ما حاول غندور نقله عبر فيلم اختصر مجتمعاً كاملاً، يعيش بين الأزقة، في فقر وحاجة، ونصب واحتيال، والقليل من المشاعر في أسطح تشهد قبلاتٍ مسروقةً، ونظراتٍ إلى السماء، تضرعاً أو أملاً.

في "حارة" غندور، شخصيات عديدة، أدّاها ممثلون يثبتون أنهم على قدر هذه المهمة؛ منذر رياحنة، وميساء عبد الهادي، وعماد عزمي، وبركة رحماني، في حضرة نادرة عمران ونديم ريماوي، ومواهب عديدة صاعدة، وإطلالات لممثلين من زمن جميل.

قرر المخرج الأردني، باسل غندور، في فيلمه الروائي الطويل الأول "الحارة"، وهو من كتابته أيضاً، أن يحكي عن "الحارة" في الأردن، وتحديداً في عمّان الشرقية، بتشويق وإثارة.

الألوان والتناقض

صباح "الحارة" يختلف عن ليلها، فلكل وقت وظيفة، ومع ذلك كان التصميم البصري للحارة ككل في أوقاتها المختلفة، يميل إلى الظلام في لونه المتدرج، والذي يعكس حالات الشخصيات الكثيرة التي يجمعها الحب والغضب في اللحظة نفسها وردود فعلها، ويجمعها الواجب والتشفّي أيضاً في المشهد نفسه، وتجمعها الوجوه الطيبة والوجوه المجرمة في المساحة نفسها، والتجبر والخوف، والحب والكره. كل المشاهد المتناقضة تتمركز في أمكنة تنقّل غندور في ما بينها، وبين عناوين متنوعة أراد أن تكون بدايةً لكل قصة، مع أنها مكملة لما قبلها، لذلك تدرك أن شخصية علي (عماد عزمي)، في البداية، هو الذي يقودك بين كل تلك الأمكنة المراد تسليط الضوء عليها: الشارع المكتظّ، والصالون النسائي (حبيبته لانا ابنة صاحبة الصالون الذي يلتقي بها خلسةً عبر التسلق إلى نافذتها)، تلك النافذة المطلة على بناية مهجورة، الكازينو، وبيت عباس (منذر رياحنة)، الذي يهابه الكبير قبل الصغير.

لذلك كان لا بد للمشاهد أن تكون قاتمة اللون لتعبّر عن كل هذا وأكثر، فقمة التناقض تحدث عندما يتم كشف علاقة علي ولانا (بركة رحماني). فعلى الرغم من كل الاحترازات، إلا أن فيديو مصوّراً لعلاقتهما الجنسية، وصل إلى أمها "أسيل" (نادرة عمران)، وراح يساومها عليه مقابل مبلغ مالي. تجد هذه الأم التي تحاضر طوال الوقت بالشرف والأخلاق تلجأ إلى عباس، الذي يعمل في توظيف البنات في الدعارة، كي يحمي ابنتها من هذا المتربص، في مشهد سريالي يؤكد أنه سينهي هذا الموضوع، وهذا بالفعل ما يحدث، مع مساومة في قبول أسيل بأن تصفف شعر الفتيات اللواتي يعملن لصالحه. مشهد مكتوب بدقة التناقض المجتمعي الذي يصفع كل من يحاول الوقوف أمام حق الحب والحياة، وقس على هذا المشهد الكثير من التناقضات التي ستحدث في أثناء التصاعد الدرامي ستكون حول شخصية "علي"، الذي قرر مثلاً أن يصبح "روبن هود" فجأةً، وهو أيضاً كان يطرح نفسه سابقاً كموظف في شركة أمريكية، لكن يتضح أنه أيضاً يعمل في صيد أصحاب الجيوب الملآنة من السياح العرب، ويدلّهم إلى عتمة ليل عمّان، وما تخفيه.

في فيلم "الحارة"، ثمة مفهوم اجتماعي يتداوله الناس في ما بينهم في عبارة شهيرة: "حتى الشرطة ما بتسترجي تدخل هناك"، وهنا لو كانت المبالغة حاضرةً في الطرح، إلا أن أبعادها في وصف "الحارة" تقترب من مفهوم دولة داخل دولة، لديها قوانينها الخاصة، في الخير وفي الشر على حد سواء

شخصيات الفيلم

كل شخصية في الفيلم تحمل تناقضاتها، حتى في ما يتعلق باليد اليمنى لعباس، وهي هنادي (شخصية أدتها الممثلة الفلسطينية ميساء عبد الهادي)، في دور لا يشبه أي دور لها في السابق، إذ تجرأت ودخلت عالم العصابات بشكل رث، وعلى عينها علامة أبدية نتيجة زبون رفضته في السابق فانتقم منها، لتصبح بعدها المرأة التي يهابها الجميع، وتؤكد بأنها قادرة على تقديم كل الشخصيات، فهي ممثلة خاصة فعلاً.

كل شخصية ظهرت في العمل ولو بمشهد بسيط، لم يكن حضورها عابراً، بل مكملاً ومؤثراً ومفسراً، وهذا بحد ذاته مدعاة للإعجاب بإدارة الممثل من قبل غندور، وهنا نتحدث عن عدد كبير من وجوه حضرت واختفت واستمرت.

التعليق الصوتي مع كل عنوان يسبق نقلةً في الفيلم. يرتبط ببوح الفوضى المقصودة وغير المقصودة في هذه الحارة الضيقة. عملياً هي ليست فوضى، بل كشف كامل لمعنى التناقض.

الفيلم إبراز لقدرة المخرج وأسلوبه، فمن سيخرج منه سيعلق في رأسه اسم باسل غندور، أكثر من أسماء الممثلين فيه، على الرغم من الأداء المميز لغالبية الأسماء، لكن هنا ثمة حالة مميزة تستحق لفت الانتباه إليها، وهي طريقة صنع غندور لفيلمه المظلم بلونه، والمبشّر بمخرج لديه أسلوبه الخاص، والتي ستجعلك تتابع ما سيقدّمه لاحقاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image